هل تنفذ واشنطن تهديدها بنقل السفارة الأمريكية من بغداد؟

فإن خفض التصعيد يصب في مصلحة جميع الأطراف المعنية في العراق، وخاصة العراقيين أنفسهم، بغض النظر عن الطوائف والانتماءات السياسية.

ميدل ايست نيوز: بعد تصاعد الهجمات ضد الأمريكان في العراق، اقترح وزير الخارجية “مايك بومبيو” في أواخر سبتمبر/أيلول أن تغلق الولايات المتحدة سفارتها في بغداد وتنقلها إلى موقع أصغر وأكثر أمانًا في كردستان أو الأردن.

وإذا قامت الولايات المتحدة بهذه الخطوة فسيكون لذلك تداعيات معقدة وقد تؤدي إلى زيادة مخاطر التصعيد بين الولايات المتحدة وإيران، لذلك فإن المسؤولين العراقيين وقادة الأحزاب (بما في ذلك أولئك الذين يعارضون الوجود الأمريكي في البلاد) متحدون في معارضة النقل واتخذوا خطوات لمعالجة مخاوف أمريكا.

وتعتبر سفارة الولايات المتحدة في العراق أكبر سفارة في العالم تقريبا حيث يغطي مجمعها مساحة 104 فدان في المنطقة الخضراء ببغداد، وتكلف بناؤها 750 مليون دولار، وكان عدد العاملين فيها 16 ألفا (بما في ذلك 2000 دبلوماسي) منذ افتتاحها عام 2009 حتى عام 2012. وتعد السفارة قاعدة العمليات الأمريكية في العراق، وعلى هذا النحو، كانت هدفا متكررا للهجمات ضد الولايات المتحدة

ووسط تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وإيران في عام 2019، شنت “عصائب أهل الحق” و”كتائب حزب الله”، وهي أقوى ميليشيات مدعومة من إيران في العراق، سلسلة من الهجمات على أهداف أمريكية. وأعلنت الميليشيات مسؤوليتها عن أعمال العنف وقالت إن الهجمات ستستمر حتى تسحب واشنطن جميع قواتها من العراق.

في 31 ديسمبر/ كانون الأول  2019، ساهمت الميليشيات بمساعدة حراس عراقيين، في اختراق المتظاهرين الطبقة الأولى للدفاع في السفارة ونهبوا عدة مكاتب. واتهمت إدارة “ترامب” إيران بالتخطيط للهجوم، وردت بقتل الجنرال “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس، و”أبو مهدي المهندس” نائب قائد قوات الحشد الشعبي وأحد أكثر حلفاء إيران موثوقية في العراق.

وفي الأشهر التي أعقبت مقتل “سليماني”، زاد عدد الهجمات على أهداف أمريكية وغربية أخرى في العراق بشكل كبير. وفي سبتمبر/أيلول الماضي فقط، تعرضت قافلة تابعة للسفارة البريطانية في العراق لهجوم بقنبلة زرعت على جانب الطريق، وأطلقت 6 صواريخ على قاعدة عسكرية أمريكية في أربيل، وأطلق صاروخ على القوات الأمريكية في مطار بغداد (أخطأ وأصاب منزلا وقتل 5 مدنيين عراقيين).

ورداً على ذلك، أبلغ “مايك بومبيو” في 24 سبتمبر/أيلول الرئيس العراقي “برهم صالح” أنه إذا لم تتمكن قوات الأمن العراقية من بذل المزيد من الجهد لمنع الهجمات، فإن الولايات المتحدة ستغلق سفارتها في بغداد، وأنها قد وضعت خططًا لنقلها إلى إقليم كردستان أو الأردن.

بالنسبة للولايات المتحدة، سيكون لإغلاق السفارة العديد من الفوائد المهمة. باعتبارها نقطة محورية للتدخل الأمريكي في العراق، فإن السفارة هدف رئيسي لإيران والميليشيات المدعومة من إيران. وسيحرم نقلها إلى موقع أكثر أمانًا تلك القوات من هدف سهل وكذلك سيسهل ذلك على الولايات المتحدة إجراء عمليات ضد القوات المدعومة من إيران دون خوف من هجمات انتقامية على السفارة.

علاوة على ذلك، كجزء من خطته لإنهاء التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط، سحب الرئيس “ترامب” بالفعل الآلاف من القوات الأمريكية المتبقية من العراق خلال فترة ولايته. وقد سحب مؤخرًا 2200 جندي في سبتمبر/أيلول، وبذلك انخفض إجمالي القوات الأمريكية إلى 3000.

ويعد الانسحاب من سفارتها الضخمة، وربما الانتقال إلى سفارة أصغر في كردستان، علامة واضحة على انسحاب الولايات المتحدة من العراق. أخيرًا، فإن صيانة وتأمين السفارة الحالية عملية باهظة الثمن، ويمكن توفير الكثير من المال من خلال الانتقال إلى أربيل أو عمان.

هل أمريكا في تراجع؟

ومع ذلك، سيكون لمثل هذه الخطوة عواقب سلبية خطيرة حيث إن للسفارة رمزية كبيرة، وسيكون التخلي عنها علامة واضحة على انسحاب أمريكا من المنطقة وتراجع التزاماتها تجاه حلفائها، وبالتالي تغيير الحسابات الاستراتيجية لكل من حلفاء وخصوم الولايات المتحدة. وقد تهم هذه الفكرة بشكل خاص حلفاء أمريكا (سواء من الدول أوالأحزاب السياسية) في منطقة الخليج.

وإذا انسحبت الولايات المتحدة، فمن المحتمل أن تستولي الميليشيات المدعومة من إيران على مجمع السفارة لأغراض دعائية. وبالنظر إلى أن هجوم الميليشيات على السفارة والذي أدى إلى مقتل “سليماني”، فقد تتردد طهران في القيام بمثل هذا الاستفزاز حيث لا زالت أزمة الرهائن عام 1979 تقبع في الذاكرة الحديثة للحكومة الأمريكية، التي صرحت علانية أنها لن تتسامح مع هجوم آخر من قبل الحرس الثوري أو الجهات التابعة له.

ولعل الأهم من ذلك، أن مغادرة السفارة سيحرم الدبلوماسيين الأمريكيين وقوات الأمن من قاعدة مهمة في بغداد، وبالتالي سيعيق بشكل واضح نفوذ أمريكا هناك. فقد كان الغرض من السفارة في بغداد يتجاوز الشؤون الدبلوماسية حيث تستضيف السفارة فعاليات إدارة العمليات الدفاعية والاستخباراتية في القتال ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” وتلعب دورًا حاسمًا في تدريب الجيش العراقي، بما في ذلك قوات الحشد الشعبي التي اندمجت فيه.

وخلال العام الماضي، شهدت سياسة الولايات المتحدة سلسلة من النجاحات في العراق سمحت لها بتعزيز موقعها في بغداد حيث أعاقت العقوبات الأمريكية القاسية قدرة طهران على إمداد القوات التابعة لها في العراق. علاوة على ذلك، أدت سلسلة من الاحتجاجات الشعبية، إلى إجبار الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران داخل العراق على الابتعاد عن طهران من أجل البقاء السياسي. ويشير هذان العاملان إلى أن موقف إيران في بغداد اليوم يمكن أن يكون الأضعف منذ ما يقرب من عقد من الزمان.

وسيكون نقل السفارة الأمريكية الآن بمثابة انعكاس مذهل؛ وسوف يتضاءل نفوذ الولايات المتحدة في العراق، وستزداد على الفور مصداقية الفصيل الموالي لإيران. ومن الواضح أن أياً من هذه العواقب ليس في مصلحة الولايات المتحدة.

في المجمل، من الصعب التنبؤ بما إذا كان تأثير مغادرة بغداد سيكون إيجابياً أم سلبياً بالنسبة للولايات المتحدة أو لإيران، التي لم تصدر أي بيان رسمي بشأن المقترح. لكن فيما يتعلق باستقرار العراق وسيادته، سيكون لهذه الخطوة تداعيات كبيرة بالتأكيد.

يعتمد العراق بشكل كبير على برامج المساعدة الأمريكية والدعم العسكري والتقني، وستتأثر كل هذه البرامج بشدة بالانسحاب. وقد يؤدي انسحاب الولايات المتحدة إلى مغادرة شركاء التحالف الآخرين أيضًا، مما قد يؤدي إلى عودة ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية”.

بالإضافة لما سبق حاولت بغداد السير على حبل مشدود بين الأهداف الأمريكية والإيرانية في المنطقة والبقاء على الحياد في الصراع بينهما. وبالرغم أن كلا الطرفين لهما نفوذ داخل العراق، إلا أن الحكومة نجحت إلى حد كبير في تجنب الانحياز إلى أي من الحكومتين.

ووسط تصاعد التوترات، تحدث الرئيس “برهم صالح” في 23 سبتمبر/أيلول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأصر على أن العراق سيظل محايدًا في أي صراعات إقليمية. ومن خلال نقل السفارة وإضعاف الجيش العراقي، سيضطر العراق إلى الاعتماد على العناصر الإيرانية في قوات الحشد الشعبي، ما يعني تقوية إيران وتعريض حياد العراق للخطر.

لذلك، فإن أعلى الأصوات المنددة بالخطوة جاءت من داخل الحكومة العراقية حيث طمأن رئيس الوزراء “مصطفى الكاظمي” أمريكا بأن العراق سيأخذ على محمل الجد مسؤوليته في حماية الدبلوماسيين الأجانب. كما حذر من أن “عواقب الانسحاب الأمريكي، في حال حدوثه، ستكون كارثية على العراق”. وأضاف وزير الخارجية العراقي “فؤاد حسين”: “نأمل أن تعيد الحكومة الأمريكية والإدارة الأمريكية النظر في هذا القرار لأنه قرار  خاطئ”.

وحتى القادة العراقيين الذين قاتلوا ضد القوات الأمريكية سابقا يدركون أن انسحابها من بغداد قد يكون له تداعيات خطيرة. فقد انتقد زعيم المعارضة العراقية “مقتدى الصدر”، زعيم “جيش المهدي”، الهجمات على الدبلوماسيين بغض النظر عن جنسيتهم. وقال في بيان إن “ما تفعله بعض الجماعات المسلحة التابعة للحشد الشعبي هو إضعاف العراق وشعبه وبلده، وإضعاف هذه الجوانب الثلاثة يعني تقوية القوى الخارجية”. وهو ما وصفه “الصدر”، وهو ليس صديقًا للولايات المتحدة، بأنه “شر عظيم”. وأكد أن انسحاب الولايات المتحدة سيضر بمصالحها ومصالح العراق.

ولمنع إغلاق السفارة، أعلنت الحكومة العراقية أنها تتخذ خطوات للتصدي للهجمات ضد أهداف أمريكية. وتحدث وزير الخارجية الع راقي في وقت لاحق مع “بومبيو”، ونصحه بشدة بعدم القيام بهذه الخطوة، وأعلن “الكاظمي” في 6 أكتوبر/تشرين الأول أنه تم تشكيل لجنة عليا للتحقيق في القضية. ومن المتوقع أن تقدم هذه اللجنة توصيات ملموسة، وأن تنجح الحكومة العراقية في تنفيذها.

في نهاية المطاف، فإن خفض التصعيد يصب في مصلحة جميع الأطراف المعنية في العراق، وخاصة العراقيين أنفسهم، بغض النظر عن الطوائف والانتماءات السياسية.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
بواسطة
الخليج الجديد
المصدر
منتدى الخليج الدولي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

17 + 20 =

زر الذهاب إلى الأعلى