مصير “هيئة تحرير الشام” في عهد بايدن

أي تفكيك للهيئة وبالتالي تغيير جلدها سيكون متعلقاً بمدى تعميق التفاهمات الروسية-التركية حول الملف السوري وارتباطاته.

ميدل ايست نيوز: صدر عن الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً إشارات مختلطة تجاه “هيئة تحرير الشام” في سوريا (جبهة النصرة سابقاً)، المصنفة على قائمة الإرهاب الأمريكية منذ سنوات، ما يدفع للتنبؤ بتعقُّد مشهد مصير الهيئة، وهي التي كان يُتوقَّع مطلع العام 2020 أن تزيل واشنطن اسمها من قائمة الإرهاب.

مواقف مختلفة ونتيجة واحدة

سعت “هيئة تحرير الشام” خلال الشهور الماضية إلى طرح نفسها كـ “فصيل معتدل” مُعارِض لحكومة دمشق، لا بوصفها فصيلاً جهادياً مُتشدداً ينبغي إبقاء اسمه على قوائم الإرهاب الدولية كما هو الحال الآن بالنسبة لـ”جبهة النصرة”، التنظيم الذي تزعمه الجولاني منذ تأسيس نسخته الأولى. وفي هذا الإطار، حاول الجولاني إبعاد القياديين والعناصر الأكثر تشدداً، خاصة الأجانب، وذلك بعد “انشقاق صامت” لقيادات أجنبية أسست لها جماعة متشددة جديدة تبتعد عن “براغماتية” الجولاني وفق رأيها. وسعى الجولاني بعد “اتفاق موسكو” (مارس 2020) إلى إعادة تموضع تنظيمه في إدلب، ومحاولة فرض نفسه نقطة قوة رئيسة في المنطقة تجمع المدنيين حوله، وتضرب نفوذ كل القوى الجهادية المحيطة بمنطقته، في محاولة تكيُّف مع الواقع الذي فرضه الاتفاق الذي وقعه كل من الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان حول إدلب.

وبالتوازي، استهدفت الولايات المتحدة مؤخراً في عدة ضربات جوية من دون طيار قياديين في تنظيم “حراس الدين” (الأكثر تشدداً في شمال غرب سوريا) وهو التنظيم المحسوب بارتباطه المباشر مع تنظيم “القاعدة” الإرهابي، والمعادي بشكل غير مباشر لـ “تحرير الشام”، خاصة وأنه قد انفضت قياداته عن الجولاني وعملت على تأسيس فصيل يمثل الجناح المتشدد والمنشق عن “النصرة”.

ولعل تكرار استهداف الشخصيات المناوئة لهيئة “تحرير الشام” وزعيمها الجولاني، من قبل الولايات المتحدة كان يدفع للترجيح بقرب حصول تغيير ميداني يُعلَن من خلاله تشكيلٌ عسكريٌّ جديدٌ تُغيِّر فيه الهيئة من جلدها، ويُشرعِن سيطرتها على ما تبقى من الشمال السوري، بحيث يكون موافقاً عليها من قبل كل من واشنطن وموسكو وأنقرة.

وفي فترة حكم ترامب للولايات المتحدة، تركزت السياسة الخارجية لواشنطن في سوريا على مواجهة تنظيم داعش والنفوذ الإيراني هناك، بينما كان التعاطي السلبي مع “تحرير الشام” محدود الأثر، في ظل التعاون غير المعلن بين الجانبين ضد “حراس الدين”، وارتياح الجولاني لضرب تنظيم “داعش” الإرهابي ومقتل زعيمه “أبو بكر البغدادي” (خصمه اللدود).

ولعل السياسة الأمريكية المتبعة في الآونة الأخيرة ضمن إطار “التحالف الدولي”، والمتمثلة في تقويض نفوذ “حراس الدين”، قائمة على إعادة تشكيل الوضع في الشمال السوري بصورة جديدة؛ من خلال شلّ فعالية القيادات وأصحاب الأفكار المتطرفة، ومنح المجال للقوى المحلية، بما فيها “هيئة تحرير الشام”، للتخلص من هؤلاء، وهو الأمر الذي يُرجِّح حدوث اندماج بين الأخيرة وقوى محلية أخرى محسوبة على “التيار المعارض المعتدل”، بحيث يتيح ذلك للهيئة أن تتولى شؤون المنطقة وتصفية المخالفين لها بشكل شرعي وبرضا دولي.

وعليه، فإن سياسة الاستهداف المتبعة تتيح للقوى المحلية في إدلب إعادة التموضع من جديد داخل النسيج السوري، ويستتبع ذلك القضاء على نفوذ “حراس الدين” ومن يتصل بهم وبتنظيم “القاعدة”.

مستقبلٌ مشوب بالغموض

في نهاية شهر نوفمبر الماضي، ذكّرت الولايات المتحدة بمكافأتها المتعلقة بزعيم “هيئة تحرير الشام”، لمن يدلي بمعلومات عنه. ونشر برنامج “مكافآت من أجل العدالة” التابع لوزارة الخارجية الأمريكية تغريدة عبر حسابه في “تويتر” جاء فيها أن “الجولاني يتظاهر بالاهتمام بسوريا لكن الناس لم ينسوا جرائم تنظيمه جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) بحقهم”. وأشار إلى أن وزارة الخارجية الأمريكية تبحث عن معلومات حول القائد الأعلى لتنظيم هيئة تحرير الشام، “المسؤولة عن جرائم كثيرة بحق السوريين”.

وفي نظر مُتابعي الشأن السوري، فقد جاءت هذه التغريدة مفاجئة بحكم أنها خالفت نهج إدارة الرئيس ترامب، والتي يبدو أنها كانت تسير في طريق مهادنة “تحرير الشام”، مع احتمالية الذهاب إلى أبعد من ذلك ورفع اسمها من قوائم الإرهاب، خاصة وأن المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا الأسبق، جيمس جيفري، قال في شهر فبراير الماضي إن “تحرير الشام” ركزت على محاربة النظام السوري. “كما أعلنت هذه المجموعة عن نفسها، – ولم نقبل بهذا الادعاء بعد -، بأنها تمثل مجموعة معارضة وطنية تضم مقاتلين وليس إرهابيين، كما أننا لم نشهد لهم مثلاً أي تهديدات على المستوى الدولي منذ زمن”، ما كان يشي بإمكانية فتح واشنطن لقنوات تواصل أكثر مباشرة مع التنظيم الذي يتزعمه الجولاني.

وتبع تصريح جيفري، مقابلة القائد العام لـ”الهيئة”، أبو محمد الجولاني، التي أجراها مع مجموعة الأزمات الدولية، في 20 من فبراير الماضي. والتي أشار فيها الأخير إلى أنه رغم ارتباطه بتنظيم “القاعدة” في فترة سابقة، إلا أنه تَعهَّد بعدم استخدام سوريا، منصة إطلاق للعمليات الخارجية، سواء من قبل التنظيم أو أي فصيل جهادي آخر، والتركيز فقط على قتال النظام السوري وحلفائه في سوريا.

غير أن خسارة الرئيس ترامب لفرصة الاستمرار في سيادة البيت الأبيض لأربع سنوات مقبلة؛ دفعت إدارته لاتخاذ خطوات عدة تهدف لزيادة أعباء الإدارة المقبلة برئاسة جو بايدن، قد يكون منها خطوات التصعيد ضد هيئة تحرير الشام، والتي كان آخرها تصنيف الهيئة ضمن الكيانات التي تُشكِّل “مصدر قلق خاص”، وهو ما يشي بعودة واشنطن إلى المربع الأول في نظرتها لهيئة تحرير الشام ودورها في إدلب/الشمال الغربي من سوريا، ومدى إمكانية قيام الهيئة بمواجهة باقي التنظيمات الجهادية المتشددة في تلك المنطقة، لاسيما بعد الخطوات التي اتخذها الجولاني وتنظيمه للهروب إلى الأمام وادعاء امتلاك حاضنة شعبية كبيرة في إدلب للتغلب على تصنيف الإرهاب، واعتبار نفسه الشخصية المحلية الأكثر تفضيلاً لواشنطن وحلفائها في ترتيب النفوذ الجهادي هناك.

وعلى الضفة الأخرى، يُعتَقَد أن حكم بايدن للبيت الأبيض قد يُعيد سياسة العداء الأمريكية للجولاني، ورغم أن بايدن قد لا يستهدف الجماعة بضربات جوية كما فعل سلفه أوباما مع تنظيمات إرهابية أخرى، إلا أنه من غير الوارد دخوله في تفاهمات مع الجولاني، وقد يترك أمر هذا الملف “المُعقَّد” لكل من موسكو وأنقرة، وربما يكون ذلك هو ما أرادته إدارة ترامب عندما صعَّدت ضد الجولاني، رغبةً منها في خلط أوراق هذا الملف قبل تَسلُّم بايدن السلطة في واشنطن.

من جانبها، لم تُبدي تركيا أي تحرك جاد تجاه “هيئة تحرير الشام”، سواء بالتصعيد ضدها؛ أو بالتواصل المباشر معها عبر نفوذ القوى العسكرية السورية التي تدعمها من أجل حلّ نفسها للتغلب على إشكالية وجودها بالشكل الحالي، والعمل على تفكيكها وإنهاء وجودها، وهو الأمر الذي اعترضت عليه روسيا وكان ذريعتها لقصف المنطقة طيلة الفترة الماضية، إذ بررت موسكو أي قصف استهدف المنطقة والمدنيين في إدلب بكونه يستهدف مواقع عسكرية تتمركز بها “هيئة تحرير الشام”، لذا فإن أي تفكيك للهيئة وبالتالي تغيير جلدها سيكون متعلقاً بمدى تعميق التفاهمات الروسية-التركية حول الملف السوري وارتباطاته.

خلاصة واستنتاجات

  • القضاء على النفوذ المتفرِّد لهيئة تحرير الشام، لن يتم دون تصفية نفوذ باقي القوى المتطرفة في سوريا، بدءاً من “الحزب التركستاني الإسلامي” وانتهاء بنفوذ “حراس الدين” الذي أخذ في الانحسار بشكل كبير بعد الضربات المتكررة التي تعرَّض لها.
  • تبدو احتمالات تفكك “هيئة تحرير الشام”، واردة خلال الفترة المقبلة، سواء كان ذلك بفعل تفاهمات روسية-تركية جديدة، أو نتيجة دور أمريكي أكبر منفرد أو مشترك، وهو أمرٌ بات مرهوناً برغبة الرئيس الأمريكي المقبل (جو بايدن) في الانفتاح على كلٍّ من تركيا وروسيا، وبمدى تقبُّل واشنطن لضرورة التوصل لحل مشترك مع تلك الأطراف.
  • الأرجح أن تفكيك “تحرير الشام” سيتم عبر دفع الظروف الإقليمية والدولية تركيا بشكل رئيس لممارسة مزيد من الضغط على الجولاني لتغيير جلد التنظيم ودمجه بـ “الجيش السوري” المعارِض المدعوم من أنقرة.
تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
مركز الإمارات للسياسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية عشر − 10 =

زر الذهاب إلى الأعلى