الإتجاه العربي شرقاً أم الإتجاه الصيني عربيا؟
العلاقات العربية - الصينية كانت قد بدأت بالتشكّل والتوسّع باضطراد منذ سبعينيات القرن الماضي، سواء على المستوى الاقتصادي أو الثقافي أو الدبلوماسي.
ميدل ايست نيوز: كثُر الحديث في الأونة الأخيرة في عدد من الدول العربية عن “التوجّه شرقاً” اقتصادياً وثقافياً، أي إلى الصين، وذلك بسبب عقوبات أميركية وأوروبية على لبنان وسوريا، أو لحاجات التنمية وفتح أسواق جديدة لدول مثل مصر والجزائر والمغرب والعراق والخليج العربي. وقد بدا الأمر بالنسبة إلى البعض كم لو أن “الاتجاه شرقاً” هو ضرب من خيال، على أساس أن الصين الشعبية ليست “جمعية خيرية”، أو لأن الاقتصاد العالمي كله مترابط ببعضه بعضاً ولا يمكن استبدال “الغرب” بالشرق بالقطيعة.
أما للبعض الآخر فقد كانت الفكرة عبارة عن فتح أسواق جديدة وتوسيع العلاقات الاقتصادية العربية مع العالم. ولكن في كلتا الحالتين غفل كلّ المنظّرين حول “الاتجاه شرقاً”، عن نقطة أساسية وهي أن الصين بنفسها تتجه نحو العالم العربي كما تفعل نحو العالم كله، عبر مبادرة “الحزام والطريق” التي تعيد الاعتبار لطريق الحرير التاريخي وعبر اتفاقات تنموية كثيرة يجري تنفيذها على قدم وساق.
أما الأمر الثاني الذي غفل عنه الغافلون فهو أن العلاقات العربية – الصينية كانت قد بدأت بالتشكّل والتوسّع باضطراد منذ سبعينيات القرن الماضي، سواء على المستوى الاقتصادي أو الثقافي أو الدبلوماسي. وقد قامت بين دول عربية كثيرة والصين اتفاقات تجارية وتنموية وإعمارية كثيرة، بعضها لا يزال قيد التنفيذ. فالاتجاه شرقاً ليس قراراً آنياً وسياسياً صرفاً ينتظر الحكومات العربية لاتخاذه، بل كانت الصين قد انطلقت بتطبيقه هي نفسها عبر الانطلاق نحونا.
أسس السياسة الخارجية الصينية
ويسمي الصينيون سياستهم الخارجية “مبدأ التفاعل في العلاقات الدولية”. ولطالما برز طريقا الحرير البري والبحري، اللذان ربطا الصين الجنوبية مع العالم العربي والحضارة الإسلامية برباط وثيق.
وتقوم الصين حالياً بإعادة الاعتبار لطريق الحرير التاريخي، لذا أسّست “بنك التنمية الآسيوي”، وهو بنك مموّل بنسبة كبيرة من الصين، ولمصلحة البنية الأساسية في الدول التي يمر بها طريق الحرير.
والسياسة الخارجية الصينية تقوم على أساس نظريات مختلفة أولها نظرية التناغم الدولي (International Harmony) التي أطلقها الرئيس السابق هو جينتاو، ثم نظريات ومبادرات الرئيس الحالي شي جينبينغ، لاستغلال الموارد الطبيعية في كثير من دول العالم، ومنها العربية والأفريقية لمصلحة الجميع، في إطار مفهوم الكسب للجميع (Win-Win Theory)، ونظرية “تعدد مراكز القوى الدولية” و”التعاون السلمي”، ومبادرة طريق الحرير البري والبحري التي تقوم على تنفيذها منذ عقد، والتي قد يحتاج تحقيقها إلى عقود مقبلة.
العلاقات الصينية – العربية من وجهة نظر صينية
في أحد تقاريره الحديثة، أورد التلفزيون الرسمي الصيني الناطق باللغة العربية، وصفاً للعلاقات بين الصين والدول العربية خلال الأعوام القليلة الماضية، وجاء فيه أن تلك الدول تقف في مفترق طرق للتنمية في تاريخها، لذا، يتسم التعاون الإستراتيجي بين الصين والدول العربية بأهمية خاصة و”محتويات متزايدة”.
وبما أنه ليس بين الطرفين عداوات تاريخية، بل يتمتعان بصداقة وأساس جيد للتعاون، فإن الصين كأكبر دولة نامية والدول العربية كمجموعة مهمة من الدول النامية، تعمل على تبادل خبرات التنمية وتعزيز التعاون في تحقيق التنمية المشتركة.
وفي دراسة أخرى صادرة عن أحد المراكز البحثية الرسمية في بكين، يتم تعداد مجالات التعاون الصيني – العربي الواسعة، خصوصاً في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، لكن هذه المرة بأرقام وإحصاءات محددة صدرت في العام 2019.
فتقول الدراسة إن الصين وقعّت اتفاقيات التعاون حول مبادرة “الحزام والطريق” مع 18 دولة عربية، وشاركت تسع دول عربية في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية كأعضاء مؤسسين. في حين، يعمّق الطرفان التعاون العملي في مجالات النفط والغاز والطاقة الكهربائية والطاقة النووية والطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة، فعقد الجانبان في سبتمبر (أيلول) 2018، الدورة السادسة لمؤتمر التعاون الصيني – العربي في مجال الطاقة، تحت شعار “مبادرة الحزام والطريق وفرص استثمارية واعدة”، في القاهرة بمصر.
ووقّعت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية مذكرة تفاهم مع منظمة التعاون العالمي لتطوير الطاقة في الصين (GEIDCO) خلال هذا المؤتمر.
ودائماً من وجهة النظر الصينية المحدّدة والعلمية والتي تتجنّب “الطرق” العربية، التي تعتمد العواطف في وصف العلاقات (مع الدول وبين الأفراد)، أنه في إطار مشروع “الحزام والطريق” تم بناء المركز الصيني – العربي لتبادل التكنولوجيا ونقلها، وتأسيس ثمانية فروع له، وإنشاء “منصة خدمات المعلومات” المتكاملة الصينية العربية لنقل التكنولوجيا.
وتعاونت بكين مع الجزائر لبناء ميناء شحن جديد، وقامت المؤسسات الصينية ببناء مشروع السكك الحديد لمدينة العاشر من رمضان في مصر ومشروع جسر محمد السادس في المغرب ومشروع محطة “العطارات” لتوليد الكهرباء في الأردن.
ثم تخلص الدراسة إلى أرقام محددة وواضحة، وهي أنه عندما تأسس منتدى التعاون الصيني – العربي في العام 2014، كان حجم التبادل التجاري يقارب 30 مليار دولار أميركي فقط، وازداد إلى 244.3 مليار دولار أميركي في العام 2018.
ثم تكمل الدراسة تعداد المشاريع في مختلف الدول العربية، فيظهر للعلن أن العلاقات التجارية والعمرانية وفي مجال الطاقة، تسير على خير ما يرام بين الصين والعالم العربي، وأن مقولة التوجّه شرقاً ليست جديدة بأي حال من الأحوال.
“أطلب العلم ولو في الصين”
ويعرف الصينيون جيداً أن العامل الثقافي لا بد أن يترافق مع التنوّع الاقتصادي. فاللغة وسيلة رئيسة لتحسين التواصل، ثم معرفة العادات والتقاليد للمجتمعات التي تتبادل الخدمات الاقتصادية هو أمر لا بد منه لتسهيل تلك المبادلات. لذا لا يغفل الصينيون عن المبادرة إلى التعرّف على الثقافة العربية عموماً، وكذلك إلى نشر الثقافة والمفاهيم الصينية في العلاقات بين الدول والأفراد.
ففي العام 1987، تم تشكيل “جمعية بحوث الأدب العربي” الصينية، وتمت ترجمة الكثير من الكتب الكلاسيكية الصينية إلى العربية، مثل “طاو تي تشينغ” و”حلم القصور الحمراء” و”قصص الممالك الثلاث” و”الزهرات الذابلات الثلاث”، بهدف إفساح المجال أمام المثقفين العرب لمعرفة روح الأمة الصينية.
في الناحية المقابلة أصبحت الروايات، التي رشحت للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، موضوعاً مهماً لرسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات الصينية. وقام عدد من دور النشر العربية بمعونة وزارات الثقافة والمؤسسات المهتّمة، بترجمة الروايات العربية الحديثة التي تلقي الضوء على حياة الشعوب العربية في الزمن الراهن.