إسطنبول بهمن قبادي: رؤية سينمائية غرائبيّة
يريد قُبادي الحكي عن إسطنبول المدينة، وعلاقتها بالقادمين إليها من أطرافٍ بعيدة، بلغة سينمائية مشحونة باستعارات (ميتافور) ومناكفات.
ميدل ايست نيوز: بجمعه التراجيدي مع الساخر الغرائبي، في نصّ سينمائي واحد، يضع المخرج الإيراني الكردي بهمَن قُبادي (1969) مُشاهِد فيلمه، “الجدران الأربعة” (2021)، أمام خيار وحيد، للحكم عليه: إمّا أنْ يقبله، أو يرفضه. تقليص الخيارات متأتٍ من حالة إبداعية تلازم النصوص الشخصانيّة عادة، الراغبة في قول انطباعات خاصة، وأحياناً مواقف من أشخاص أو أمكنة.
في فيلمه هذا، يريد قُبادي الحكي عن إسطنبول المدينة، وعلاقتها بالقادمين إليها من أطرافٍ بعيدة، بلغة سينمائية مشحونة باستعارات (ميتافور) ومناكفات لبعض مظاهر عيش أهلها، وذكرياتٍ فيها، يسترجعها صحبة موسيقى مُلازمة بقوّة لمشهد المدينة الكوزموبوليتية.
يتجنّب “الجدران الأربعة” وصم علاقة الكرديّ، القادم من أطراف بعيدة، بإسطنبول، بالعدائية المستحكمة. يختار لها توصيفاً أقلّ حدّة، لا يُلغي تعقيداتها، ولا يتجاهل خصوصية وفرادة كلّ علاقة فيها. بالميتافور والخيال السينمائي، يمكن التخفيف من عمومياتها، فهناك دائماً، وفي كلّ علاقة سياسية ملتبسة، أشياء أخرى، خارجة عن سياقاتها، وجديرة بتأمّل المبدع لخصوصيتها.
قصّة الكردي بوران (الممثل الإيراني أمير أقايي)، وبقليلٍ من الحنكة السينمائية، يُمكن أن تعبِّر عنها. هذا ما يقترحه قُبادي، بإحضار بطله الكردي إلى إسطنبول، ليزعزع بوجوده فيها أحكاماً مسبقة، لا يتأخّر في تقديمها بمشهدٍ، يظهر فيه بوران صحبة مجموعة مسلّحة، تقترب من سياج مطار في إسطنبول. ينتظر، بقلق، أوامر إطلاق الرصاص من بندقيته على طائرة مدنية. تصيب رصاصاتها طيوراً، وتُبعد أصواتها بقية السرب عن الطائرة. هكذا يُنجز موظّفو فرقة طرد الطيور مهمتهم اليومية، في المطار، قبل أنْ يعود كلّ واحد منهم إلى بيته.
لتعميق الصراع الوجودي لبطله، المتخطّي نزاعاً سياسياً، يعرض قُبادي، عبر حكايته المُختَرعة، رؤيته لمدينةٍ عاش فيها طويلاً، وأراد الكتابة عنها من منظور شخصي، لا انفصام فيه عن مُكوّنه القومي، ولا عن وجوده فيها، مُبعَداً من بلده إيران. حكاية فانتازية، بطلها عازف موسيقي كردي، أراد، بما جمعه من عمله كصيّاد طيور في المطارات، شراء شقّة له في إسطنبول. من على شرفتها، يُمكن لزوجته رؤية منظر البحر كلّ يوم. كان هذا حلمها، وأراد أنْ يحقّقه لها. في الطريق إلى المدينة، تتعرّض سيارته لحادث سير مروّع، تموت فيه زوجته وابنهما الصغير. بعد أشهرٍ أمضاها في غيبوبة، يستعيد وعيه، ويذهب مباشرة إلى الشقّة. لم يجد فيها زوجته، ولا البحر. حجبت بناية، شُيّدت في فترة وجوده في المشفى، منظره الجميل. لم يتقبّل فكرة الموت، ولا ضياع البحر.
حكاية منافذها تطلّ كلّها على مدينة جميلة، أراد التكيّف معها عازف البزق الكردي، القادم من الجبال. مضيقها البحري وحده يكفي لفكّ شدّة علاقته بصخور الجبل القاسي. مدينة اقترن وجودها بالموسيقى. الحزن غالب على ألحانها. لا غرابة في ذلك، فإسطنبول مدينةٌ حزينة، لكنّها مُحبّة للموسيقى. هكذا تبدو في منجز قُبادي، الذي يُكرّر دائماً في مقابلات صحافية حبّه للموسيقى (يتشارك مع فيدات يلديرِم في كتابة الموسيقى التصويرية لفيلمه هذا)، وأنّه، لو لم يكن سينمائياً، لأراد أنْ يكون موسيقياً.
فيلمه “نصف القمر” (2006) يجسّد ذلك الشغف بها. في “الجدران الأربعة”، يُعيد التذكير به، عبر جمعه حشداً من العازفين في قاربٍ مُهمل، اتّخذه صديقه الكردي بوشاق (فاتح أل) منزلاً له، وملتقى لعازفي فرقة موسيقية شعبية.
من قلب الحدث التراجيدي، ينبع الفانتازي الكوميدي، ويُجَسّد باشتغال سينمائي بارع، عُرف به بهمَن قُبادي، المتعدّد المواهب (شارك في كتابة سيناريو “الجدران الأربعة” مع حميد حبيبي). التراجيدي مُعبّر عنه بعذابات الموسيقيّ، جرّاء ما حدث لعائلته، ورفضه الاعتراف بالموت حقيقة مطلقة. فيما تحضر الكوميديا من خلال عناده وإصراره على استرجاع منظر البحر، كما كان قبل موت زوجته. من دون كلل، يُناشد سكّان العمارات القريبة من البناية الجديدة لرفع شكوى ضد شركة البناء، والمُطالبة بهدمها. الشرطة تتدخل (دور رائع لضابط شرطة، يؤدّيه الممثل التركي باريش يلدز)، والمشاكل تتّسع دوائرها، لكنّها لا تفضي إلى نتيجة. هذا عالم تحرّكه المصالح، التي لا توقفها أحلام امرأة كردية، لم يعد لها وجود.
خساراته أكبر من ضياع منظر بحري. لشدّتها، حتّى تسامحه ومغفرته لم تخفّف عنه ثقل أوجاعه. عفوه عن المراهق، المتسبّب بالحادث، استجابة لتوسّلات أمّه الخائفة (الممثلة التركية فوندا إريجيك)، لم تُرح ضميره. ظلّت عقدة الذنب تلازمه، ولم يتخلّص منها. كان عليه وضع حدّ لوجعه بالانتحار.
رصاصات تنطلق من بندقيته إلى قاربه الصغير، وهو على متنه. يغرق القارب، ويغرق هو معه. بموته، يودّع مدينة حلمت حبيبته (الممثلة الكردية دنيزخان أكبابا) برؤية بحرها، لكنّه، قبل نهاية رحلته إليها، يتخيّل نفسه ماشياً بالقرب من ساحلها، المرسوم على قطعة قماش كبيرة، وضعتها شركة البناء على واجهة البناية، التي حجبت جدرانها منظر البحر. أرادت خداعه بمنظر وهمي. لم يدرك أصحابها أنّ عذابه أعمق بكثير من ضياع مشهد جميل، في مدينةٍ تحبّ الموسيقى مثله، لكنّها لا ترحّب بالغرباء.
ألهذا السبب تنتهي أحلامهم فيها؟ سؤال مُبطّن، يُثيره سردٌ مُراوغ، يُزعزع اليقين، لكنّه لا ينشد محواً لسلطة النقد. ينفتح صانعه أمام أسئلته، ويترك لمُشاهِد فيلمه حرية الاختيار بين الانحياز إليه، أو التحفّظ عليه.