انعكاس “تراجع النفوذ الأميركي” في الشرق الأوسط على السعودية والكيان الصهيوني

كشفت الحرب في غزة عن حدود النفوذ الأميركي في المنطقة، وقد يبدو ذلك جليا من عدم استجابة الدولتين الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية في المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة، لتفضيلات واشنطن بالرغم من أنهما لا يستغنيا عنها.

ميدل ايست نيوز: كشفت الحرب في غزة عن حدود النفوذ الأميركي في المنطقة، وقد يبدو ذلك جليا من عدم استجابة الدولتين الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية في المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة، وهما الكيان الصهيوني والسعودية، لتفضيلات واشنطن بالرغم من أنهما لا يستغنيا عنها، بحسب تحليل مسؤولين سابقين في إدارتي كلينتون وأوباما، نشر في مجلة “فورين أفيرز“.

يجادل بعض المحللين منذ اندلاع الحرب في غزة، بضرورة عودة واشنطن للانخراط في قضايا الشرق الأوسط عسكريا ودبلوماسيا لتحقق الاستقرار، ويحذرون من أن عدم حدوث ذلك سيعني أن واشنطن ستقف في موقف المتفرج الذي يشاهد المنطقة وهي تتحرك نحو الفوضى مما يترك فراغا سيتعين على واشنطن أن تملأه إما لحرمان المنطقة من قوة منافسة أو لدحر عنف جديد قد يهدد الولايات المتحدة في المستقبل.

لكنّ ستيفن سيمون وجوناثان ستيفينسون اللذين عملا في مجلس الأمن القومي الأميركي سابقا، يريان أن السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة بعد أزمة غزة قد لا تتعلق بكيفية إعادة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط بقدر ما تتعلق بكيفية إدارة المسافة الاستراتيجية عن المنطقة بشكل أفضل مع الاستمرار في ممارسة درجة من النفوذ.

وهو ما يتفق معه رئيس معهد السياسة العالمية في العاصمة الأميركية واشنطن، باولو فان شيراك، في حديثه مع موقع “الحرة”، مؤكدا أن السياسة الأميركية لن تتغير بسبب الحرب ولا بعدها، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة لا تزال شريكة لدول مثل مصر والأردن وستظل تحمي إسرائيل وعلى علاقة استراتيجية مع السعودية.

ويشير شيراك إلى أن العلاقة مع إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة “تعود إلى عقود مضت، وهي متعددة المستويات، وعلى الرغم من أنه من الواضح الآن أن هناك اختلافات كبيرة بشكل علني في ما يتعلق بكيفية إدارة إسرائيل للعملية العسكرية في غزة ومقتل كثير من هناك. هناك خلاف علني بشأن هذا الأمر لكن هذا لن يؤدي إلى مشكلة كبيرة بين البلدين”.

وأضاف أن “الولايات المتحدة ستستمر في دعم إسرائيل ولكن مع وجود فرص للخلاف والقول إننا لا نحب ذلك، يجب عليك إيقاف ذلك، وأننا بحاجة إلى وقف إطلاق النار وكل ذلك، لكن العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة قوية جدًا ولا يمكن كسرها”.

ووصف شيراك علاقة الولايات المتحدة بالسعودية بأنها “استراتيجية ومهمة لكلا الطرفين”، مضيفا أنه “لا توجد طريقة يمكن لواشنطن أن تتخلى بها عن المملكة العربية السعودية لأسباب عديدة”.

سياسة واشنطن مع المنطقة

منذ الحرب العالمية الثانية، كانت الأهداف الإستراتيجية الأساسية لواشنطن في الشرق الأوسط هي ضمان بقاء وأمن المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وهي الأهداف التي تم تحقيقها بالفعل بنهاية حرب الخليج الأولى في عام 1991، مع غنى هذه المنطقة بالنفط.

وبحلول عام 2015، تمت معالجة التهديد المتبقي الذي يشكله البرنامج النووي الإيراني في الاتفاق النووي الإيراني، المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة. ويبدو الآن أن إيران، على الرغم من كونها مصدر إزعاج، قابلة للاحتواء عن طريق التقارب المدروس.

وفي الوقت نفسه، كانت هناك مؤشرات أخرى على أن التدخل العسكري الأميركي في المنطقة سوف يتضاءل بمرور الوقت، خاصة بعد أن أظهرت حروب ما بعد 11 سبتمبر في أفغانستان والعراق عجز أميركا عن توظيف وسائل عسكرية وسياسية لتصدير الديمقراطية الليبرالية، بل إنها أضرت بمصداقية الولايات المتحدة، كما أن انعدام الأمن الناجم عن تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا، بقيادة الولايات المتحدة، لم يساعد أيضا.

أصبحت الولايات المتحدة أقل اعتمادا على نفط الخليج، فبدأت في تبني سياسة استخدام نفوذها بشكل انتقائي على الجهات الفاعلة الرئيسية للحفاظ على الاستقرار الإقليمي.

ونظرا لصعود الصين، لم تتمكن واشنطن من الهروب من الحاجة إلى إعادة تخصيص الموارد من الشرق الأوسط إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

أما بالنسبة لمشكلة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فقد تطورت السياسة على كلا الجانبين بطرق جعلت من “حل الدولتين” الذي طالما تبنته واشنطن أقل احتمالا من أي وقت مضى.

وعلى الرغم من أن إدارة ترامب جعلت ضبط النفس الأميركي أكثر صعوبة من خلال التنصل من الاتفاق النووي مع إيران واغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، إلا أنها تركت المملكة العربية السعودية وإسرائيل ليتدبرا أمرهما طالما أمكنهما ذلك، كما أنها تبنت استراتيجية المشاركة الدبلوماسية العميقة في المنطقة وشجعت التطبيع العربي الإسرائيلي.

وعلى سبيل المثال، اختار ترامب عدم الانتقام من إيران بسبب هجوم حلفائها الضخم بطائرات بدون طيار على منشآت أرامكو في نوفمبر 2019، وأذعن لسياسة إسرائيل القمعية تجاه الفلسطينيين.

“نجاح استراتيجي”

ويعتبر الخبيران ستيفن سيمون وجوناثان ستيفينسون أن تحول إسرائيل والسعودية لأن تكونا أقل تقيدا بالمخاوف الأميركية هو “نجاح استراتيجي للولايات المتحدة” لأنهما “باتا يتمتعان بما يكفي من الأمن والثقة بالنفس”.

كانت إسرائيل والسعودية قد عارضتا الاتفاق النووي الإيراني، وهو الأمر الذي جعلهما يرفضان شرعية واشنطن في تشكيل أمن الشرق الأوسط، “ومنذ ذلك الحين، أصبح من الواضح أن محاولة الولايات المتحدة لإعادة فرض إرادتها كانت ستكون عديمة الجدوى أو ستؤدي إلى نتائج عكسية”.

وعلى الرغم من أن الأزمة الحالية دفعت الولايات المتحدة إلى زيادة أصولها العسكرية لردع إيران ووكلائها عن توسيع نطاق الحرب الدائرة في غزة، فإن الجهود الأميركية سرعان ما تقلصت إلى مواجهة هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر وتسهيل الإغاثة الإنسانية في غزة.

“السعي للتطبييع بين إسرائيل والسعودية”

وابتداء من منتصف عام 2022، بدأت إدارة بايدن في تكثيف مشاركتها في الشرق الأوسط، من خلال دفع التطبيع السعودي الإسرائيلي عن طريق اتفاق من شأنه أن يقدم دعم الرياض لبرنامج نووي مدني سعودي، ووصول سعودي أوسع وأسهل إلى المعدات العسكرية الأميركية المتقدمة، وضمانات أمنية صارمة على غرار المعاهدات الأميركية مع كوريا الجنوبية واليابان.

وفي المقابل، سيحصل الإسرائيليون على القبول الرسمي من أقوى دولة عربية وإسلامية وشريك قوي ضد إيران.

كما يمكن أن يكون للصفقة التي تتوسط فيها الولايات المتحدة آثارا استراتيجية مهمة، وإن لم تكن معلنة، مثل انتزاع التزام سعودي بحرمان الصين من النفط في حالة حدوث مواجهة عسكرية أميركية صينية، والابتعاد عن روسيا.

كانت خطة إدارة بايدن للجمع بين أغنى دولة في المنطقة والدولة الأكثر تقدمًا من الناحية التكنولوجية تعتمد على حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

ويقول شيراك لموقع “الحرة”: “أنا متأكد للغاية أن الحوار بين إسرائيل والمملكة مستمر بينما نتحدث الآن على الرغم من أنه ليس في العلن لأنه من المحرج للسعودية أن تتحدث مع إسرائيل في وقت تستمر فيه الحرب بالنظر إلى الوضع العام السيئ للغاية الذي تتمتع به إسرائيل في جميع أنحاء العالم ولكن بشكل خاص في العالم العربي”.

ويؤكد شيراك أن بايدن مقيد بالفجوة الواسعة بين المصالح الأميركية والإسرائيلية في الصراع والتحدي الذي تواجهه إدارته، المتمثل في التعامل مع الانقسام السياسي الحزبي التاريخي الناشئ حول العلاقة الأميركية الإسرائيلية في انتخابات حاسمة.

ويرى الخبيران أن النظام الإقليمي يعيد ترتيب نفسه من دون الولايات المتحدة، حيث لم تكن الإدارة قادرة على منع مقتل أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني والدمار المادي في غزة، ولم يستخدم بايدن الأدوات التي يُفترض أنها متاحة لإجبار إسرائيل على التنحي.

ولذلك، يعتقد شيراك أن صفقة التطبيع بين السعودية وإسرائيل “ستحدث عاجلا أو آجلا بعد انتهاء الحرب في غزة”.

ويرى أن “هجوم حماس في السابع من أكتوبر كان برعاية إيرانية بعد الإعلان بشكل شبه رسمي عن قرب تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. هم فعلوا ذلك من أجل منع حدوث الصفقة”.

وقال: “كانت المملكة العربية السعودية مستعدة للمشاركة، مما يعني أن القضية الفلسطينية لم تكن بهذه الأهمية في ذلك الوقت. أصبح الأمر مهما الآن بسبب الدعاية السلبية لإسرائيل وبسبب الطريقة التي تدير بها العملية العسكرية في غزة،”.

وأضاف: “لكن بعد عام من القيام بذلك من الآن، سيتم نسيان هذا الأمر برمته. وسيقول الناس، نعم، كان ذلك سيئا حقا. ولكن، كما تعلمون، لقد أصبح ذلك في الماضي، كما تعلمون، الأمور على ما يرام. الآن، ليس هناك قتال. لا أحد يموت. فلماذا لا نتحدث مرة أخرى. بالطبع، سيحدث ذلك، لأن هذا ما يحدث في العالم. هذه الحرب ستنتهي، وفي مرحلة ما، سينتهي الاحتلال الإسرائيلي لغزة. هذا لن يستمر إلى الأبد”.

“خطر أقل”

لكن سيمون وستيفينسون في تحليهما يعتقدان أن “إقناع ولي العهد السعودي بالدخول في صفقة تطبيع سيتطلب من واشنطن تقديم ضمانة أمنية ملزمة، والتي من المفترض أن تكون مشروطة بمجموعة من التنازلات من جانب الرياض والتي يبدو من غير المرجح أن يقدمها محمد بن سلمان”.

ويضيفان أنه “حتى لو كان مثل هذا الاتفاق قابلا للتحقيق، فإنه قد يشجع الرياض على استخدام القوة بطرق من شأنها أن تخلق ضغوطا للتدخل العسكري الأميركي، وهي خطوة أدت بشكل عام في الشرق الأوسط إلى مشاكل خطيرة”.

ويوضحان أن “إنهاء السعي وراء الصفقة الكبرى والتخلي عن الضمانة الأمنية قد يعني أن الولايات المتحدة قد تخسر مبيعات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية، لكن هذا الخطر أقل خطورة بكثير من خطر التورط في صراع بدأته الرياض ولم يكن للولايات المتحدة أي دور فيه”.

قوات أميركية

يرى الخبيران أنه “في الوقت الحالي، من الضروري بالنسبة لواشنطن أن تراقب عن كثب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بما يتناسب مع فرص تعزيز حل الصراع دبلوماسيا”.

ويؤكدان أنه “من غير الحكمة أن تقوم الولايات المتحدة بإرساء رؤيتها للمنطقة في مرحلة ما بعد أزمة غزة على صفقة كبرى بين السعودية وإسرائيل غير قابلة للتصديق، وهي غير مجهزة لتحقيقها أو الحفاظ عليها”.

كما يحذران من أن تقوم الإدارة الأميركية بإدخال قوات إلى غزة كجزء من ترتيبات حفظ السلام أو إنفاذ السلام، كما تخطط الوكالات الأميركية، وإن كان ذلك بدون عنصر عسكري أميركي.

ورغم أن الأزمة الحالية قد تعكس انهيارا إقليميا خطيرا، فإنها كشفت أيضاً بشكل صارخ عن حدود القوة الأميركية في المنطقة وألقت الضوء على المخاطر التي يفرضها الوجود الأميركي الكبير والدائم في المنطقة.

“وحتى لو تركنا مسألة القوة والنفوذ الأميركيين جانباً، فلا يوجد في الواقع أي فراغ في السلطة يمكن لواشنطن أن تملأه. فالدول الكبرى في المنطقة بدأت تتوصل إلى كيفية إدارة مشاكلها بنفسها، ولو على نحو يتسم بالبطء. وفي ضوء ذلك، قد تكون واشنطن أكثر قدرة على حماية مصالحها في الشرق الأوسط عن بعد”.

ولا يرى شيراك أن الولايات المتحدة لديها سياسة جيدة في ما يتعلق بمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة “لكن بما أن الدول الرئيسية في المنطقة مثل السعودية ومصر لا يحبان إيران فستظل علاقتهما جيدة بواشنطن”.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

15 − 5 =

زر الذهاب إلى الأعلى