مستقبل العلاقة بين طهران وباكو بعد التوتر الحدودي الأخير

على الرَّغم من نزع فتيل أزمة الشاحنات الإيرانية فإن مباعث التوتر بين طهران وباكو باتت متعدِّدة الاتجاهات والدرجات.

ميدل ايست نيوز: شابَ العلاقةَ بين أذربيجان وطهران، بصورة عامة، على مدى السنوات الماضية، عددٌ من التوترات النابعة من خلفيات تاريخية، نظراً إلى وجود نسبة معتبرة من أصول أذرية كبيرة داخل الأراضي الإيرانية، وخصوصاً في إقليم “أذربيجان الشمالية”، لكن الواقع الميداني، الذي طرأ على محيطها الإقليمي عقب انتهاء جولة القتال التي نشبت بين أذربيجان وأرمينيا في إقليم ناغورنو كاراباخ أواخر العام الماضي، كان بمنزلة فصل جديد من فصول هذا التوتر، وخصوصاً أن هذا الواقع الميداني صاحبه تصاعد في الأنشطة المعادية لإيران، وخصوصاً في المستوى الاستخباريّ.

من هذه الزاوية، يمكن قراءة التوتر الذي شهدته العلاقة بين الجانبين خلال الأسابيع الأخيرة، بحيث كان العنوان “المعلَن” لهذا التوتر هو تضييق السلطات الأذرية على حركة الشاحنات الإيرانية التي تنقل الوقود من الأراضي الإيرانية إلى عاصمة إقليم ناغورنو كاراباخ، ستيباناكيرت، بحيث باتت هذه الشاحنات، التي كانت عادة تستخدم طريق غوريس – قابان في مقاطعة لاتشين في الإقليم، تمر فعلياً داخل الأراضي الأذربيجانية، نظراً إلى الواقع الميداني الذي استجدّ على الأرض عقب انتهاء الهجوم الأذربيجاني، وانسحاب أرمينيا من مقاطعة لاتشين ومقاطعات أخرى في الإقليم.

في أثر ذلك، فرضت باكو رسوماً تقدَّر بين 130 و300 دولار على كل شاحنة إيرانية تسلك هذا الطريق، بشرط أن تكون حركة هذه الشاحنات على الطريق نهاراً فقط، الأمر الذي أسفر عن تصاعد التوتر بينها وبين طهران، وخصوصاً بعد اعتقال الجيش الأذربيجاني عدداً من السائقين الإيرانيين. وعلى الرغم من وجاهة الاعتراض الإيراني على هذه الخطوة، وخصوصاً أنها مبنية على تغيُّرات ميدانية لم تكن متوافقة مع الوضع الذي كان إقليم ناغورنو كاراباخ قائماً عليه منذ تسعينيات القرن الماضي، فإنه يمكن الربط بين هذا التوتر الأخير وسلسلةٍ من التجاذبات والملفات التاريخية العالقة بين الجانبين منذ عقود.

ملف الأقلية الأذرية في إيران

ينحدر ما بين 20 و30 في المئة من الإيرانيين من العرق الأذري، وهم الفئة التي تتحدَّث الفارسية والتركية الأذرية في الوقت نفسه. وعلى الرغم من توزع هذه الفئة في كل المحافظات الإيرانية، فإنها تتركّز، بصورة أساسية، في المناطق الشمالية الغربية، المحاذية للحدود مع أرمينيا وأذربيجان وإقليم ناغورنو كاراباخ، وتحديداً في نطاق محافظتَي أذربيجان الشرقية وأذربيجان الغربية، إلى جانب بعض المحافظات الأخرى، مثل محافظة زنجان.

منذ شباط/فبراير 2012، بدأت طهران تشعر بمحاولات من جانب باكو من أجل استغلال الأقلية الأذرية، بهدف إثارة قلاقل انفصالية في الشمال الإيراني، وخصوصاً حين طرح بعض أعضاء مجلس النواب الأذربيجاني، خلال جلسة للبرلمان، اقتراحاً بتغيير اسم الدولة من أذربيجان إلى أذربيجان الشمالية، بهدف الضغط المباشر على طهران، وإذكاء النيّات الانفصالية من جانب الأذريين الموجودين شمالي غربي البلاد، وتكرار النموذج القبرصي أو الكوري.

شملت التحركات الأذرية في هذا الاتجاه دعوة بعض أحزاب المعارضة الأذربيجانية، ذات التوجه القومي، مثل حزب الجبهة الشعبية لأذربيجان الموحدة، إلى إجراء مراجعة شاملة للمعاهدات الموقَّعة بين روسيا القيصرية ومملكة القاجار في إيران، والتي وضعت موسكو وطهران بموجبها اليد على مناطق تعتبرها باكو ضمن أراضيها، وخصوصاً معاهدة “كوليستان”، التي وقعها الجانبان في تشرين الأول/أكتوبر 1813، ومعاهدة “تركمانجاي” التي وقعها الجانبان في أواخر الحرب الروسية الفارسية عام 1828، والتي بموجبها بات نهر آراس حدّاً فاصلاً بينهما.

شجعت باكو أيضاً أنشطة المجموعات الانفصالية، والتي تنشط في المناطق الشمالية الغربية لإيران، وعلى رأسها “الجبهة الشعبية لتحرير أذربيجان الجنوبية”، والتي أشعلت استضافة أذربيجان اجتماعات قيادتها العليا في نيسان/أبريل 2013، شرارةَ أزمة بين طهران وباكو، بحيث استدعت حينها الخارجية الإيرانية السفير الأذري، وأبلغت إليه احتجاج طهران الرسمي على هذه الخطوة، وخصوصاً أن هذا الاجتماع شهد مناقشة علنية بشأن “استقلال” المحافظات الشمالية الغربية في إيران، والتي يعتبرها الانفصاليون “أذربيجان الجنوبية”. تُضاف إلى هذه المجموعة، مجموعاتٌ انفصالية أخرى تحظى بدعم وتأييد من الأحزاب القومية في أذربيجان، مثل “حركة التحرير الوطني الآذرية”، التي تنشط في غربي البلاد، وخصوصاً في محافظتي قزوين وهمدان، وتركز أنشطتها على ذوي الأصول التركمانية، إلى جانب مجموعة أخرى محدودة النشاط، تطلق على نفسها “حركة الصحوة الوطنية”.

بسبب أنشطة هذه المجموعات، لاحظت طهران، خلال السنوات الأخيرة، نشوب قلاقل في نطاقها الشمالي الغربي، وخصوصاً في أيار/مايو 2016، حين شهدت مدينة تبريز، التي تُعَدّ مركز محافظة أذربيجان الشرقية، اشتباكات بين بعض المتظاهرين والشرطة الإيرانية، تزامنت مع زيارة للرئيس الإيراني آنذاك حسن روحاني. وحينها، هتف المتظاهرون بشعارات انفصالية. وتكررت هذه القلاقل، وشملت أيضاً تجاوزات أمنية، مثل الاشتباكات التي شهدتها منطقة ماكو في محافظة أذربيجان الغربية، في آب/أغسطس 2019. وعلى الرغم من خطورة التأثير الأذربيجاني في الأراضي الإيرانية، فإن طهران تحتفظ أيضاً بأوراق مهمة في الداخل الأذربيجاني، وخصوصاً في صفوف المجموعات العرقية، التي تتحدث الفارسية، أو لهجات مشتقة منها، مثل “تاتيون” و”طاليون”.

إقليم ناغورنو كاراباخ والخيارات الإيرانية المعاكسة

كان ملف إقليم ناغورنو كاراباخ، المتنازَع عليه بين أذربيجان وأرمينيا، من الملفات الأساسية في تشكيل العلاقة الحالية بين باكو وطهران، بحيث وجدت طهران نفسها – بالتدريج – تفضّل الميل إلى التوجّهات الأرمينية في هذا الملف، على الرغم من عدد من الأسباب التي تجعل من المنطقي أن تتخذ طهران منحىً معاكساً لهذا الموقف، وعلى رأسها الخلفية المشتركة مع أذربيجان، دينياً وثقافياً وقومياً.

مع بدء التمهيد للصراع على هذا الإقليم أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كان موقف طهران داعماً لباكو على نحو صريح. لكن، مع وصول الرئيس الأذربيجاني السابق حيدر علييف إلى سدة الحكم عام 1993، وبدء تصاعد النعرات القومية التي تطالب بضم أذربيجان الجنوبية او استقلالها، بدأ الموقف الإيراني من الصراع بشأن ناغورنو كاراباخ يتحول بالتدريج.

بدأت المخاوف الإيرانية تتزايد نتيجة الدعوات الانفصالية الصادرة عن باكو. لذا، كان ملحوظاً عدم إظهار طهران أيَّ تأييد من جانبها لأذربيجان فيما يتعلق بهذا الملف منذ ذلك التوقيت، بحيث فضّلت أن تظهر دوماً كطرف محايد، إلاّ أن واقع الحال كان يشي بأن وجهة النظر الإيرانية في هذا الصدد كانت أقرب إلى يريفان أكثر من اقترابها إلى باكو، وخصوصاً أن العلاقات بينهما، وخصوصاً العلاقات الاقتصادية، تنامت خلال السنوات الأخيرة، وباتت أرمينيا معبراً أساسياً للتجارة الخارجية الإيرانية، وخصوصاً أن البلدين يتبادلان الخدمات الاستراتيجية، بحيث تورد طهران النفط إلى أرمينيا، وتورّد الأخيرة الطاقة الكهربائية إلى إيران.

ظهر هذا الموقف بصورة أوضح خلال المعارك الأخيرة في إقليم ناغورنو كاراباخ، وخصوصاً بعد تصاعُد الدور التركي في هذا الصدد، وجنوح الرئيس التركي إلى اللعب على الأوتار الانفصالية في إيران، بعد أن أنشد خلال مشاركته في احتفالات باكو بـ “النصر” على أرمينيا، أبياتاً شعرية من قصيدة أذرية قديمة، حملت إشارة واضحة إلى نهر أراس، وخط الحدود بين إيران وأذربيجان، والذي يسير على امتداد هذا النهر، وهو ما أثار غضب طهران حينها. وألقت هذه الحادثة الضوء، على نحو كبير، على النظرة التركية إلى الموقف الإيراني من الصراع بشأن هذا الإقليم.

ناهيك ببدء تشكُّل ما يشبه “جبهة اقتصادية”، طرفاها باكو وأنقرة من جهة، وطهران ويريفان من جهة أخرى، بحيث تتناقض المصالح الاقتصادية لكل طرف، وخصوصاً في مجال الطاقة، مع مصالح الطرف الآخر. تُضاف إلى ذلك، التناقضات الأخرى التي شابت العلاقة بين أنقرة وطهران، وخصوصاً في الملف السوري، وملف المياه، بحيث اتهمت بعض الصحف الإيرانية مؤخراً تركيا بإطلاق حرب مياه على إيران، عبر سلسلة من مشاريع بناء السدود جنوبي شرقي البلاد، وتشمل هذه السدود أجزاء من نهر أراس، وهو ما يهدد النهر على نحو مباشِر، وخصوصاً أنه بدأ يعاني، منذ فترة، قلةَ المياه الواردة إليه.

لذا، يمكن قراءة التصريحات الأخيرة لقائد القوات البرية في الحرس الثوري الإيراني، العميد محمد باكبور، في سياق نظرة طهران السلبية إلى التغيرات الميدانية التي تلت الحرب الأخيرة في إقليم ناغورنو كاراباخ، حين صرح قائلاً “لن نقبل أي تغيير في حدود الدول المجاورة لنا، ونعتبر أي تغيير جيوسياسي في المنطقة بمنزلة إِضرار بأمننا القومي”. في الإطار نفسه، أظهرت مجريات حرب ناغورنو كاراباخ ونتائجها، تعاظُمَ الدور “الإسرائيلي” في أذربيجان، وهو ما يُعَدّ ايضاً من أهم أسباب التوترات الأخيرة مع طهران.

العلاقات المتصاعدة بين باكو و”تل أبيب”

لم تكن علاقة “إسرائيل” بأذربيجان وليدة السنوات الأخيرة، بل تصاعدت، على نحو كبير، منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي. لكن هذه العلاقة بدأت إثارةَ التوتر بين باكو وطهران، بعد كشف الصحافة البريطانية، في شباط/فبراير 2013، أنشطةً استخبارية يقوم بها الموساد الإسرائيلي في أراضي أذربيجان، تشمل التجسس على الأراضي الإيرانية، والتخطيط لعمليات تخريبية تستهدف المنشآت النووية الإيرانية، والعلماء والفنيين العاملين داخل هذه المنشآت.

تعاظمت العلاقات بين أذربيجان و”إسرائيل” خلال السنوات التالية، وخصوصاً على المستوى العسكري، بحيث باتت باكو، عام 2016، المستورد الأكبر للأسلحة الإسرائيلية. وكان هذا التوجه من جانب أذربيجان نتيجة فشلها المتكرر في تحقيق أيّ نتائج ميدانية إيجابية في إقليم ناغورنو كاراباخ، وخصوصاً خلال المعارك التي نشبت عام 2016 مع القوات الأرمينية. لكن، بالنسبة إلى طهران، شكّلت هذه العلاقة بين الجانبين مخاطر جدية على الأمن القومي الإيراني، وخصوصاً بعد تكرُّر الحوادث الغامضة التي تطال منشآتها النووية، وعلى رأسها الانفجار الذي شهدته منشأة “شهيد همت” الصناعية في مجمع نطنز النووي، والذي تزايدت مؤشرات ضلوع “تل أبيب” فيه، بعد أن نشرت إحدى المؤسسات الإسرائيلية المرتبطة بـ”الموساد”، صوراً ملتقطة عبر الأقمار الصناعية، تُظهر الأضرار التي لحقت بالمنشأة الإيرانية.

خلال الأزمة الأخيرة بين باكو وطهران، استعرض الجيش الأذربيجاني، على نحو لافت، ترسانته من الطائرات من دون طيار، التركية والإسرائيلية الصنع، قرب الحدود مع طهران. وتزامن ذلك مع بدء باكو المفاوضات مع “تل أبيب” من أجل شراء منظومة “حيتس – 3″ المضادة للصواريخ، وهو نهج أظهر أن أذربيجان تتخذ من علاقتها بـ”تل أبيب” وسيلة للضغط على طهران على نحو مستمرّ. لهذا، لم يكن مستغرباً دفع الجيش الإيراني وحداتٍ قتاليةً كبيرة ونوعية نحو الحدود مع أذربيجان، وأيضاً نحو أراضي ناخيتشيفان، ذات الحكم الذاتي والموالية لباكو. وشملت تلك الوحدات أسلحة تُستخدم ميدانياً للمرة الأولى، مثل دبابات “كرار”.

رد الفعل الإيراني على خطوات أذربيجان تجاه شاحناتها المتجهة إلى عاصمة ناغورنو كاراباخ، كان أكبر كثيراً من حجم هذه الخطوة، في حد ذاتها، فلقد تبادل الطرفان “المناورات العسكرية” قرب حدودهما المشتركة، بحيث كانت البداية مناورات “الأخوة الثلاثة”، والتي جمعت تركيا وباكستان وأذربيجان، في الفترة الممتدّة من الثاني عشر إلى العشرين من أيلول/سبتمبر الماضي، وردّت طهران على هذه المناورات بإطلاق مناورات “فاتحي خيبر” قرب الحدود مع ناخيتشيفان، في الأول من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بمشاركة لواءَين مدرَّعين وكتائب مدفعية وهندسية، ووحدات جوية وأخرى متخصصة بالحرب الإلكترونية.

اللافت هنا أن باكو انتقدت، على لسان الرئيس الأذربيجاني، المناورات الإيرانية، وأطلقت رداً عليها من خلال سلسلة من المناورات العسكرية، منها مناورتان تمَّتا خلال الفترة بين الخامس والثامن من تشرين الأول/أكتوبر. الأولى كانت مشتركة مع تركيا قرب الحدود مع إيران، والثانية كانت مع تركيا وجورجيا، تحت اسم “ما لا نهاية”، في العاصمة الجورجية تبليسي. يُضاف ذلك إلى مناورة أجرتها البحرية الأذربيجانية في بحر قزوين، تمّت خلال الفترة بين الحادي عشر والثالث عشر من الشهر نفسه.

خلاصة القول، أنه على الرَّغم من نزع فتيل أزمة الشاحنات الإيرانية، عبر إطلاق سراح السائقين المحتجزين، فإن مباعث التوتر بين طهران وباكو باتت متعدِّدة الاتجاهات والدرجات، على نحو يدفع إلى القول إن العلاقة بين الجانبين مرشَّحة لمزيد من القلاقل في المستقبل، على نحو يجعل الحاجة ملحّة أمام طهران كي تفعّل ممر “نوردوز – يريفان”، بحيث تحافظ على صلاتها الاقتصادية بأرمينيا من جهة، ومن جهة أخرى تصل إلى صيغة آمنة وفعّالة للتعامل مع تغيُّر الأوضاع الميدانية والجيواستراتيجية عند حدودها الشمالية الغربية، والتي بات لـ”تل أبيب” فيها موطئ قدم واضح.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
الميادين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة × خمسة =

زر الذهاب إلى الأعلى