المقاربة الإيرانية لنزاع قراباغ: عوامل خارجية وداخلية متشابكة تحكمها
على الصعيد الرسمي، تتبنى طهران مقاربة الأمم المتحدة ومجموعة "مينسك" تجاه قضية كاراباخ، مؤكدةً على دعمها وحدة الأراضي الأذربيجانية، مع تشديدها على أنّ حلّ القضية "ليس عسكرياً".
عند تناول قضية ناغورنو كاراباخ، يبرز غالباً دور كل من تركيا وروسيا، باعتبارهما طرفين إقليميين داعمين للبلدين المتصارعين؛ فالأولى تقف إلى جانب أذربيجان، والثانية إلى جانب أرمينيا. غير أنّ إيران أيضاً تشكل الطرف الإقليمي الآخر في معادلة الصراع في ناغورنو كاراباخ، المعني بشكل مباشر بالتطورات الساخنة في هذه المنطقة؛ أولاً لكون الدولتين المتصارعتين جارتين لإيران، وثانياً لتفاوت طبيعة العلاقات الإيرانية مع باكو ويريفان وتأثيرات ذلك المحتملة على معادلات الصراع في كاراباخ، وثالثاً لانعكاسات هذا الصراع على الأمن القومي الإيراني، ليس فقط لما يمكن أن يشكله من مخاطر على إيران بسبب وجود علاقات الجيرة، بل لدوره المتنامي في تعزيز النزعة القومية لدى الأذريين في إيران على حساب الهوية الوطنية، وهو ما يثير مخاوف السلطات الإيرانية بطبيعة الحال.
على الصعيد الرسمي، تتبنى طهران مقاربة الأمم المتحدة ومجموعة “مينسك” (التي تأسست عام 1992 والمنبثقة عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا وتضم بالإضافة إلى فرنسا وروسيا والولايات المتحدة التي ترأس المجموعة كلا من بيلاروسيا، إيطاليا، ألمانيا، البرتغال، هولندا، السويد، فنلندا، تركيا، بالإضافة إلى أرمينيا وأذربيجان) تجاه قضية كاراباخ، مؤكدةً على دعمها وحدة الأراضي الأذربيجانية، مع تشديدها على أنّ حلّ القضية “ليس عسكرياً”. وهي تدعو إلى وقف إطلاق النار وحلّ النزاع عبر التفاوض. وقد جدّدت أخيراً هذه المواقف مع عرضها الوساطة بين الطرفين لحل المشكلة.
غير أنّ هذا الموقف السياسي المساند لباكو لم يقنع الأذربيجانيين، ربما لإدراكهم بأنه لا يعبّر عن حقيقة السياسة الإيرانية، إذ تربط طهران بيريفان علاقات استراتيجية وطيدة، ليست قائمة مع أذربيجان. وهي علاقات تعكس الجانب البراغماتي في السياسة الخارجية الإيرانية، على عكس الاعتقاد السائد بأنّ هذه السياسة مبنية تماماً على رؤية أيديولوجية، إذ إنّ أرمينيا دولة مسيحية وأذربيجان دولة مسلمة يتبع غالبية سكانها المذهب الشيعي الذي يشكل المذهب الرسمي في إيران.
وبالعودة إلى الوراء، فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، كانت إيران سعيدة جداً بأنّ هذا الانهيار إلى جانب فوائده الجيوبولوتيكية الكبرى للثورة الإسلامية حديثة الولادة، بما في ذلك إنهاء الخطر السوفييتي، يكون قد أفضى إلى تشكيل جمهوريات مسلمة يمكن أن تكسبها، في مقدمتها جمهورية أذربيجان، التي لم تخف إيران رغبتها بأن تكون هي الدولة الشيعية الثانية في العالم بعدها. لكن سرعان ما تبددت هذه الآمال وتحولت أذربيجان إلى جمهورية علمانية لا يهمها المذهب، رافعة شعار القومية الأذرية، ومن هذا المنطلق فضلت تركيا على إيران. وهذا بحدّ ذاته بدأ يؤسس لمخاوف لدى الجانب الإيراني من انعكاسات هذا التوجه الأذربيجاني على الأذريين الإيرانيين البالغ عددهم نحو 30 مليون نسمة، لجهة تعزيز نزعتهم العرقية والقومية على حساب النزعة الوطنية والمذهبية.
وأفضت تطورات العلاقة بين إيران وأذربيجان إلى وجود خلافات وتوترات خلال العقود الثلاثة الماضية، منها الخلاف على تقسيم موارد بحر قزوين وترسيم حدوده، واتهامات أذربيجانية لإيران بالسعي لاختراق الشيعة، وسط هواجس إيرانية من محاولات باكو لتقوية النزعة القومية الانفصالية لدى الأذريين الإيرانيين.
على الضفة الثانية، وبموازاة التدهور التدريجي للعلاقات الإيرانية الأذربيجانية، تنامت العلاقات بين إيران وأرمينيا وتعززت الروابط بين البلدين، لدرجة باتت توصف هذه العلاقات اليوم بأنها استراتيجية. ولم تكن دوافع بنائها فقط تلك التوترات المستمرة بين طهران وباكو، بل الحاجة الاستراتيجية الملحة لأرمينيا إلى مثل هذه العلاقات، لكونها واقعة جغرافياً بين تركيا وإيران، والجغرافيا كانت لها الدور الأهم في هذا التقارب، إذ إنّ أرمينيا المغلقة حدودها مع أذربيجان وتركيا، يبقى لديها منفذان للتواصل مع العالم الخارجي، هما حدودها مع جورجيا وإيران.
وبالإضافة إلى دور العامل الجغرافي، استغلت أرمينيا جيداً التوترات بين أذربيجان وإيران لتعزيز التقارب مع الأخيرة وبناء علاقات معها لا يمكنها الاستغناء عنها. غير أنّ يريفان في الوقت ذاته، اتجهت نحو إسرائيل خلال السنوات الماضية بموازاة التوتر الإسرائيلي التركي، وفتحت سفارةً في الأراضي المحتلة عام 2019، في خطوة كانت تهدف إلى كسب إسرائيل وتحييد تأثيرات علاقاتها مع أذربيجان على معادلة الصراع في كاراباخ.
غير أنّ التطورات الأخيرة أوصلت الحكومة الأرمينية إلى قناعة بأنّ هذا التوجه لم يحقق مبتغاه، وأنّ تل أبيب مستمرة في دعمها لباكو، خصوصاً في المجال التسليحي، وهو ما دفعها إلى استدعاء سفيرها من إسرائيل أرمين سامبتيان، الخميس الماضي. ولا يخفى أنّ الخطوة أيضاً تحمل إشارات ورسائل إيجابية لطهران، بعدما أثار فتح السفارة الأرمينية في إسرائيل توجسها واعتراضها.
واليوم، وعلى وقع العلاقات المتوترة بين أذربيجان وإيران خلال العقود الثلاثة الماضية، وعلاقات الأخيرة المتطورة مع أرمينيا، واتهامات أذربيجانية خلال هذه الفترة لطهران بالوقوف مع يريفان في النزاع بكاراباخ، جاءت خلال الأيام الماضية الاتهامات لإيران بالسماح بنقل الأسلحة الروسية إلى أرمينيا عبر أراضيها من خلال شاحنات نقل البضائع المدنية على الحدود.
لكن بغضّ النظر عما إذا كانت هذه الاتهامات مسنودة بأدلة ومعلومات أم لا، كان النفي الإيراني “القاطع” لصحتها لافتاً. وجاء النفي من أكثر من مستوى، فبعدما أكد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زادة، عدم صحتها في تصريح صحافي يوم الإثنين الماضي، مشيراً إلى أنّ الشاحنات كانت تحمل “البضائع المدنية التقليدية”، أجرى محمود واعظي، رئيس مكتب الرئيس الإيراني، حسن روحاني، اتصالاً بنائب رئيس الوزراء الأذربيجاني، شاهين مصطفى أوف، الثلاثاء الماضي، لينفي من جهته صحة الاتهامات، معتبراً أنها “شائعات لا أساس لها من الصحة، وتستهدف تخريب العلاقات الجيدة بين إيران وأذربيجان”. كما أكد واعظي في الوقت ذاته أنّ بلاده تعترف بوحدة الأراضي الأذربيجانية وتحترمها، وتعتبر أنّ “إنهاء الاحتلال يؤدي إلى الاستقرار في المنطقة”.
وتماشياً مع الشارع الأذري الإيراني، أصدر ممثلو الولي الفقيه (المرشد الإيراني) في أربع محافظات إيرانية في شمال غربي إيران، هي أردبيل وزنجان وأذربيجان الشرقية وأذربيجان الغربية، التي تقطنها غالبية تركية مطلقة، ما عدا المحافظة الأخيرة التي يشكل الأكراد بين 40 إلى 50 في المائة من سكانها، أصدروا بياناً مشتركاً الخميس الماضي، أكدوا فيه أنه “لا شك أنّ كاراباخ أراض أذربيجانية وأنها محتلة ويجب أن تعود إلى أذربيجان”، واصفين قتلاها في المواجهات الدائرة بأنهم “شهداء”.
والنتيجة أنّ المقاربة الإيرانية للمواجهات والنزاع بين أذربيجان وأرمينيا وتعقيداته، محكومة بجملة عوامل خارجية وداخلية متداخلة، تفرض على طهران التعامل مع الموقف بحذر شديد للغاية. فمن جهة، لا يمكنها تجاهل اصطفافات باكو الإقليمية وارتدادات ذلك على محيطها الأمني، والتوترات التاريخية التي شابت العلاقات الثنائية، وفي الوقت نفسه، متطلبات علاقاتها الودية التاريخية مع أرمينيا، وعلاقاتها مع موسكو الداعمة ليريفان، والتي هي بحاجة إليها هذه الأيام في المواجهة مع واشنطن. ومن جهة ثانية، ثمة حسابات أخرى تدفع صناع القرار الإيراني إلى السعي لكسب أذربيجان على الرغم من التحديات الموجودة، وعدم خسارتها، أو على الأقل الحفاظ على المستوى المتوسط للعلاقات الجارية، ذلك لأنّ الانطلاق البحت من المعطيات آنفة الذكر لرسم اتجاه العلاقة معها، يضع إيران أمام تحديدات كبيرة، خارجية وداخلية، إذ إنّ من شأن ذلك أن يدفع باكو إلى المزيد من التقارب مع أطراف أخرى، في مقدمتها إسرائيل، واللعب على هذا المتغير لإزعاج طهران. فضلاً عن انعكاسات العلاقات مع أذربيجان على الداخل الإيراني، سواء كانت إيجابية أو سلبية، لجهة حساسية الأذريين الإيرانيين تجاه هذه العلاقات.
وأخيراً، وسط تلك التعقيدات المركبة، تحاول طهران إبعاد شبهة الاصطفاف إلى جانب أحد طرفي النزاع في كاراباخ (أرمينيا) عن نفسها، عارضة الوساطة بين أرمينيا وأذربيجان، في مسعى لتحقيق هدفين أساسيين؛ أولاً إبراز نفسها كلاعب إقليمي مهم في منطقة القوقاز الجنوبي، وثانياً الحؤول دون ارتدادات استمرار هذا النزاع على أمنها الإقليمي والداخلي. إلا أنّ هذا العرض على الرغم من ترحيب أرمينيا به، لم يلق تجاوباً أذربيجانياً، وبدا أنّ باكو تسعى هذه المرة بدعم تركي لافت، إلى تسجيل مكاسب كبيرة على الأرض قبل الدخول في أي مفاوضات.
اقرأ أيضا: