التوجُّه الفرنسي نحو العراق: حماية السيادة مقابل الاستثمارات
الانتخابات الأمريكية المقبلة ستكون متغيراً مهماً في تحديد معالم الدور الفرنسي في العراق.
ميدل ايست نيوز: تُعد زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بغداد في الثاني من شهر سبتمبر الجاري، الأولى له منذ تسنُّمه منصبه عام 2017، لكنها الثالثة لكبار قادة الحكومة الفرنسية منذ تولى مصطفى الكاظمي منصب رئاسة الوزراء في العراق، بعد زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في شهر يوليو الماضي، ووزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلي نهاية أغسطس الماضي إلى العراق؛ كما أنها أول زيارة لمسؤول أجنبي كبير إلى بغداد منذ تولي الكاظمي منصبه في مايو الماضي. وحملت تلك الزيارات دلالات كثيرة واتفاقات ركزت على مستقبل الحرب على الإرهاب، وتطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
زيارة ماكرون
حرص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على لقاء الرئاسات العراقية الثلاث، وكشف خلال مؤتمر مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي عن مجموعة تفاهمات، منها: تفعيل خارطة الطريق للتعاون بين البلدين التي تم توقيعها العام الماضي؛ وتدشين مشروع “دعم سيادة العراق” ورفض التدخلات الخارجية في شؤونه بمساعدة الأمم المتحدة، و”توفيق أوضاع” القوى المسلحة كافة؛ وبحث التعاون العسكري لمواجهة تنظيم “داعش”؛ والمشاركة في عمليات إعمار العراق، وتوفير مصادر الطاقة.
ومن جهته قال الكاظمي إن حكومته تعمل على تطوير العلاقات مع باريس في المجالين الأمني والعسكري، وكشف عن الاستعانة بالشركات الفرنسية لإنشاء مفاعل نووي عراقي سلمي لتوليد الطاقة الكهربائية في العراق بإشراف الأمم المتحدة.
أما الرئيس العراقي برهم صالح فقد شدد بعد لقاء الرئيس الفرنسي “على ضرورة ألا يكون العراق ساحة صراع للآخرين، بل يجب احترام سيادته وعدم التدخل بشؤونه الداخلية”، وأكد أن “بلاده ما زالت بحاجة للدعم من أجل مواجهة الإرهاب والتطرف”، مضيفاً “ما يزال أمامنا تحديات، ونحن بحاجة إلى دعم الأصدقاء لإعادة الإعمار في المناطق المتضررة وتجفيف منابع تمويل الإرهاب”.
وعكست حفاوة الاستقبال للرئيس الفرنسي، التي تضمنت أيضاً مأدبة عشاء حضرها معظم قادة الكتل السياسية، خصوصاً تلك القريبة من طهران، الترحيبَ الإيراني بالدور الفرنسي المزمع توسعته في العراق.
مشروع سيادة العراق
حتى هذه اللحظة لم تتوافر المعلومات عن تفاصيل مشروع أو مبادرة “دعم السيادة”، التي أعلنها الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون خلال زيارته لبغداد، بعكس الورقة المفصلة التي تم الكشف عنها لحلحلة الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية في لبنان. وبحسب بعض المصادر العراقية فإن فكرة المشروع تتركز في منع التدخلات الأجنبية في العراق بمساعدة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وربما تتضمن تقديم مساعدات مالية وعسكرية لمساعدة بغداد في توفير الأمن وحماية الحدود.
وفيما يخص إيران، فان باريس تمتلك علاقات تاريخية جيدة بالنظام السياسي الإيراني، ودار حديث في كواليس اللقاءات التي جرت في بغداد عن حوار فرنسي-إيراني مقبل لبحث الأفكار الفرنسية بهذا الخصوص، لا سيما أن طهران تفضّل النفوذ الفرنسي في العراق بدلاً من النفوذ الأمريكي، ولا تمانع فكرة قيادة باريس للتحالف الدولي لمكافحة الإرهاب في العراق، إلا أن موقف واشنطن غير واضح حتى الآن، وإن كان بعض التقارير الإعلامية يشير إلى أن الرئيس الفرنسي جاء إلى بغداد بعد اتصالات مع الإدارة الأمريكية، التي تبقى غير واضحة في مواقفها بسبب قرب موعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل.
وبحسب ماكرون فإن المبادرة تدعم أيضاً جهود رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي للحفاظ على سيادة العراق.
مكافحة الإرهاب والتدخلات التركية
تشترك فرنسا في التحالف الدولي في العراق الذي تقوده الولايات المتحدة لحرب تنظيم “داعش” منذ عام 2014، وأعلنت في الخامس والعشرين من شهر مايو الماضي سحب المتبقي من قواتها في العراق والبالغ عددها 100 فرد، والتي كانت تقوم بتدريب القوات العراقية، إضافة إلى بعض الموظفين في قواعد عراقية وأمريكية، بسبب أزمة وباء “كورونا” والضغوط التي تعرضت لها بعد قرار البرلمان العراقي بداية العام الجاري بإنهاء دور التحالف الدولي في البلاد.
وفي زيارتها الأخيرة إلى العراق أعلنت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورنس بارلي أن “فرنسا مستعدة للاستمرار ببرامج تدريب القوات العراقية وهي تتكاتف مع العراق للقضاء على الإرهاب”، مشيرة إلى أن بلادها “تدعم إبعاد العراق عن سياسة المحاور”. فيما أعلن وزير الدفاع العراقي جمعة عناد أن الوزارة ستطور العقود المبرمة مع الجانب الفرنسي بشأن الأسلحة المتطورة.
ولعل أهم ما جاء في وزيرة الجيوش الفرنسية هو تأكيد دعم بلادها للعراق تجاه التدخلات العسكرية التركية، في وقت يتصاعد فيه الخلاف بين الاتحاد الأوروبي وأنقرة على خلفية قيام تركيا بالتنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط في المياه القريبة من الجزر اليونانية.
وتُحاول باريس استغلال توتر العلاقة بين بغداد وأنقرة (بسبب استمرار القوات التركية بالتوغل وقصف الأراضي العراقية بحجة ملاحقة عناصر “حزب العمال الكردستاني” التركي المعارض)، للتضييق على الحكومة التركية وإجبارها على الدخول في مفاوضات قد تشمل أيضاً ملفات العراق وليبيا وسوريا.
أما فيما يخص الجانب العراقي، فإن حكومة مصطفى الكاظمي رحبت بأي جهد دولي لمنع العمليات التركية شمالي البلاد، لكنها لن تستعجل إعادة القوات الفرنسية حتى إلى مهام التدريب لسببين مهمين: الأول يتعلق برغبة الكاظمي في تقليل عدد القوات الأجنبية في العراق والتخلص من ضغوط الكتل الشيعية الكبيرة التي تحاول إحراجه كثيراً بهذا الخصوص وتتهمه بالعمالة لواشنطن، كما أن الكاظمي اتفق مع واشنطن على تغيير وصف القوات الأمريكية في العراق خلال الفترة المقبلة، حيث ستكون قوات “تدريب” أو “استشارية” وغير قتالية، وهو لا يريد تعقيد الموقف بإعادة قوات أجنبية أخرى إلا بعد استشارة قادة الكتل البرلمانية الشيعية. والسبب الثاني، أن بغداد لا ترغب في تصعيد الخلاف مع تركيا التي تمتلك القدرة على تخفيض منسوب المياه في نهري دجلة والفرات، والدخول كطرف في الصراع بين أنقرة والاتحاد الأوروبي الذي قد يُحلّ في قريباً من خلال الحوار والجهود الدبلوماسية.
الدور الاقتصادي
تسعى باريس منذ سنوات إلى تحقيق نفوذ اقتصادي كبير في العراق، والحصول على امتيازات استثمارية مهمة في العراق، وقامت بالفعل بدعم مشاريع تتعلق بالمياه والفنون والثقافة غير أن المشاريع الكبيرة لم تكتمل حتى اليوم. ووفقاً لوزير الخارجية الفرنسي فإن حكومته ستطالب بضرورة دعم العراق اقتصاديّاً، والعودة إلى قرارات مؤتمر الكويت المتعلقة بإعادة الإعمار، وتفعيل تلك القرارات لكي تتمكن الدول التي شاركت في المؤتمر من تنفيذ ما وعدت به في هذا الإطار، مشيراً إلى أن بلاده “مستمرة بتقديم الدعم في شتى المجالات، خصوصاً إعادة بناء الاقتصاد العراقي”. ويهدف الوزير الفرنسي من هذا التصريح إلى تفعيل الدور الاقتصادي الفرنسي، خصوصاً في مجال الاستثمار في مجالات الإعمار والإسكان والبنى التحتية في المدن المحررة من تنظيم “داعش”.
ومن أبرز المشاريع التي تسعى باريس إلى إقامتها في العراق:
- قطار “مترو” بغداد المعلق، الذي تم التفاهم بشأنه نهاية العام الماضي.
- إنشاء مفاعل نووي سلمي عراقي، على غرار المفاعل الذي قامت بتوفيره للعراق في سبعينات القرن الماضي.
- الحصول على فرص استثمار في المناطق المحررة من “داعش” تتعلق بمشاريع البنى التحتية.
ومن المرجح أن تسرّع الكتل البرلمانية الشيعية عملية المصادقة على العقود والصفقات مع الجانب الفرنسي، والضغط على حكومة الكاظمي من أجل إبرام المزيد منها؛ لاعتقادها بأن فرنسا خيرُ منافس اقتصادي وأمني للولايات المتحدة في العراق.
توجس سُّني مقابل ترحيب شيعي
يبدو أن القوى السنية تتوجس من المشروع الفرنسي الجديد في العراق، في مقابل الترحيب الشيعي الكبير بما طرحه الرئيس الفرنسي، وعلى سبيل المثال رأى النائب السني ظافر العاني أن “السيادة ليست منحة إنما إرادة وطنية” وشكك في نوايا باريس بهذا الخصوص، فيما قال نائب رئيس الجمهورية السابق طارق الهاشمي إن “سجل فرنسا في العلاقات الدولية يضع المبادرة محل شك”. ولعل قرب الكتل السنية من أنقرة يُفسِّر خشيتها من الدور الفرنسي أكثر من مخاوفها إزاء التقارب الفرنسي مع إيران، ذلك أن غالبية الأطراف السنية الفاعلة في العراق اليوم هي قريبة إما من تركيا أو من قطر، وتحاول التناغم مع المواقف التركية في المناسبات الدولية، ومنها أزمتها الراهنة مع الاتحاد الأوروبي، وهي تعوّل على الدور الأمريكي فحسب.
ويلاحظ أن ماكرون ركز أكثر على التوغل التركي في شمال العراق، حتى في مباحثاته مع رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني، وحاول تجنُّب الحديث عن إيران، حتى لا يُثير حفيظة الأطراف الشيعية المتحمسة لزيارته. وقد ترى باريس – التي ساهمت في تقريب وجهات النظر إبان مشاورات تشريع قانون “الحشد الشعبي” عام 2016، والتي لا تصنِّف “حزب الله” اللبناني منظمة إرهابية وشاركت طهران في تسمية رئيس الوزراء اللبناني مصطفى أديب (والذي اعتذر عن مهمته مؤخراً) – أن حسم ملف الميليشيات الشيعية العراقية ليس أولوية ضمن مبادرة “دعم السيادة” التي أعلنها ماكرون.
الاستنتاجات
تتضح أهمية استثمار الحكومة العراقية للعلاقات الدولية بما يؤمّن المصالح العليا للبلاد، ويعزز سيادة العراق واستقلاله عن المحورين الإيراني والتركي. واقتصادياً، تتطلب مصالح العراق أي دور اقتصادي غربي (أو عربي) خصوصاً في مجالات الطاقة المختلفة، إضافة إلى الدعم العسكري للقوات العراقية في التدريب والتسليح.
ويبقى القول إن الانتخابات الأمريكية المقبلة ستكون متغيراً مهماً في تحديد معالم الدور الفرنسي في العراق وفي مستقبل العراق بصفة عامة؛ فبقاء الرئيس دونالد ترمب في منصبه، على سبيل المثال، قد يسهم – إلى حد كبير – في تشديد خطط الولايات المتحدة تحجيم النفوذ الإيراني، وقد يمنع تركيا من التوغل أكثر في الأراضي العراقية، ويرفض فكرة قيادة فرنسا لجيوش التحالف الدولي في العراق، أما في حال فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن فمن المتوقع أن يركز أكثر على الشؤون الداخلية الأمريكية، وسيسمح بدور أكبر للحلفاء الأوروبيين في العراق، وربما يعود إلى الاتفاق النووي مع إيران مع إجراء تعديلات عليه.