إيران والاتجاه شرقاً بين الواقع والمرجو: نقاش حول نوايا الصين

علی وقع اندثار المخرجات الاقتصادية المرجوّة إيرانياً من الإتفاق النووي، أعاد المنادين بمقاربة الاتجاه شرقاً إلى الواجهة في السياسة الإيرانية.

ميدل ايست نيوز: مع تراجع العلاقة الإيرانية الغربية علی وقع اندثار المخرجات الاقتصادية المرجوّة إيرانياً من الإتفاق النووي، أصيب “النموذج الصيني” الموجّه لسياسة حكومة “الاعتدال” للرئيس روحاني بمقتل أعاد المنادين بمقاربة الاتجاه شرقاً إلى الواجهة في السياسة الإيرانية.

وبالرغم من تركيز مقاربة الاتجاه شرقا علی إحداث توازن دولي يُسعف إيران في الوقوف أمام حملة “الضغوط القصوى” و يمكنها بالتالي من الإستمرار في المقاومة أمام السياسة الأمريكية والذود عن استقلالها، فإن الإطار المنظِّم لتلك المقاربة يشير إلى إستراتيجية أوسع تقول بضرورة الإصطفاف إلى جانب القوى الصاعدة عالمياً أمام القوی المسيطرة (الولايات المتحدة).

وقد شهدت مقاربة الاتجاه شرقاً في حقبة الرئيس رئيسي تطوّرات أعادت إثارة النقاشات النخبوية والجدل السياسي حولها. فما المستجد؟ وإلى أين يمضي ذلك خيار الاتجاه شرقا؟ نركز في هذه الورقة علی أحدث التطوّرات المرتبطة بتلك المقاربة، بعد تفصيل أبعادها ومعانيها وخبرة إيران السابقة بها، لاستخلاص مخرجاتها في سياسة إيران الخارجية وعلاقاتها مع كل من روسيا والصين بشكل محدد.

انكفاء النموذج الصيني

يمثّل النموذج الصيني أحد النماذج التنموية، الموجّهة لأولويات السياسة الخارجية، التي أثارت الكثير من النقاش النظري والجدل السياسي في إيران. بدأت ضرورة التهدئة (Detente) مع الخارج لإعادة إعمار وتنمية الاقتصاد في الداخل تأخذ حيّزاً متصاعداً في النقاشات السياسية الإيرانية بعد وضع الحرب العراقية الإيرانية أوزارها وبعد انتخاب الراحل أكبر هاشمي رفسنجاني رئيساً للجمهورية في إيران بشكل محدد.

فأمام واقع اقتصادي وتنموي مأزوم إثر حربٍ أتت بويلات جمة علی المجتمع الإيراني، أتت ضرورات المرحلة بالشعب الإيراني لإنتخاب إدارة ركزت في حملتها الإنتخابية علی “إعادة الإعمار” في الداخل و”التهدئة” مع الخارج. وما كانت السياستان إلا جمعٌ لما قامت به الصين، أي النموذج الصيني، من التهدئة مع الولايات المتحدة، والدول الغربية في الخارج، للتركيز علی التنمية الاقتصادية في الداخل.

بذلك قامت إدارة رفسنجاني بالشروع في سياسة التهدئة مع الجوار وانطلقت جولات “الحوار الإنتقادي” مع الإتحاد الأوروبي في التسعينيات من القرن المنصرم. وكان الهدف الرئيسي لتلك السياسة يتمثّل بتقليص أعباء السياسة الخارجية من جهة والإتيان بالأموال العربية والغربية إلى الاقتصاد الإيراني من جهة أخرى.

تراجع التركيز علی التنمية الاقتصادية مع انتخاب الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي عام 1997 بأجندة تمحورت حول التنمية السياسية في الداخل. بذلك استمرّت السياسة الخارجية الداعية للتهدئة إذ كانت تُمثّل ضرورة للحد من إسقاطات السياسة الخارجية علی التطوّر السياسي في الداخل حسب القائمين عليها.

وبينما غيّر الرئيس خاتمي أولوية الحكومة من التنمية الاقتصادية إلى التنمية السياسية، طرح الرئيس محمود أحمدي نجاد (2005-2013) تصوّراً اختلف بشكل جذري عن رؤى سلفيه. إذ لم يعد للتهدئة مع الدول الغربية أولوية في رؤية أحمدي نجاد الذي عزل الداخلي عن الخارجي ولم يُعر إسقاطات السياسة الخارجية علی الاقتصاد والسياسة الداخلية أهمية تُذكر.

ولظرف صعود أحمدي نجاد أثر واضح في سياسته الخارجية؛ فقد أنعمت الطفرة النفطية في حقبة الرجل بمداخيل مالية لم تدر بمخيلة سلفيه الباحثين عن الإستثمارات الأجنبية. ولأول مرة في تاريخ إيران بدأ الحديث عن الاتجاه شرقاً كخيار استراتيجي يؤمّن المصلحة القومية الإيرانية. نتج ذلك التوجّه عن تزايد الضغط الغربي الذي نقل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن و صدرت علی إثره قرارات عقابية أتی تراكمها بأثقال مرهقة علی الاقتصاد الإيراني تُوّجت بحملة “عقوبات معيقة” (Crippling Sanctions) من حكومة الرئيس أوباما فيما بعد.

وبعد ثمانية أعوام من السياسة الخارجية المناكفة للغرب والداعية إلى الاتجاه شرقاً، صوّت الإيرانيون لبرنامج روحاني الذي عاد بخطابه وسياسته إلى “النموذج الصيني”. فقد ذكر روحاني أثناء حملته الإيرانيين، في خطاب اقترب من رؤية رفسنجاني، بضرورة أن تخدم السياسة الخارجية التنمية الاقتصادية في الداخل. وبذلك عادت إيران إلى النموذج الصيني من البوابة النووية. وكان الرئيس روحاني واضحاً عند قوله بأن استمرار البرنامج النووي يجب أن لا يمنع دوران العجلة الاقتصادية.

وكان الرئيس روحاني واضحاً بوضع سياسة خارجية تركز علی نزع فتيل الأزمة النووية كمحور لإعادة دمج إيران في منظومة القيمة العالمية (Global value chain) وبالتالي تنمية الاقتصاد الإيراني. وكان الرئيس روحاني قد تكلّم عن النموذج الصيني ونشر المركز الاستراتيجي للبحوث الذي رأسه قبل انتخابه رئيساً لإيران، كتبا ودراسات عن ذلك النموذج أحصت فوائده التي وجّهت سياسة روحاني فيما بعد.

بناءاً علی ذلك النموذج وبمجرّد تسلمه مهام الرئاسة، بدأ روحاني علی تنشيط الدبلوماسية النووية، وفق رؤاه المطبوعة بكتاب تحت ذات العنوان.

ووفق نموذجه الصيني كان عليه التهدئة مع الخارج من البوابة النووية للانتقال إلى التنمية الاقتصادية عبر دمج الاقتصاد الإيراني في الاقتصاد العالمي. تُوّج ذلك الجهد باتفاق نووي وُقّع عام 2015. وكان المرجو أن يؤدي حل العُقدة النووية إلى الابتعاد عن المشاحنات الخارجية والتركيز علی التنمية الاقتصادية في الداخل. أتی الرئيس ترامب بانسحابه من الاتفاق النووي وعقوباته القصوى علی كل تلك الحسابات، وانتقلت حكومة روحاني بالتالي من أولوية التنمية الاقتصادية إلى “المقاومة الاقتصادية”. وانتهی بذلك النموذج الصيني في إيران إلى حين.

وبدأت فترة استمرت إلى اليوم من علاقات متدهورة بالدول الغربية تضع “المقاومة القصوي” أمام “الضغوط القصوى” أنتجت برنامجاً نووياً متطوّراً قلّص فترة الإختراق بشكل مؤرق للدول الغربية، وإن لم يفلح في الإتيان بانفراجة اقتصادية حتی الآن.

أسباب وأبعاد الاتجاه شرقا

أصاب الرئيس ترامب النموذج الصيني بمقتل عند انسحابه من الإتفاق النووي وفرضه عقوبات أحادية علی إيران، ما أعاد الاتجاه شرقاً للواجهة مرة أخرى. ولأن الاتجاه شرقاً يناقض كل ما نادت به إدارة روحاني منذ حملته الانتخابية الأولی، لم يكن بمقدور إدارته تغيير البوصلة الخارجية وتبنّيه كخيار استراتيجي رئيسي.

نتيجة لذلك وجد الشعب نفسه أمام خيارين في انتخابات عام 2021: انتخاب شخصية مقربة من روحاني علی أمل أن تغيّر إدارة ترامب أو خليفتها الأولويات الأمريكية وتعود لتنفيذ الاتفاق الموقّع عام 2015 أولاً، وانتخاب رئيس يغيّر السياسة المتبعة عبر أجندة وأولويات خارجية مختلفة ثانيا، ووهو الذي رجّحته انتخابات 2021 الرئاسية.

مع انتخاب رئيسي، عاد الاتجاه شرقاً وبدفعة أقوى من ذي قبل ليوجّه سياسة إيران الخارجية ويدير اقتصاد البلاد بطريقة مختلفة عن النموذج الصيني. هدفت سياسة رئيسي إلى التركيز علی القدرات الداخلية والتقرّب من الدول الشرقية التي تشمل القوى الآسيوية، الصين والهند وروسيا، أى القوى الصاعدة وفق فهم استراتيجيي إيران، وذلك للحد من أثقال العقوبات الأحادية المفروضة علی البلاد. لا تمر، وفق هذه الرؤية، التنمية الاقتصادية عبر الإتفاق مع الدول الغربية بالضرورة. فقد كان الرجل واضحاً عند قوله إنه لن يضع مقدرات البلاد جانباً لينتظر مآلات الاتفاق النووي.

ورغم استمراره بالدبلوماسية النووية مع دول الـ1+5، فإنه عمل جاهداً علی بناء علاقات وطيدة مع القوى الصاعدة. ويمكن تحديد أربعة أبعاد ومعان لاستراتيجية الاتجاه شرقا.

أولًا، يأتي ذلك التوجه بالبديل على المستوى الدولي أمام رفض الدول الغربية إنهاء عزلة إيران الاقتصادية والسياسية. أي إنها تعطي إيران إمكانية لتطوير وضعها على المستوى الدولي دون الركون للنظام المُسَيطر عليه غربيّاً. ولأن التوجه غرباً لحكومات سابقة أتی بعكس المرجو في طهران من ضغوط اقتصادية وسياسية جمة، يمثّل الاتجاه شرقاً مخرجاً معاكساً يبحث عن تحقيق ذات الأهداف بطرق وأدوات مختلفة.

ثانيًا، يفتح لإيران أبوابًا اقتصادية تمكِّنها من الحد من وطأة العقوبات الاقتصادية الأمريكية أولًا، ويأتي بالاستثمارات التي تمكِّن طهران من تطوير قطاعاتها الاقتصادية الحيوية المعاقبة غربيًّا ثانيًا. والهدف الرئيس هنا هو إعادة هيكلة العلاقات الدولية لطهران بطريقة تمكنها من تقليص آثار تلك العقوبات علی اقتصادها.

ثالثاً، يعبِّر ذلك التوجه عن اهتمامات إيران الدولية في المرحلة الانتقالية علی مستوی النظام الدولي وتعني فيما تعنيه اصطفاف إيران إلى جانب القوى الصاعدة (الصين بالدرجة الأولى وروسيا ثانيًا) أمام القوى المسيطرة (الولايات المتحدة). هو عالم متغير كما تفهمه إدارة رئيسي واستراتيجييها ولذلك فهي تعول على التقارب من أصحاب الحظوة في النظام الدولي الصاعد.

ورابعاً، يمكن الحديث عن بعد داخلي للاتجاه شرقًا. فأمام اتجاه التيارين “الإصلاحي” والاعتدالي” غربًا، يقوم المحافظون بالموازنة عبر الاتجاه شرقًا. وفي مثال لهذا الميل للموازنة، يمكن اعتبار مزامنة التعاون العسكري مع روسيا في سوريا مع توقيع الاتفاق النووي، عام 2015، محاولة للموازنة بين اتجاهي السياسة الخارجية في الداخل.

هو خيار إستراتيجي يهدف لتعديل وضع إيران الدولي عبر إعادة تأطير اتجاهات إيران الدولية وتقليص آثار محاولات الدول الغربية الضغط علی إيران عبر عزلها عن الاقتصاد العالمي تارة والحد من تحركها الدولي في إطار مؤسسات “النظام الدولي” تارة أخرى. ولا يغيب عن رئيسي وطاقمه أن للاتجاه شرقاً في الوضع الراهن وظهور بوادر تفكك النظام الإقليمي الخاضع للولايات المتحدة، مفعول في الرقي بمستوی التعاون الإقليمي بتوازنات دولية مختلفة عن ذي قبل.

وبما أن لإدارة رئيسي أولويات إقليمية جرى التأكيد عليها بإستمرار كبديل للتوجه الدولي لإدارة روحاني، فإن إعادة التركيز علی الإقليم بأبعاده الدولية تمثّل نافذة جديدة لم تكن لتهتم بها إدارات سابقة أولت البُعد الدولي اهتماماً أكبر. لذلك، يمكن الحديث عن الاتجاه شرقاً باعتباره محاولة لإعادة التوازن إلى اتجاهات إيران الدولية والإقليمية، بأبعادها الداخلية.

تطورات التوجه شرقا

توطيد العلاقة مع روسيا

لم تكن روسيا بعيدة عن حسابات إيران الاستراتيجية في العقود الماضية، وإن ابعتدت بالتقرّب من واشنطن في التسعينيات، فقد أعاد نأي بوتين بها عن “المحور الغربي” اهتمام إيران بتوطيد العلاقة بها. وإذ تدرّجت العلاقات الثنائية في نموّها من البُعد السياسي إلى أبعاد غيرمسبوقة كالتعاون العسكري، فقد أسعف الظرف الدولي والتطورات الإقليمية رقي العلاقات بين البلدين.

وبينما وضعت مجابهة السياسة الغربية كل من إيران وروسيا في خانة الدول الأكثر تعرضا للعقوبات الغربية؛ فقد أثْرَت تلك العقوبات فحوى العلاقات الثنائية بتعاون اقتصادي وعسكري قل نظيره في تاريخ الجمهورية الإسلامية. وكانت الشراكة الوليدة بين البلدين في الشرق الأوسط قد أبدتهما كشريكين استراتيجيين في سنوات تصاعد أزمتي أوكرانيا والاتفاق النووي. وبالإضافة للتقارب السياسي البادي في الزيارات المتبادلة بين قادة البلدين، فثمة ثلاثة محاور لتطوّر العلاقة:

التعاون الاقتصادي التجاري؛ بعد تريّثها أمام العرض الإيراني حذف الدولار والانتقال للعملات المحلية في التجارة البينية في مراحل سابقة، أبدت روسيا علی لسان رئيسها الاستعداد لاتخاذ تلك الخطوة. وازداد حجم التجارة البينية منذ بداية 2022 حتی نهاية أكتوبر من ذات العام بنسب متفاوتة تراوحت بين 27 بالمئة للصادرات الروسية لإيران و 10 بالمئة للصادرات الإيرانية لروسيا وقيل إن الرقم قد تخطّی الأربع مليارات دولار المسجّل سابقا كحد أقصی.

وكان قد جرى التفاهم علی الرقي بالتجارة البينية إلى 40 مليار دولار في غضون العشرة الأعوام المقبلة. كما جرى توقيع أكبر مذكرة تفاهم في تاريخ العلاقة بين شركة النفط الوطنية الإيرانية وشركة غازبروم الروسية لتطوير حقول نفط إيرانية. ورغم ضرورة الانتقال من المذكرة إلى عقود محددة لتُترجم تعاوناً علی الأرض، فإن المقايضة تبدو مربحة للبلدين، إذ تُسعف التقنية الروسية طهران في تطوير البنی التحتية للطاقة الإيرانية المعاقبة أصلاً بشكل واسع من جهة وتُساعد روسيا في ضغطها علی الدول الغربية بإظهار تعاونها في مجال الطاقة مع ثاني أكبر مصدر للغاز والنفط في العالم من جهة أخری.

توسيع شبكة المواصلات؛ تزايد الإهتمام الروسي في توسيع شبكة المواصلات الممتدة من جنوب شرقي إيران إلى شمالها. لم تكن موسكو لتهتم بشبكة المواصلات تلك في غياب العقوبات الغربية التي حرمتها من مواصلاتها مع الدول الغربية. تمتد شبكة المواصلات الدولية الجديدة التي تعمل الدولتان علی توسيعها من شرقي أوروبا إلى البحر الهندي، 3000 كيلومتر تعبر بعيداً عن أي تدخّل أجنبي. هو طريق إمداد مضاد للعقوبات الغربية، أسعف بُعده المائي في بحر قزوين، سيطرة روسيا علی بحر الأزوف إثر الحرب الأوكرانية. وفي سياق ذلك قامت روسيا بدعم عضوية إيران في اتحاد أوراسيا الاقتصادي، وهو اتحاد قائم علی تسهيل التجارة الحرة والمشاريع المشتركة بين الدول الأعضاء.

التعاون التسليحي التقني؛ يبدو أن لهذا المجال الغامض الذي لا يجري الإفصاح عن تفاصيله، حصة كبيرة من التعاون المتصاعد بين البلدين؛ فالتقارير المنشورة غربياً علی الأغلب تشير إلى تصدير إيران كمّاً كبيراً من الطائرات المسيرة، قلبت موازين الصراع الغربي الروسي في أوكرانيا. وإذا صحت تلك التقارير فإيران تزوّد روسيا بسلاح يوازن ما في جعبة أوكرانيا من سلاح غربي، وذلك بكلفة زهيدة. وكانت الحكومة الأوكرانية قد ادّعت أن حجم المسيّرات الإيرانية المستخدمة من قبل روسيا وصل حتی الآن 540.

أمام ذلك ووفقاً لتقارير أخرى، تحصل إيران علی أنظمة دفاعية وتسليحية متقدمة كبطارية الدفاع الصاروخي أس-400 ومقاتلات تفوّق جوّي SU-35، وكذلك الغنائم الروسية من التقنية العسكرية في الحرب الأوكرانية. هي مقايضة لا يمكن المرور بأهميتها العسكرية لإيران بسهولة. فـإن صحت تلك التقارير، تحصل الدولة المعاقبة عسكرياً حتی العظم والتي قامت ببناء برنامج صاروخي متطوّر نتيجة تلك العزلة وردعاً لأطماع أعداءها، علی مقاتلات وأنظمة دفاعية تمنحها قدرات وميزات عسكرية غيرمسبوقة منذ 1979.

بشكل عام، أحدث الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي أولاً وتوسّع الناتو ومآلاته في أوكرانيا ثانياً أرضية مؤاتية لتوسيع العلاقات الإيرانية الروسية في اتجاهات عدة شملت الاقتصاد والمواصلات والتسليح. وتصر قيادة البلدين علی المضي نحو علاقات أوسع وأعمق تعطيهما وزناً أكبر في النظام العالمي الصاعد أمام القوى الغربية.

وتعكس نقاشات الدوائر الاستراتيجية في إيران ميلاً أكبر للتقارب مع روسيا بعد أن كان ذلك الخيار يثير حفيظة الكثيرين لأسباب تاريخية ومعاصرة، عكست انعدام الثقة بروسيا والوعود التي قطعتها بل والعقود التي وقّعتها سابقا. ينكمش ذلك الخطاب المشكك اليوم لسبب واضح يعبّر عنه البعض بالإشارة إلى توازن العلاقات في الحقبة الجديدة بين بلدين معاقبين يحاولان الحد من وطأة العقوبات وموازنة الضغوط عبر التكتّل، وذلك خلافاً لما كان سائداً في السابق.

نقاش حول نيات الصين

بعد أعوام من النقاش المحتدم داخلياً حول الطُرُق الأمثل للتعاطي مع المستجد دولياً (الصعود الصيني علی حساب القوة المسيطرة أي الولايات المتحدة) طُرحت مقاربة الاتجاه شرقاً في حقبة أحمدي نجاد كرد استراتيجي علی السؤال المحوري في ذلك النقاش. واصطدمت تلك الرؤية بواقع مجاراة الصين للولايات المتحدة في حملة “العقوبات المعيقة” وتصويتها لصالح الكثير من العقوبات الأممية ضد طهران من جهة وصعود حكومة روحاني التي لم تعتمد مقاربة الاتجاه شرقاً من جهة أخرى.

وكما في الحالة الروسية، ونتيجةً لعودة العقوبات بحلتها الأحادية وصعود المعوّلين علی الاتجاه شرقاً كحل استراتيجي، عادت الصين والعلاقة معها لتحدد جزءاً مهماً من معالم سياسة إيران الدولية.

نتيجة لذلك بدت ملامح التقارب الإيراني الصيني بوضوح بعد توقيع وثيقة التعاون الشامل بين البلدين، ما أظهر اهتماما متبادلا في رؤى الطرفين للرقي بعلاقاتهما. ففي الجانب الاقتصادي والتجاري، نمت العلاقات من مليار دولار إلى 51 مليار دولار علی مدى ثلاثة عقود. ومن الواضح أن الزيادة المطردة للترابط الاقتصادي شكلت دافعًا لتأطير العلاقة بوثيقة التعاون الشامل وتوسيع مجالاتها بخطة عمل. إلا أن التطور الكبير يجب أن لا يُحشر في تلك الزاوية المركزة علی الاقتصاد فقط.

فإن كان الأمر لا يُشكل استثناءً في علاقات الصين العالمية، فإنها المرة الأولی التي تدخل إيران فيها إطارًا استراتيجيًّا لتطوير علاقاتها مع قوة عالمية. بالإضافة لذلك، دعمت الصين وروسيا عضوية إيران في منظمة التعاون الأمني شانغهاي، وهو إطار مؤسساتي لتأطير العلاقات الأمنية والعسكرية بين إيران والدول الأعضاء في مرحلة دولية تشهد استقطابات عالمية بين القوى الآسيوية والغرب. أي إن إيران المعاقبة غربياً تؤكد بانضمامها لتلك المنظمة خيارها الوقوف إلى جانب الأقطاب الصاعدة عالمياً علی حساب تلك المسيطرة، ويجري الترحيب بذلك من قبل كل من روسيا والصين.

وكما هو الحال في العلاقة مع روسيا، يمكن اعتبار تحرّك إيران نحو إحداث الموازنة بُعداً يغلب علی باقي أبعاد الاتجاه شرقا. كما أن الميل الصيني للرقي بالتعاون مع إيران يُبدي نظرتها لإيران كشريك استراتيجي يمكن الاعتماد علی ابتعاده عن الركون للإطار الأمريكي في الشرق الأوسط.

وإذ تستمر الصين بابتياع الطاقة من إيران والعمل الاقتصادي والتجاري معها رغم حملة الضغوط القصوى، لا تُعبّر المرحلة التي تلت توقيع وثيقة التعاون الشامل عن تغيير مهم في مستوى وفحوى التعاون الثنائي حتی الآن، وهو ما يأتي بخطاب المنتقدين لمقاربة الاتجاه شرقاً للواجهة. وقد أعطت زيارة الرئيس الصيني للرياض وتوقيعه بعضاً من البيانات والوثائق المشتركة دفعة أقوى لخطاب المنتقدين.

لم تكن لتثير زيارة الرئيس شي المملكة السعودية ما أثارته من نقاش في الداخل الإيراني انعكس علی خطابها الرسمي لو بقيت في حدود الاتفاقيات الثنائية. ففي الإطار الاستراتيجي، يرى الإيرانيون في الدور الصيني عنصراً موازناً في المنطقة لرؤية بكين الأكثر توازناً من الغرب إزاء إيران وجاراتها من جهة، ولإيلاء بكين الاستقرار في المنطقة المصدرة للطاقة إليها، أهمية قصوى من جهة أخرى.

ولذلك، فإن انخراطها في تعاون اقتصادي وتجاري أوسع في المنطقة، وإن أتی مع المملكة السعودية المنافسة الإقليمية لإيران، يأتي في سياق سياسة إيران الإقليمية ولا يزعجها. إلا أن ما استفز الإيرانيين أتی في توقيع الرئيس شي علی البيان الختامي للقمة المشتركة التي جمعته بقادة دول مجلس التعاون، فبعد أن يؤكد البيان في البند الحادي عشر علی “مشاركة دول المنطقة لمعالجة الملف النووي الإيراني، والأنشطة الإقليمية المزعزعة للاستقرار،

والتصدي لدعم الجماعات الإرهابية والطائفية والتنظيمات المسلحة غير الشرعية، ومنع انتشار الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة”؛ يُعيد التأكيد في البند الثاني عشر علی دعم “كافة الجهود السلمية، بما فيها مبادرة ومساعي دولة الإمارات العربية المتحدة للتوصل إلى حل سلمي لقضية الجزر الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى…” وهو ما أثار الإيرانيين لما فيه من “دعم الصين ادعائات الإمارات حول الجزر ” من جهة ولخروج الصين عن المألوف في العلاقة الودية بينها وبين طهران من جهة أخرى.

ثار النقاش كالنار في الهشيم بعد صدور البيان وتمحور حول أسباب ومعاني توقيع الصين، ومآلات العلاقة مع بكين. وإن فسّرنا الردود الإيرانية فيمكن تبويبها في رؤتين رئيسيتين؛ ففي الرؤية الأولی وهي الرؤية التي طغت علی النقاش، لم تُبد الصين اهتماماً لحساسية الموضوع بالنسبة لإيران.

وذهب البعض إلى حد اتهام الصين بخيانة صديقها القديم والوثيق في الشرق الأوسط. يعلل أصحاب هذه النظرة السلوك الصيني بأسباب عدة منها ترجيحها العمل الاقتصادي والتجاري مع دول مجلس التعاون علی التعاون مع إيران (المجبرة إلى حد كبير علی الاستمرار في التعاون مع الصين بسبب العقوبات الأمريكية) ومحاولة الصين إبعاد مجلس التعاون عن الولايات المتحدة، وهو أمر لا تحتاجه فيما يخص إيران البعيدة عن واشنطن أصلا.

أما الرؤية الثانية فرجّحت عدم وقوف الصين علی حساسية الموضوع بالنسبة لطهران وانتقدت جهاز الخارجية الإيراني لعدم توقّع وتفادي ذلك عبر إيضاح الواقع بالنسبة لبكين قبل زيارة شي للرياض.

ويقول أصحاب هذه القراءة بأن البند المثير بالنسبة لإيران لم يتجاوز، في نظر الصين، الخطوط العريضة المعروفة للخارجية الصينية الداعية عادة إلى حل الخلافات الدولية عبر الحوار والركون للقانون الدولي.

وبعد إثارة الجدل الداخلي والنقاش النخبوي حول واقع ودوافع الموقف الصيني، ذهبت إيران الرسمية نحو الرد علی الموقف الصيني. فعند زيارة مساعد رئيس ­الوزراء الصيني طهران في غضون النقاش الساخط من الموقف الصيني وفي موقف نادرٍ لم تعهده العلاقات الثنائية، قام التلفزيون الإيراني بنشر صور للرئيس الإيراني مخاطباً ضيفه بنبرة غير معهودة شكا فيها باسم “الحكومة والشعب الإيراني” مما صدر من الرئيس الصيني في الرياض وقال بأن سلوك الأخير أثار شكوكاً لدى الإيرانيين، وهو ما حاول الضيف الصيني تبديده بكلمات ودية حدت من الجدل وإن لم توقفه.

وقام وزير الخارجية بتغريدة باللغة الصينية قال فيها إن بلاده “لن تجامل أي طرف فيما يخص وحدة التراب الإيراني”(18) ورغم تلك المواقف المعبّرة عن الردود والنقاشات الداخلية، يمكن تلخيص الموقف إيرانياً بعدم التأكد من مغزی التغيير الطارئ، وما إذا كان مقصوداً ويعبّر عن استدارة صينية أم إنه غيرمقصود يعبّر عن عدم وقوف الصين علی حساسية الموضوع. وغني عن القول بأن التأكد من أي من الافتراضين سيؤدي إلى اتخاذ مواقف وسياسات مختلفة فيما يخص الصين والعلاقة معها.

النتيجة

أدى انسحاب الولايات المتحدة من الإتفاق النووي وفرضها عقوبات “الضغوط القصوى” بشكل أحادي إلى انكفاء النموذج الصيني الذي قام بالعمل وفقه الراحل رفسنجاني وحاول إعادة تطبيقه الرئيس روحاني. وضخّ ذلك الانكفاء الروح في مقاربة الاتجاه شرقا من جديد.

وهي مقاربة تبحث عن البديل الدولي أمام الضغوط الغربية لفتح أبواب اقتصادية جديدة أمام إيران إلى جانب تطوير علاقاتها بالأقطاب الصاعدة في نظام دولي في مرحلة انتقال، كما تبحث عن إحداث توازن بين اتجاهات السياسة الخارجية الإيرانية في الداخل. أتت الحرب الأوكرانية لتُعطي دفعة قوية للاتجاه شرقاً مع روسيا بشكل محدد كما يُبدي تزايد أرقام التجارة البينية والمشاريع المشتركة ومذكرات التفاهم والاتفاقيات الموقعة بين روسيا وإيران.

وتشير التقارير المنشورة عن التعاون العسكري بين البلدين إلى صور غير مسبوقة ومستويات عُليا للتعاون بمقايضات يراها الطرفان مربحة. وكان الاتجاه شرقاً قد بدأ زخمه الجديد مع توقيع اتفاقية الإطار للتعامل الشامل بين إيران والصين، إلا أن توقيع الرئيس الصيني لبيان مشترك مع قادة دول مجلس التعاون (رأى فيه الإيرانيون إساءة لبلدهم) أرسی مركب التفاهمات الصينية الإيرانية علی كم هائل من الانتقادات.

وقامت الصين بمحاولة لنزع فتيل النقاش الحاد ضدها بزيارة مقتضبة قام بها مساعد رئيس الوزراء فيها لطهران. إلا أن ذلك لم يُبدّد الشكوك في طهران، إذ ما زال السؤال حول النيات والأهداف الصينية مطروحا.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
مركز دراسات الجزيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

7 + 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى