كورونا والقطاع الصحي الإيراني: تعدُّد الاستراتيجيات والسيناريوهات المحتملة
حاولت المؤسسات الرسمية الإيرانية اتخاذ عدة خطوات للتصدي للوباء والحيلولة دون تفشيه، وذلك استناداً إلى الطاقة الاستيعابية للنظام الصحي، واستراتيجيات إدارة الأزمة.
ميدل ايست نيوز: تُعاني إيران من تفشي فيروس كورونا منذ نحو شهرين، تحولت خلالها البلاد إلى إحدى أكبر البؤر العالمية للوباء، ومحطة مهمة من محطات انتشاره إقليمياً. وأصبح الفيروس بعد عشرة أيام من انتشاره المحور الرئيس لنشاط الحكومة والمؤسسات الرسمية الإيرانية، لاسيما القطاع الصحي الذي أصبح بعد انتشار المرض المركز الرئيس لعمل الحكومة، والمؤسسات الرسمية؛ إذ أكد الرئيس الإيراني أن مكافحة الوباء تشغل كل طاقة الحكومة، وتشكل المحور الوحيد لاجتماعاتها.
وحاولت المؤسسات الرسمية الإيرانية اتخاذ عدة خطوات للتصدي للوباء والحيلولة دون تفشيه، وذلك استناداً إلى الطاقة الاستيعابية للنظام الصحي، واستراتيجيات إدارة الأزمة. وشهدت هذه الخطوات تطورات عدة خلال الأسابيع الماضية، تبين كلها محاولة تكميل استراتيجية إدارة الأزمة ونضجها، كما تبين وجود تناقضات بين مختلف المؤسسات الرسمية، حالت دون أداء دور حاسم في السيطرة على المرض، والحدّ من انتشاره.
تطور أعداد المصابين
قدمت الجهات الحكومية أرقاماً يومية عن عدد المصابين وحالات الوفاة في محاولة لإثبات الشفافية والمصداقية بعد أن قامت عدة جهات باتهامها بمحاولة إخفاء واقع انتشار المرض. وفي هذا الإطار تُفيد مصادر الحكومة أن عدد المصابين حتى الخامس والعشرين من مارس بلغ 27017 مصاباً بينما بلغت حالات الوفاة جراء الفيروس نحو 2077 حالة، ويعني ذلك أن معدل الإصابات اليومية استقر عند 795 إصابة، بينما استقر معدل الوفيات اليومية عند 61 حالة وفاة.
لكن هذه الأرقام الرسمية لا تمثل الواقع وفق مصادر مختلفة؛ ففي حين يؤكد مدير طوارئ الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية أن التقديرات العلمية تبين أن أهم نقاط الضعف في البرنامج الإيراني لمكافحة فيروس كورونا تتمثل في ضعف المعلومات عن المصابين مبينًا أن الأرقام الواقعية للمصابين والضحايا يمكن أن تبلغ خمسة أضعاف ما تنشره المصادر الحكومية، فإن مصادر برلمانية تؤكد هذا الرأي؛ حيث أشار نائب رئيس البرلمان الإيراني ووزير الصحة في حكومة خاتمي، مسعود بزشكيان، أن أرقام الحكومة عن المصابين لا يمكن أن تكون واقعية، وأن المستشفيات ممتلئة بالمصابين، بينما أشار ممثل مدينة قُم في البرلمان أن عدد الضحايا في مدينة قم نفسها يبلغ خمسة أضعاف العدد الذي تعلن عنه الحكومة، ليصف بعد ذلك نائب مدينة رشت في البرلمان الأرقام الحكومية عن عدد المصابين بالمزحة، مؤكدًا أن الأرقام الحقيقية قد تبلغ أربعة أضعاف ما تعلن عنه الحكومة.
هذه الأرقام التي يؤكدها ما يصدر بين الحين والأخرى عن مصادر حكومية تتناغم مع ما نشرته توقعات ودراسات علمية ونقدية نشرتها الصحافة المستقلة التي أكدت أن الأرقام الصادرة عن الحكومة لا تتناسب مع المنطق العلمي لانتشار الأوبئة، وأن مجموع ما نشرته مصادر صحية يؤكد أرقامًا للمصابين تفوق تلك التي تنشرها الحكومة بشكل يومي.
ويمكن إعادة الاختلاف في الأرقام الرسمية إلى عدة أسباب لا تنحصر في المحاولة الرسمية لتضليل الرأي العام. وأهم الأسباب وردت في حديث مدير طوارئ الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية الذي أعلن أن السبب الأساسي في ذلك هو قلة الإمكانات التي تجعل تحاليل التأكد من الإصابة حكرًا على من يعانون مراحل متقدمة من المرض، وهو ما يتناسب مع ما أكدته مصادر من وفاة الكثيرين جراء المرض دون أن يتم رصد إصابتهم بالفيروس بسبب نقص الإمكانات.
ولم ينحصر الخلاف بين الحكومة والمؤسسات الأخرى على أعداد المصابين والوفيات، وإنما تجاوز ذلك ليشمل القدرة الاستيعابية للمستشفيات الإيرانية. وكان الرئيس الإيراني حسن روحاني قد أعلن أن إيران لا تعاني من أزمة مستشفيات، مؤكدًا أن نحو 60 بالمئة من أسرّة المستشفيات في مدينة مشهد شاغرة، وأن الكثير من المدن الإيرانية تشهد فائضًا في الأسرّة المتخصصة، وأسرة العناية المركزة. وعاد روحاني ليعلن في 26 من مارس أن إيران لا تعاني نقصًا في أسرّة المستشفيات، مؤكدا أن 20 ألف سرير جاهز مستعد لاستقبال المرضى في المستشفيات الإيرانية، منها 13 ألف سرير في المستشفيات، إلى جانب 7 آلاف سرير احتياط للعناية بالمتعافين في فترة الشفاء.
لكن رأي الرئيس روحاني يتعارض مع آراء نواب في البرلمان، ويتناقض مع رأي رجال في حكومته. ففي حين أعلن ممثل مدينة رشت في البرلمان أن مستشفيات محافظة جيلان شمالي إيران لم يعد لديها أي أسرة للعناية بالمرضى، قال نائب آخر في مدينة لنغرود (من نفس المحافظة) أن العشرات من المصابين لقوا مصرعهم في محافظة جيلان نتيجة عدم توفر الأسرّة في المستشفيات التي امتلأت بالمصابين. وعن مدينة مشهد أعلن نائبها في البرلمان أن مستشفيات المدينة لم يعد لديها سرير شاغر مع نهاية مارس. بينما أكد محافظ يزد مركز إيران أن مستشفيات المحافظة لم يعد لديها أي سرير شاغر مع ارتفاع عدد المصابين، وهو ما أكده نائب رئيس البرلمان الإيراني مشيرًا إلى أن عدد المصابين تجاوز سعة المستشفيات لعلاج المرضى.
البنية التحتية في قطاع الصحة
يتضمن القطاع الصحي في إيران نحو 140859 سريرًا موزعة على 982 مستشفى في مختلف المدن الإيرانية، منها 860 مستشفى عامًا و32 مستشفى للنساء و38 مستشفى للأمراض النفسية و19 مستشفى للأطفال إلى جانب مستشفيات مختصة بشؤون أخرى.
وتشكل مستشفيات القطاع الحكومي نحو 64 بالمائة من مجموع المستشفيات بنحو 624 مستشفى، بينما تشكل مستشفيات القطاع الخاص 18 بالمائة (174 مستشفى)، ومستشفيات منظمة التأمين الاجتماعي 8 بالمائة (75 مستشفى)، والمستشفيات العسكرية 6 بالمائة (57 مستشفى) والمستشفيات الخيرية 4 بالمائة (38 مستشفى).
أما على صعيد الأسرّة فإن مستشفيات القطاع الحكومي تتضمن 97205 سريرًا (71 بالمائة من مجموع الأسرّة)، فيما تتضمن مستشفيات القطاع الخاص 17925 سريرًا (13 بالمائة)، ومستشفيات منظمة التأمين الاجتماعي 11570 سريرًا (9 بالمائة)، ومستشفيات القوات المسلحة 5970 سريرًا (4 بالمائة) والمستشفيات الخيرية 4564 سريرًا (3 بالمائة).
وعلى صعيد العناية المركزة، وبينما يؤكد رئيس اتحاد أطباء العناية المركزة أن عدد أسرة العناية المركزة في إيران تبلغ 7200 سرير، فإن المدير العام لإدارة المستشفيات في وزارة الصحة أعلن في أغسطس 2019 أن عدد الأسرة في هذا القطاع تبلغ 5820 سريرًا، منها 3535 سريرًا في المستشفيات الحكومية، و1100 سرير في مستشفيات القطاع الخاص، و405 سريرًا في مستشفيات منظمة التأمين الصحي.
ووفقاً لهذه المعطيات فإن النظام الصحي في إيران يتضمن سريرًا واحدًا بإزاء كل 590 شخصًا، كما يتضمن سريرًا واحدًا للعناية المركزة، بإزاء كل 14260 شخصًا (أو سريرًا واحداً بإزاء كل 11530 شخصًا لو أخذنا بالحسبان أرقام رئيس اتحاد أطباء العناية المركزة).
أما على صعيد الموارد البشرية، فإن لدى إيران نحو 130616 طبيبًا (بمعدل طبيب واحد لكل 636 مواطناً)؛ حيث هناك 85853 طبيبًا عامًا (طبيب واحد بإزاء 967 مواطنًا) و44763 طبيبًا أخصائيًا (طبيب واحد بإزاء 1854 مواطنًا) بينما يعمل ضمن النظام الصحي الإيراني نحو 160 ألف ممرض، وفق أمين عام نقابة الممرضين (ممرض واحد بإزاء كل 518 شخصًا).
وليس واضحًا عدد الأسرة التي خصصها النظام الصحي في إيران للمصابين بفيروس كورونا؛ إذ بينما تشير أرقام صادرة عن الحكومة إلى أن المستشفيات الحكومية خصصت 10 بالمائة من أسرتها للمصابين بالفيروس، إلا أن النسبة تبلغ 60 بالمائة حين يتعلق الأمر بأسرة العناية المركزة، وفق مصادر صحية.
ورغم أن الأرقام الرسمية لا تشير بعد إلى احتدام الأزمة في المستشفيات الإيرانية حتى الآن، لأن عدد المصابين بلغ في السادس والعشرين من مارس 2020 نحو 29 ألف مصاب، منهم نحو 10 آلاف شفوا من المرض؛ مما يعني أننا بإزاء مجموع مصابين لا يتجاوز 19 ألف مصاب حتى الآن، بما لا يتجاوز 13.5 بالمائة من الطاقة الاستيعابية للمرض إلّا أن الأمر في حالتين لا يبشر بخير:
- إذا أخذنا بعين الاعتبار أسوأ التقديرات التي تؤكد إصابة خمسة أضعاف الأرقام الرسمية بالفيروس، فإن ذلك يعني أننا بإزاء حوالي 95 ألف حالة إصابة؛ مما يشكل نحو 67 بالمائة من الطاقة الاستيعابية للمستشفيات، وهو ما يعني أزمة حقيقية للنظام الصحي. ولا يمكن التأكد مما إذا كان عدد المصابين قريب من ذلك، إلا أن المواقف التي يبديها مسؤولون في النظام الصحي تُبين أن الأرقام فوق المستوى الرسمي التي تعلنه السلطات؛ مما يتجلى في ازدحام المستشفيات في مختلف المدن الإيرانية، وفي خطوات وزارة الصحة في استدعاء الكوادر المتقاعدة، والقوى المتطوعة للتصدي للأزمة.
- حتى لو اعتبرنا أن الأرقام الرسمية التي تعلن عنها وزارة الصحة عن عدد المصابين صحيحةً، فإننا وفق هذه الأرقام بإزاء مضاعفة عدد المصابين كل ستة أيام؛ مما يعني أن إيران ستكون بإزاء 60 ألف مصاب في منتصف أبريل؛ ما يعني بدوره 42.8 بالمائة من الطاقة الاستيعابية للمستشفيات الإيرانية.
وعلى الرغم من المواقف الرسمية التي تحاول تهدئة الوضع، والتأكيد على أن النظام الصحي والمستشفيات الإيرانية لا تواجه أزمةً بعد، إلّا أن إجمالي الخطوات التي قامت بها المؤسسات الرسمية تبين أنها استشعرت الخطر، وحاولت التصدي له عبر خطوات متنوعة، كما يلي:
- حاولت المؤسسات الرسمية رفع الطاقة الاستيعابية للمستشفيات عبر إنشاء مستشفيات ميدانية، وعبر الاستعانة بطاقة المستشفيات العسكرية. وفي حين أكد الجيش الإيراني وضع 60 بالمائة من طاقة مستشفياته في مختلف المدن الإيرانية تحت تصرف لجنة مكافحة فيروس كورونا مؤكدا أن 1600 سرير في مستشفيات الجيش تستقبل مرضى كورونا، فإن الحرس الثوري أعلن أنه يعمل على وضع 60 بالمائة من طاقة 24 مستشفى إلى جانب 13 مستشفى متنقل له تحت تصرف اللجنة، بينما توجهت الحكومة نحو إنشاء مستشفيات ميدانية في كل من قم (50 سريرًا) ورشت (74 سريرًا) مستعينة بالقوات العسكرية.
- عمدت مؤسسات النظام إلى إنشاء مستشفيات نقاهة لمكوث المرضى بعد تلقيهم العلاج الأولي في المستشفيات لتخفيف الضغط. وفي هذا الإطار قام الجيش الإيراني بإنشاء مستشفى نقاهة في العاصمة يسع ألفي مريض، بينما تحدث قائد الحرس الثوري عن استعداد الحرس لإضافة 2000 حتى 5000 سرير في مستشفيات النقاهة. كل ذلك إلى جانب استعداد وزارة الصحة لتزويد صالات رياضية بأسرّة لجعلها مستشفيات نقاهة، وهو ما جعل روحاني يتحدث عن 4000 سرير نقاهة جاهز إلى جانب استعدادات لعشرين ألف سرير آخر. ورغم أن بعض هذه الأرقام يمكن وضعها في خانة الدعاية الرسمية دون أن تعني استعدادا على مستوى الواقع، إلا أنها تظهر توجه السلطات نحو إنشاء استراتيجية لعزل العلاج عن النقاهة (إضافة إلى التأكيد على العزل المنزلي) ليوفر ذلك لها طاقة جديدة لاستقبال الموجات الجديدة من المرضى في المستشفيات.
- اتخذت الحكومة والمؤسسات المعنية الأخرى خطوات لتفادي نقص الكوادر الصحية؛ وفي حين استدعت الحكومة متقاعدي النظام الصحي إلى العمل في المستشفيات مقابل راتب إضافي لتفادي المشكلة، فإن القوات المسلحة توجهت نحو استدعاء المتخرجين في فروع الطب والتمريض للخدمة العسكرية (رغم توقف استدعاء المجندين الجدد من الفروع الأخرى بداعي انتشار الفيروس) لإيفادهم إلى المدن المتأزمة إلى جانب التأكيد على قوات الباسیج في برامج الرصد الاجتماعي والتعقيم الميداني.
- اتجهت الحكومة نحو رصد أرقام جديدة من الميزانية للتصدي للمرض، ودعم الكادر الطبي والقطاع الصحي. وفي هذا الإطار رصدت الحكومة 530 مليار تومان لدعم لجنة مكافحة كورونا و980 مليار تومان لدعم المستشفيات الحكومية و200 مليار تومان لدفع زيادة رواتب الكادر الطبي و300 مليار تومان لشركات المقاولة العاملة في النظام الصحي وصرف ديونها إلى جانب 1600 مليار تومان لمؤسسات التأمين الصحي ليكون المجموع نحو 3610 مليارات تومان. كل ذلك إضافة إلى جزء كبير من مليار دولار طالب بها روحاني من صندوق الادخار الوطني لدعم القطاع الصحي في التصدي لفيروس كورونا.
استراتيجيات التعامل مع كورونا: فوضى في إدارة الأزمة وازدواجية مراكز القرار
من خلال متابعة أهم القرارات التي اتخذتها المؤسسات الرسمية في معالجتها لأزمة انتشار فيروس كورونا يمكن رؤية الإطار العام لهذه القرارات، والمعالم الأولية لاستراتيجيات التصدي للفيروس ونقاط الضعف في هذه الاستراتيجيات:
1. من الفوضى إلى الأزمة؛ معالم توحيد الجهود لإدارة الوضع:
في المرحلة الأولى من التصدي للمرض بدَت الجهود الرسمية مبعثرة. وكان بالإمكان مشاهدة عدم الانتظام في تلك الفترة (التي يمكن أن نطلق عليها فترة الفوضى) في القرارات التي اُتُّخِذت دون أن تُطبّق (مثل قرار الرصد الصحي عبر 300 ألف من قوات البسيج، وقرار العزل الاجتماعي الذي اتخذته قيادة أركان القوات المسلحة دون أن يُطبَّق). وتعددت مراكز تقديم المعلومات (كانت الأرقام تصدر من جهات محلية، وأخرى مركزية، وتتعارضان فيما بينهما). واتسم أداء اللجنة الحكومية المكلفة بمكافحة الفيروس بالضعف عمومًا؛ مما أدى إلى نقد برلماني لاذع للحكومة، وبُذلت جهودٌ لتغيير تركيبة لجنة مكافحة كورونا، بحيث يرأسها الرئيس روحاني بديلا عن وزير الصحة، أو تغيير الجهة المكلفة بمكافحة الفيروس، إلى أن صدر تكليف خامنئي لقيادة هيئة الأركان المسلحة بالإشراف على الجهود الوطنية لمكافحة انتشار الفيروس.
وفي مرحلة ثانية، استطاعت المؤسسات الرسمية أن تتغلب على هذه الفوضى، وتقدم ملامح استراتيجية عامة لمكافحة المرض. وأصبح ذلك ممكنا من خلال تسليم مهام لجنة مكافحة الفيروس إلى الرئيس الإيراني نفسه، وخضوع جهود اللجان العسكرية إلى إشراف الحكومة، وتوحيد القنوات الخبرية؛ مما جعلنا قادرين على الحديث عن تجاوز مرحلة الفوضى إلى مرحلة إدارة الأزمة. لكنّ هذا الانتظام ظلّ انتظاما إداريا فقط حتى اللحظة، ولم يترك أثرا ملحوظا على منحنيات انتشار الفيروس على صعيد الواقع.
2. ازدواجية مراكز الإدارة؛ التحدي الأهم:
تبين ملاحظة الخطوات الرسمية التي اتخذتها المؤسسات المعنية لمكافحة الفيروس منذ اليوم الأول من تفشيه في مدينة قم أن ثمة ازدواجية عانت منها مجموعة القرارات على هذا الصعيد، وذلك على النحو الآتي:
- منذ بدء الأزمة في مدينة قم في العشرين من فبراير الماضي دعت جهات مختلفة من بينها نواب في البرلمان إلى فرض حجر صحي على المدينة لمنع تفشي الفيروس. ورغم مختلف الجهود، رفضت الحكومة فرض مثل هذا الحجر، ليتبين فيما بعد أن الجهة التي منعت فرض الحجر كانت تتمثل في بيوت المراجع الشيعية، وقيادات من الحرس الثوري، وتسربت أنباء عن استقالة وزير الصحة احتجاجا على منع فرض الحجر الصحي على المدينة.
- خلال تفشي الفيروس في المحافظات الشمالية، طالبت جهات برلمانية وصحافية بفرض حجر صحي على المحافظتين الشماليتين، إضافة إلى مدينة قم، لتأتي بعدها مطالبة بفرض الحجر الصحي على جميع المحافظات. ورغم أن الحكومة عارضت ذلك، بداعي التأثير السلبي للحجر الصحي على الاقتصاد الإيراني، إلا أن الأنباء أظهرت فيما بعد أن مراكز القرار التي عارضت فرض الحجر الصحي لم تكن من داخل الحكومة، وإنما من المجلس الأعلى للأمن القومي الذي رفض تطبيق الحجر الصحي لأسباب أمنية وفق مساعد وزير الصحة.
- في حين كانت تؤكد الحكومة على لسان الرئيس روحاني على ضرورة مواصلة الحياة العادية، فإن محافظي 13 محافظة من أصل 31 محافظة إيرانية، اتخذوا قرارات محلية لتقييد الحياة والحركة العامة، وفرضوا العزل على محافظاتهم؛ مما يدل على ازدواجية القرار داخل التيار الحكومي إزاء مسألة الحجر الصحي.
- عندما طلبت جهات داخل الحكومة على لسان محافظ البنك المركزي عبد الناصر همتي، ثم على لسان وزير الخارجية محمد جواد ظريف، من صندوق النقد الدولي تقديم قرض بقيمة 5 مليارات دولار، رفضت جهات من داخل البرلمان، ومن داخل “مجمع تشخيص مصلحة النظام” إلى جانب جهات في الحرس الثوري، ذلك الطلب، مؤكدة أن الاستقراض من صندوق النقد الدولي خذلان لا يمكن أن يقبل به النظام.
- استمرت الخلافات بين الحكومة ومؤسسات الثورة في قضية المساعدات الدولية؛ ففي حين قامت مؤسسات ثورية بطرد الفريق الطبي التابع لمنظمة الصحة العالمية، وفي حين رفض المرشد الأعلى للثورة المساعدات الغربية من منطلق احتمال كونها خطوة ضمن مؤامرة دولية، فإن الرئيس الإيراني أعلن أن سياسة الحكومة الإيرانية تتبنى قبول المساعدات من كل الجهات التي تريد مساعدة إيران.
وبعيداً عن التفاصيل يمكن اعتبار جميع تلك الظواهر تجليات لازدواجية عميقة داخل الهياكل السياسية في إيران بين مؤسسات الحكومة والمؤسسات الثورية، وإذا كان قرار القائد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، بوضع لجنة لمكافحة الفيروس في يد قيادة أركان القوات المسلحة هو القرار الأهم ضمن هذه الازدواجية (حيث تم تفسيره بوصفه خطوة في سبيل تهميش الحكومة، ومنح الدور المركزي للقوات العسكرية التي تعمل تحت إشراف خامنئي) فإنه لم يكن القرار الوحيد ضمن هذه السلسلة.
الاستنتاجات العامة
- على الرغم من المحاولات التي تبذلها الجهات الرسمية الإيرانية لتنظيم جهود مكافحة انتشار فيروس كورونا، إلا أن النظام لا يزال بعيدًا عما يمكن تسميته “استراتيجية عامة”. ولا تزال محاولات مكافحة الوباء مُبعثَرة، وبعيدة عن الأداء الجيد. ومن أهم الأسباب التي تحول دون الوصول إلى هذه الاستراتيجية، هو التذبذب الواضح في موقف الحكومة، متمثلاً في الرئيس روحاني، إضافة إلى أسباب أخرى.
- تُقدِّم الحكومة أرقاماً رسمية حول أعداد المصابين وحالات الوفاة بشكل يومي. وعلى الرغم من ارتفاع هذه الأرقام بشكل مطّرد، إلا أنه من المستبعد جدّاً أن تكون هذه الأرقام واقعية؛ فهي تتعارض والمعطيات الواقعية، والدراسات العلمية، وملاحظات المراكز الدولية. ومهما كانت أسباب التكتم الرسمي على الأرقام الحقيقية، فإن عدم الشفافية الرسمية إزاء حجم المشكلة يمكن اعتباره واحدا من أهم العقبات التي تحول دون إدارة الأزمة، واحتوائها حسب مدير طوارئ الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية.
- تُظهِرُ دراسة البنية التحتية، وعدد الأسرة، وأعداد الأطباء، في القطاع الصحي الإيراني، بأن الخطوات الرسمية في فرض قيود على الحركة، ووضع برامج للحجر الصحي الجزئي، تستطيع تأجيل الأزمة عدة أسابيع وأكثر، إذا تم تطبيقها بشكل قوي وفي حال استمرارها، كما أنها تستطيع أن تمنح القطاع الصحي مهلة لمعالجة الموقف. لكن هذه البنية التحتية لن تكون قادرة على الصمود في حالتين:
- في حال كانت أعداد المصابين أكبر بكثير مما تعلن عنه الحكومة، بحيث تتقارب مع ما تقوله الجهات المستقلة، والجهات الدولية (خمسة أضعاف العدد الرسمي)؛ ما يعني أن إيران ستكون أمام بلوغ 150 ألف مصاب في غضون أسبوع حتى أسبوعين.
- لن يكون القطاع الصحي قادرًا على الصمود في حال استمر انتشار الوباء عدة أشهر، حتى ضمن وتيرة الإصابات المعترف بها رسميًّا؛ إذ يُفترض وفق المنحنى الرسمي للانتشار أن يبلغ عدد الإصابات بين 120 و150 ألف مصاب في غضون 45 يومًا؛ ما يعني أن أعداد المصابين سوف تتعادل مع أعداد الممرضين.
- لا يزال بإمكان الحكومة المناورة من خلال تطبيق استراتيجية تفريغ الضغط على المستشفيات، وخفض فترة العلاج من خلال إدخال المرضى إلى مستشفيات النقاهة، ومواصلة تطبيق برامج العزل والحجر، بما يخفض وتيرة الانتشار، ويمنح القطاع الصحي فرصةً للصمود في وجه الأزمة.
- يبقى صمود القطاع الصحي رهن باستمرار تقديم الدعم اللوجستي له؛ وإذا كانت الجهات المعنية بمكافحة الأزمة استطاعت تجاوز مشكلة شح الإمكانات الصحية للكادر الطبي من خلال التحكم بالأسواق، ومراقبة تداول السلع الصحية من جهة، ومن خلال الاستعانة بالمساعدات التي قدمتها بعض البلدان (منها مساعدات يابانية بقيمة 23 مليون دولار، ومساعدات أوروبية بقيمة 21 مليون دولار، ومساعدات كويتية بقيمة 10 ملايين دولار، إلى جانب مساعدات غير نقدية من الصين والإمارات وقطر وروسيا) فإن استمرارها رهن باستمرار الدعم الحكومي لقطاع الصحة ورهن بمساعدات دولية إضافية، بحيث:
- في إطار استمرار الدعم الحكومي، قدمت الحكومة إلى الآن 3610 مليار تومان للقطاع الصحي والتأمين، كما أنها أصدرت تعليمات بصرف 3833 مليار تومان من الدعم الإضافي للقطاع؛ مما يرفع الدعم الحكومي للقطاع إلى 7443 مليار تومان (ما يقارب 500 مليون دولار). لكن القطاع يحتاج إلى مزيد من الدعم للصمود بوجه ضغوط الفيروس، وهو أمرٌ مستبعد في ظل الأزمة المالية التي تعيشها الحكومة.
- دفعت الأزمة هذه الحكومة باتجاه مطالبة القائد الأعلى بتقديم مليار دولار من مدخرات صندوق الادخار القومي، كما دفعتها باتجاه مطالبة صندوق النقد الدولي بتقديم قرض بخمسة مليارات دولار في إطار دعم الحكومة الإيرانية بوجه الفيروس المتفشي.
- ربما ستكون المساعدات الدولية هي الملجأ الوحيد لإيران في ضمان صمود القطاع الصحي بوجه المرض، لكن فرصة حصول الحكومة على مساعدات دولية مؤثرة، تبدو بعيدة في ظل عدة نقاط منها:
- نظام العقوبات يحول دون حصول إيران على مثل هذه المساعدات، إلا إذا حدث تغيير في موقف الإدارة الأمريكية (وهو مستبعد في ظل المواقف الراهنة) أو إجماع دولي ضد نظام العقوبات (وهذا أيضًا مستبعد).
- يشكل التزام المؤسسات الثورية، والقائد الأعلى للثورة، بمواقفهم المتشددة حيال استقبال المساعدات من الجهات الدولية، عائقًا آخر في طريق هذه المساعدات؛ ويمكن رؤية تجليات هذا التشدد في مواقفهم إزاء مساعدات منظمة الصحة العالمية.
- يمثّل عدم الشفافية في صرف المساعدات سببا آخر يمنع الحصول عليها من الجهات الدولية خصوصا في ظل الموقف المتشدد إزاء تواجد المنظمات الدولية على الأراضي الإيرانية.
- تبقى ازدواجية المؤسسات الحكومية والمؤسسات الثورية (والتي يمكن رؤية تجليات واضحة لها في قرار تكليف مسؤولية مكافحة الفيروس للجنة عسكرية من جهة، ومعارضة الحكومة للقرار مؤكدة أن مكافحة الوباء يجب أن تمر عبر قنواتها) عقبة أساسية دون الحصول على نتيجة لافتة في مكافحة المرض. ودون تجاوز هذه الثنائية (حيث من المستبعد تجاوزها) فإنه من الصعب جدا انتظار تطور في معالجة الأزمة بشكل فعّال ومثمر.
- يبقى صمود النظام الصحي الإيراني أمام الفيروس رهن بعدة أسباب؛ منها مدى إصرار الجهات الرسمية على تقديم الدعم الاقتصادي والبشري وتوفير الإمكانات لهذا القطاع؛ وتوحيد الصفوف في إدارة الأزمة، وتطبيق عدة خيارات من الحجر الصحي لخفض أعداد المصابين. لكن مع ذلك، فإن ما يمكن أن نطلق عليه “عتبة الصمود” تأخذ بعين الاعتبار عدة عناصر أهمها عدد المصابين الذين يدخلون المستشفيات التي قال الرئيس الإيراني اليوم إن فيها 20 ألف سرير شاغر فقط.
السيناريوهات
منطلق السيناريوهات: تنطلق السيناريوهات الثلاث من منطلق قبول الأرقام الصادرة عن المؤسسات الرسمية حول عدد الإصابات والطاقة الاستيعابية للمستشفيات. أما إذا وضعنا كلا من هذين موضع الشك فإن ذلك يعني انهيار النظام الصحي الإيراني بشكل أسرع. كما تنطلق كل السيناريوهات من افتراض أن وتيرة انتشار المرض هي أيضًا وفق المنحنى الرسمي، وافتراض تمكُّن الحكومة من تخصيص 50 بالمائة من الطاقة الاستيعابية للمستشفيات لمواجهة الوباء، مع أخذ تأثير العامل الزمني بعين الاعتبار (حيث يمكن اعتبار الصيف نقطة التحرُّر من عبء المرض) إلى جانب افتراض صمود القطاع الصحي اقتصاديا، خصوصا في ظل التزام الحكومة بدفع كل تكاليف العلاج للمرضى (مما يحملها عبئاً قد لا تستطيع تحمله في ظل الضغوط الاقتصادية التي ترضخ لها، إلا إذا افترضنا حصولها على مساعدات دولية، أو لجوئها إلى مدخرات صندوق الادخار الوطني).
السيناريو الأول: إخفاق محاولات النظام لاحتواء الفيروس، واستمرار وتيرة الإصابات. ينطلق هذا السيناريو من المعطيات الرسمية، ويفترض أن تستمر وتيرة الإصابة بنفس النسبة من الارتفاع (وهي نسبة تقدرها مصادر علمية بنحو 10 بالمائة)، ووفق هذا السيناريو الذي يفترض ألا تنجح الجهات الرسمية بتطبيق برامجها للحجر الصحي، وخفض وتيرة الإصابة، فإن أرقام المصابين ستتضاعف في كل أسبوع لتبلغ نحو 81 ألف مصاب بعد أسبوعين، يشكلون نحو 57.5 بالمائة من طاقة المستشفيات. كما سيبلغ عدد المرضى المحتاجين إلى أسرّة عناية صحية 4860 مريضًا (إذا أخذنا بعين الاعتبار حديث المختصين عن حاجة 6 في المئة من المرضى إلى أسرّة عناية صحية). ويعني هذا السيناريو هذا أن النظام الصحي في إيران سينهار في غضون أقل من شهر واحد.
السيناريو الثاني: النجاح النسبي في خفض وتيرة انتشار الفيروس. ينطلق هذا السيناريو من نفس المعطيات الرسمية، مُفترضاً تمكُّن مخططات الجهات الرسمية من الحيلولة دون استمرار وتيرة الارتفاع (10 بالمائة)؛ مما يعني احتمال استمرار الإصابات اليومية عند هذا العدد (2000 إصابة يومية تقريباً). ويعني ذلك أن الفيروس يستغرق نحو 25 يوماً لبلوغ نصف الطاقة الاستيعابية للمستشفيات. السيناريو الذي يرد ذكره في حديث بعض مدراء وزارة الصحة لا يتصور انتهاء الأزمة، ولكن يتصور أن يستغرق بلوغ عتبة الاحتمال فترة أطول (حوالي شهرين) ينهار بعهدها النظام الصحي في حال لم تجد الحكومة حلا للأزمة.
السيناريو الثالث: نجاح النظام الإيراني في احتواء الفيروس. هو السيناريو الأكثر تفاؤلاً؛ إذ يتصور أن تنجح الحكومة في احتواء الأزمة من خلال خفض عدد المصابين أثر تطبيق برامج العزل المنزلي والحجر الصحي (بما يعني انخفاض عدد المصابين إلى نصف ما هو عليه الآن على أقل تقدير) وتطبيق برامج بديلة لمستشفيات النقاهة، والعناية المنزلية، لتخفيف الضغط على النظام الصحي. وإذا استطاعت الحكومة القيام بالخطوتين، فإن السيناريو يتصور ألا يبلغ الفيروس ذروته إلا في الصيف، حيث تنخفض نسبة شغل الأسرة في المستشفيات وتنخفض حالات الإصابة بسبب الحرارة. ولكن هذا السيناريو وإلى جانب الإفراط في التفاؤل بنجاح البرامج الرسمية لخفض الإصابة بالفيروس يفترض كذلك أن يصمد النظام الصحي الإيراني بوجه الضغوط الاقتصادية الناجمة عن عدة أسباب منها العقوبات والركود الاقتصادي الناجم عن تفشي كورونا.