“راديوغراف عائلة”: صُور توثِّق احتضارَ جمالٍ إيراني
في وثائقيّ فيروزه خسرواني (1971)، "راديوغراف عائلة" (2020)، تخترق الأشعة السينية جلد المجتمع الإيراني وخلايا لحمه.
ميدل ايست نيوز: في وثائقيّ فيروزه خسرواني (1971)، “راديوغراف عائلة” (2020)، تخترق الأشعة السينية جلد المجتمع الإيراني وخلايا لحمه، لتكشف كسوراً أحدثها الانقسام المجتمعي والسياسي في هيكلها العظمي، ولتُظهِر أوجاعاً منسحبةً على عائلة المخرجة وطفولتها. في سنّ النضج، وعبر ذاكرة مُرمّمة بصرياً، تحاول خسرواني استرجاع طفولة شهدت انهيار بيتٍ، كان يُمكن تجنّب انهياره، لولا ذلك الانفصال الحادّ بين تيارين، ديني وعلماني، تنقّل بينهما بلدها إيران، وجرفت سيوله (الانفصال) حياة والديها بفعل قوّتهما (التياران).
إلى الأرشيف تنتصر فيروزه خسرواني. به تُعيد ترميم ذاكرتها. بصُورٍ فوتوغرافية قديمة، وتسجيلات مُصوّرة بكاميرا سوبر 8 مم، تكتب تاريخاً شخصياً وسيرة عائلة. بحوارات مُتخيّلة بين والديها (كتابتها، أما الإلقاء الصوتيّ الرائع فللممثلة سهيلة غولِستاني)، تُحيي بها وجودهما. تمنح الصورة دماً ولحماً، يتحمّلان قوّة الأشعة السينية، المستوحاة تعابيرها المجازية من عمل والدها كطبيب أشعة، درس في سويسرا، في ستينيات القرن الـ20، ثم عاد إلى إيران.
على ما تُحدثه الكاميرا (تصوير محمد رضا جهانبناه) من حراكٍ في النسيج المكانيّ الجامد، يتراكم الكثير من معمار السرد البصري المُتخَيّل لعلاقته بوالدتها؛ وبالتوليف (فرهناز شريفي وجيلا إيباكتشي وراينر أم. ترينكلر) وعليه، يُقام الهيكل السينمائي مُتماسك البناء، المجبولة حجارته برؤية إخراجية ثاقبة لزمنٍ شهد انقلاباً في تاريخ بلدها. إليه، عادت خسرواني عبر مآلات حياة والديها، وتعاملت معه رغم قسوته، من دون انفعالات حادّة أو غضب. الحزن احتفظت به لنفسها، واعتبرت أنّ من حقّها التعبير عنه طالما أنّه شخصيٌّ، لا يخلُّ بسردٍ أرادته ناعماً ومتوافقاً مع نظرة طفلةٍ، لم تُدرك تماماً ما كان يجري حولها. طفلة تمنّت أنْ تبقى في الوسط، وأنْ يحبّها الطرفان: الأم المتديّنة والأب العلماني.
زواج الأب حسيني بالأم تايّ تمّ عن “بُعد”. في زيارة له إلى طهران، رآها من بعيد. أحبّها، وطلب الزواج منها. رُتِّبت مراسم الزواج بغيابه. لم يحضر بنفسه لانشغاله بعمله في جنيف. انتقلت إليه، هناك في البلد الأوروبي المتحرّر، بعد استشارة رجل دين (سيّد) عن مدى صحّة القرار. القصّة لا تخلو من غرائبية، لكنّها تتوافق مع عادات وتقاليد، تبرّرها شدّة “تَشيُّع” عائلتها. الغرائبية كشفت وجود تيار ديني قوي كامن في أعماق مجتمع، ظاهره علماني غربي الثقافة، في زمن الشاه.
في جنيف، وفّر لها الزوج حياة جيدة. أراد تكيّفها وإعادة تكوينها وفق عقليته الغربية. كان كُلّي الثقة بصحّة عالمه المنفتح على ثقافة سويسرية، لم تتعلّم منها سوى كلمة “مسيو”. باطنها دال على تَسيُّد وسيطرة ثقافية غير مُعلنة. نُطقها بفارسيةٍ ثقيلةٍ تعبيرٌ عن استجابة مُلزِمة وقبولٍ بعالم آخر. في العمق، يُشعرها التوافق معه بـ”إثم” وبارتكاب “معاصٍ”.
الاشتغال الوثائقي للمرحلة السويسرية استَعان بتسجيلات كاميرا فيديو، غنية بأشرطة تنقل تفاصيل المكان، ومباهج حياة زوجٍ افترض توافق زوجته معها، من دون انتباهٍ كثيرٍ إلى الشرخ المتّسع بينهما، زاد كسر فقرة من عمودها الفقري، أثناء تعلّمها التزحلق على الجليد، من اتّساعه. بحملها جنيناً، حانت اللحظة المناسبة للخروج من ذلك المكان الغريب، الذي لم تجد الأم نفسها فيه.
في “راديوغراف عائلة” ـ الفائز بجائزتي أفضل فيلم وثائقي طويل وأفضل استخدام إبداعي للأرشيف في الدورة الـ33 (18 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 6 ديسمبر/ كانون الأول 2020) لـ”مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقي (إدفا)” ـ تُجاور الحوارات المتخيّلة الواقعيّ بالروائيّ، وتدمجهما بأسلوبٍ يُجيده مروِّضو الصورة الجامدة، ونافخو الروح في الخامات “الميتة” للأرشيف. في طهران، ولدت فيروزه خسرواني، وبقي الأب فيها، مُراقباً بصمتٍ ابتعاد زوجته عنه إلى ثورةٍ (1979) ضد الشاه، وجدت نفسها فيها، وحقّقت لها ذاتها المُتشيِّعة. انجرفت بقوّة في مُجاراة أهدافها السياسية، وحوّلت منزلها إلى ملتقى لمناضلاتٍ مثلها. في الحرب مع العراق، تقدّمت الصفوف. لم يعد يجمعها مع حسيني سرير واحد، ولم تعد تُسمَع الموسيقى العالمية في أرجاء البيت، إذْ استبدلتها بمآتم حُسينيّة.
في تلك اللحظة، تَسيّدت المرأة المتديّنة على المكان، وانزوى العلماني. كان لا بُدّ من وجود موسيقى أخرى (بيمان يزدانيان) غير العالمية، لتتوسّط فراغ سلطتين: واحدة وَلّت مع سقوط الشاه، وواحدة نهضت مع ثورةٍ، عرفت بدهاء استغلال الحضور التاريخي المتجذّر للمرأة الإيرانية في مفاصل مجتمعها.
حضورها يسبق الثورة، إذْ تعود أصوله إلى مراحل ما قبل الإسلام والتشيّع. عليه، اشتغل قادتها، وعرفوا جيداً كيف يجعلونه مُحرّكاً لثورتهم. تترك فيروزه خسرواني من زمن فيلمها المهمّ جزءاً للزعيم الشيعي علي شريعتي، مُلهم الثورة الإيرانية كما رأته والدتها. إليه، أحالت الطفلة وقتها أسباب انتزاع لوحات النساء العاريات من غرفة نومها، وهجرها السرير المشترك.
في الوسط، بقيت فيروزه خسرواني تُراقب. الكاميرا تنقل نظرتها للمشهد المُتغيّر والبيت المُتهالك. مات الأب، وغادرت هي إلى السينما. لم يبقَ منه سوى صُوَر مزّقت الأم بعضها خجلاً منها، حاولت هي ببراءةٍ إعادة رسمها مجدّداً بقلم رصاص، كأنّها تريد الاحتفاظ ببعض بقايا جمال عائلة إيرانية، بفيلمها/ الدَرسْ وثّقت احتضاره.
قد يعجبك: