العقوبات أم الحكومة.. حلقة مفقودة وراء أزمة الدواء في إيران

توغلت إيران منذ أكثر من ثمانية عقود في ساحات إنتاج وتصدير الأدوية والمواد الخام وحصدت المرتبة السابعة في العالم بعد أن وصلت إلى الاكتفاء الذاتي بنسبة 96%.

ميدل ايست نيوز: لطالما كانت الصناعة الدوائية على مدى قرون من أهم القطاعات الاقتصادية لجميع دول العالم إلى جانب الصناعة العسكرية، لما لها من أهمية كبيرة ودور حاسم في تحسين جودة الحياة والحفاظ على صحة البشرية، حيث بات واضحاً في مستهل العصر الحديث وبالأخص بعد “جائحة كورونا” ما تمثله هذه الصناعة وكيف أصبح للدول المتقدمة السبّاقة في تطوير اللقاحات مكانة بل ونفوذ عالمي والذي جعل منها صاحبة الكلمة الأولى لاستكناه المستقبل الصي والتحكم في مصير الموقف الوبائي الذي سيحمله لنا.

زادت أهمية تطوير علوم وتكنولوجيا صناعة الأدوية في سياسات دول العالم بعد الغلاء الذي طرأ على سلعها وعقاراتها بحيث أصبحت هذه الصناعة أحد التخصصات الثلاثة الأكثر شيوعاً في العلوم التجريبية، ولاقت رواجاً وتحفيزاً حكومياً وأُنفق عليها أموال لا حصر لها لتطوير البنية التحتية للمختبرات والمصانع والتسويق، لماذا كل هذا؟ لأن هذه الدول علمت أنها إن لم تستطع الاعتماد على نفسها في إنتاج الأدوية لمقاومة الأمراض والأوبئة التي تهدد شعوبها، مثل السرطان، وأمراض القلب، والسكري، فإنها ستتحمل أعباء مالية كبيرة لاستيرادها من الخارج.

حسناً، هل كانت إيران من بين هذه الدول؟ توغلت إيران منذ أمد بعيد في ساحات إنتاج وتصدير الأدوية والمواد الخام وحصدت المرتبة السابعة في العالم بعد أن وصلت إلى الاكتفاء الذاتي بنسبة 96%، وفق ما قالته بي بي سي.

وصاحب تطور الصناعة الدوائية في إيران ارتقاء واضح في النظام الصحي للبلاد، والذي أصبح وجهة للعلاج من مختلف دول العالم إضافة إلى تلبيته احتياجات السوق المحلية وتصدير المنتجات إلى الأسواق الإقليمية، لا سيما بعد تطوير تكنولوجيا الأدوية والبحث العلمي لتحسين جودة وفاعلية منتجاتها الدوائية.

أهم شركات الأدوية

عكست الأدوية الإيرانية توجّه البلاد نحو تطوير القطاع الصحي والتقنيات الطبية المتقدمة التي ألقت تأثيراً إيجابياً على الصحة العامة في إيران وخارجها أيضاً.

تشتمل الصناعة الدوائية في إيران على مجموعة متنوعة من الشركات والمنشآت، بدءًا من الشركات الحكومية وصولًا إلى القطاع الخاص الذي تبلغ حصته أكثر من 60%. هذه الشركات تعمل على إنتاج مجموعة واسعة من الأدوية والمعدات الطبية التي تشمل الأدوية الجنينية، والعشبية التقليدية، والأدوية البيولوجية، والأدوية الصناعية الحديثة، والذي وصل عددها إلى 1200 شركة في جميع أنحاء البلاد تتضمن شركات التجارة والتصنيع والتسويق والخدمات الصحية والعلاجية.

تعد شركة “طهران شيمي” و”عبيدي” و”كارن للمكملات الغذائية الحيوية” و”ابو ريحان” و”رها” و”سينا ​​جين” و”اسبادانا” و”نانو حيات للأدوية” و”رازك” و”إيران للأدوية” و”راموفارمين” و”زهراوي” و”امين للأدوية”، من أهم شركات تصنيع الأدوية في إيران.

الأدوية التي تصنعها الشركات الإيرانية

عززت طهران تقنيات البحث والتطوير في مجال الأدوية والابتكارات في مجال الصحة ونفذت العديد من الدراسات السريرية والبحوث العلمية لتطوير علاجات جديدة لمجموعة متنوعة من الأمراض والحالات الصحية. فإلى جانب الأدوية الحديثة المصنعة في المختبرات تميزت إيران بإنتاج الأدوية العشبية التقليدية ومستحضرات التجميل اليدوية، كما أنها تبذل جهوداً غفيرة في تعزيز البحث في الأمراض المزمنة والأمراض المعدية.

الأدوية المضادة للالتهابات، ومضادات الحموضة، والمضادات الحيوية، وأدوية القلب، وأدوية السكري، والأدوية النفسية والعديد من المنتجات الأخرى هي في طليعة الأدوية المصنعة في إيران، وسنستعرض لكم هنا أسماء بعض الأدوية الأكثر رواجاً في إيران: الأقراص وهي عبارة عن (الميتفورمين وأموكسيسيلين وأتورفاستاتين والكو-أموكسيسيلين وسيفيكسيم وأزيترومايسين وكلوبيدوغريلو أورليستات) وعقاقير الإيميبينيم وحقن سوماتروبين.

الصادرات

تنتج إيران اليوم، وفق تصريحات حكومية، أكثر من 95% من الأدوية التي يحتاجها سوقها المحلي وسكان البلاد البالغ عددهم 86 مليون نسمة، ونظراً لإمكانية وجود البنية التحتية اللازمة لعمليات التصدير والسمعة الدولية الجيدة بدأت القطاعين الخاص والعام في إيران باتخاذ إجراءات جدية وعملية في تصدير الأدوية المنتجة محلياً إلى دول الخارج.

وبحسب الجمارك الإيرانية، تشتري أكثر من 50 دولة حول العالم المنتجات الدوائية الإيرانية والمواد الخام إلى جانب المعدات والتجهيزات الطبية المصنعة بإيدي وخبرات إيرانية، لتصل عائدات هذه التجارة إلى أكثر من 50 مليون دولار في عام 2022، حسبما أفاد به وزير التجارة والصناعة والمعادن الإيراني.

وتأمل إيران أن تصل عائدات تصدير الأدوية إلى حاجز الـ 2 مليار دولار بحلول عام  2024، لا سيما مع وجود قابلية لصعود معدلات الإنتاج في البلاد والسعر المنخفض لهذه السلع الذي ينافس جميع مصنعي الدواء في دول العالم، على حد وصف عضو مجلس إدارة شركة “مصانع داروبخش”.

في هذا الصدد، يقول الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، إنّ بإمكان بلاده التحول إلى مركز إقليمي لإنتاج وتوزيع الأدوية، مشيراً إلى أنّ إيران تنتج حالياً أكثر من 95% من احتياجاتها من الأدوية، وبالتالي يمكن الاستفادة من إمكانات البلاد الاستثنائية في هذا المجال.

أزمة دواء في إيران!

على الرغم من تقدم إيران في الصناعة الدوائية وتاريخها العريق الذي قارب الثمانين عاماً، إلا أنه ومنذ انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2018، تدهور سوق الدواء وعانت البلاد من نقص حاد في العديد من الأدوية الرئيسية، لكن كيف يحصل هذا وهي مكتفية ذاتياً من إنتاج الأدوية؟

تكررت الادعاءات في الداخل الإيراني حول العراقيل التي تضعها العقوبات الأمريكية أمام عمليات دخول الأدوية الحديثة إلى إيران ونقص بعض المواد الخام بسبب الحصار الاقتصادي، فما مدى صحة هذه الأقاويل وهل للحكومة الإيرانية نفسها والفساد في قطاع الأدوية دور في أزمة الصناعة الدوائية وانتقالها من مرحلة الرخاء إلى مرحلة العوز؟

تشير بيانات نشرها مركز الإحصاء الإيراني مؤخراً إلى أنه في السنوات التي تلت الاتفاق النووي ورفع العقوبات، وصل استهلاك المواد الخام الأجنبية إلى أعلى مستوى له منذ 19 عامًا، بحيث وصل هذا الاستهلاك في عامي 2015 و 2016 إلى رقم غير مسبوق بلغ 44٪، لكن سرعان ما تراجعت هذه النسبة بمرور الوقت ووصلت في النهاية إلى 21٪ خلال عام 2020.

تضاربت التصريحات الحكومية في إيران بعد بروز أزمة الدواء وتصدرها عناوين الصحف والوكالات المحلية وبعد أن أثارت موجة من الاستياء الشعبي، ليؤكد المتحدث الرسمي باسم لجنة الصحة والعلاج في البرلمان الإيراني، منذ أسابيع قليلة، على استمرار تجاهل الحكومة ورفض البنك المركزي على تخصيص العملة المخصصة للأدوية، قائلاً إن “إهمال الحكومة أدى إلى نقص 200 صنف من الأدوية في البلاد، الأمر الذي أدى إلى زيادة معدل وفيات المرضى”.

ويرى منتقدو السياسات الصحية في إيران أن العقوبات لم تشمل القطاع الطبي والصحي، موجهين أصابع الاتهام نحو وزارة الصحة والسياسات الداخلية.

وقال نائب رئيس اتحاد مستوردي الأدوية مؤخرًا: “واجهت شركات التصنيع والاستيراد مشاكل في التسعير بعد تقلبات سعر الصرف في أسواق البلاد”. معتبراً أنه “لو تم التعامل مع هذه المشاكل في وقت سابق لما شهدنا هذا النقص بهذه الشدة”. ورأى هذا المسؤول أن “سعر الدواء في إيران يتأثر بالتضخم”.

ولفت مرتضى خاتمي، نائب رئيس لجنة الصحة والعلاج بالبرلمان، إلى إهمال الحكومة لقطاع الأدوية في خطة التنمية السابعة، وقال: “لم نر أي أثر يذكر للاستثمار وإعادة هيكلة الصناعات الدوائية واللقاحات في البلاد”. مضيفاً أن الحكومة خصصت “400 مليون دولار لتصدير الأدوية سنويا” في الخطة السابعة.

وعلى النقيض من هذا، اعتبر مسؤولو وزارة الصحة في إيران مرارًا العقوبات على أنها السبب الرئيسي لأزمة الدواء الأخيرة في البلاد، حيث صرح وزير الصحة في اجتماع للمنظمات الدولية المقيمة في إيران: “على مدار التاريخ لم تستهدف العقوبات المرضى والقطاعات الطبية والصحية، إلا أن العقوبات اليوم استهدفت المرضى الإيرانيين”.

يقول رئيس إدارة الغذاء والدواء “شانه ساز”، إنه “رغم إدعاء أمريكا أن الأدوية والغذاء مستثناة من العقوبات، إلا أن هذه كذبة كبيرة، والحقيقة أن مخطط العدو جعل عرقلة استيراد الأدوية والمعدات الطبية للشعب الإيراني أول اولوياته، لكن قدرة صيادلتنا وخبرائنا أحبطت هذا الهدف المشؤوم”.

من جانبه، أكد رئيس غرفة التجارة الإيرانية السويسرية منذ أيام قليلة، أن “الأقاويل والادعاءات حول عدم فرض عقوبات على الأدوية هي محض افتراءات كاذبة”، قائلاً إن “الشركات الأوروبية لم تفتح مساراً بشكل واضح لنقل الأدوية إلى إيران، ورغم تأكيدها الدائم على عدم شمل العقوبات لهذه السلع إلا أنهم عملياً قاموا بحظر إرسالها لنا”.

فرغم التطمينات من جانب المسؤولين الإيرانيين بشأن توفر الأدوية في الأسواق، أكد العديد من سكان طهران “أنهم لم يتمكنوا من العثور على الأدوية التي يحتاجونها”. وفق ما أفادت به ميدل ايست آي.

يقول مرتضى أميري لهذا الموقع: “العثور على بعض الأدوية في طهران أصعب من شراء الهيروين أو الأفيون”. وكان والد أميري خضع لعملية جراحية لإزالة ورم من دماغه. وبعد خروجه من المستشفى، كان بحاجة إلى حبوب فالبروات الصوديوم المضادة للاختلاج.

ماذا تقول واشنطن؟

ردت واشنطن عدة مرات على تصريحات طهران بشأن تأثير العقوبات على دخول الأدوية والمواد الخام إلى إيران، لتقول إن “العقوبات لا تشمل الشركات المصدرة للإمدادات الإنسانية مثل الأدوية والأجهزة الطبية، والشركات التي تساعد في هذه التجارة”.

وأكد ريتشارد نيبو، الخبير في العقوبات الأمريكية، في تصريح سابق له: “تكمن المشكلة في العثور على بنوك مستعدة للإبقاء على خطوط العمل ووظائف الامتثال مفتوحة لمعالجة تلك المعاملات المالية”. مضيفاً أنه “في كثير من الأحيان، تنظر البنوك إلى هذه المعاملات على أنها لا تستحق المعاناة التي ستجلبها، لذلك هناك مشكلة عملية في حث البنوك على القيام بذلك. لكن هل يمكنهم ذلك؟ بالتأكيد.”

وقالت شركة أدوية إيرانية، رفضت الكشف عن اسمها، حول سبب نقص الأدوية في إيران لا سيما في أوقات معينة من العام: “في بعض الأحيان تكون تغييرات الأسعار عاملاً أساسياً في نقص الأدوية. فمثلاً، بسبب التغيرات في أسعار الأدوية في شهر مايو، حدثت فروقات في السعر بين الأدوية المتوفرة في الصيدليات والأدوية التي يتم توزيعها”.

وتوقفت العديد من شركات الأدوية في إيران عن بيع منتجاتها بسبب الفوارق السعرية التي تحدث هذه الأيام، وخصوصاً لأن هذه الأدوية تدخل الأسواق بسعر جديد بعد ارتفاع الأسعار، فمثلاً أصبح سعر شراب (دي فين هيدرامين) 26 ألف تومان بعد أن كان 14 ألف تومان في المدة القصيرة الماضية. فالصيدلية التي تخزّن هذا الدواء في مخزنها تقوم ببيعه بنفس السعر السابق، أما الصيدلية التي لديها مشتريات أسبوعية عليها أن تبيع الدواء بالسعر الجديد.

وببحث بسيط على إكس (توتير سابقاً)، تبيّن أن العديد من المستخدمين الإيرانيين على هذه المنصة بدأوا يرونها حلاً للعثور على بعض أصناف الأدوية التي لم تعد متوفرة في صيدليات البلاد.

وشارك مستخدم على تويتر لقطة لنوعين من الأدوية (KISQALI و VALAMOR) وكتب أنه نظرًا لأن هذا الدواء لم يتم استيراده من قبل الهلال الأحمر، فهو غير متوفر في إيران. وطالب هذا المستخدم من متابعيه في الخارج مساعدته في إرسال الأدوية له لكي يدفع لهم رسوم خدمة التوصيل وتكلفة الدواء.

ونشر مستخدم آخر صورة لدواء يسمى (LYNPARZA) وقال إنه يريد هذا الدواء لوالدة صديقه المصابة بالسرطان وطلب من مستخدمين آخرين مشاركة تغريدته لمساعدته في حال كان أحد ما يعرف أين يمكنه العثور على هذا الدواء.

وكشف عضو في لجنة الصحة والعلاج بالبرلمان الإيراني عن موجة هجرة جديدة إلى تركيا تستهدف شركات الأدوية في البلاد، قائلاً إن “بلادنا لم تحقق الاكتفاء الذاتي من الأدوية بشكل كامل. يمكننا الادعاء بأننا حققنا الاكتفاء الذاتي عندما يتمكن الناس من الوصول إلى الأدوية ذات الجودة العالية والمرغوب فيها دون أي قلق وعراقيل، ولكن الحقيقة هي أن الناس غير راضين بتاتاً عن نقص الأدوية وانخفاض جودتها”.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنان + خمسة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى