“في أرض الإخوة”: حكايات تروي وقائع وأداء مشغول بحِرفية
الفيلم، المعروض للمرّة الأولى دولياً في الدورة الـ40 لـ"مهرجان ساندانس السينمائي"، يُخفِّف من كلّ تفكيرٍ عميقٍ بالظاهر بصرياً، وبخفاياه المتسلّلة بهدوء إلى واجهة المشهد.
ميدل ايست نيوز: “في أرض الإخوة” (2024)، للإيرانيين رها أميرفضلي وعلي رضا قاسمي، شخصيات متفاوتة الأعمار تواجِه وقائع تتناقض وفكرة أنّ إيران، منذ نهاية عام 2001 على الأقلّ، “أرض أخوّة” تستقبل أفغاناً هاربين من حرب الولايات المتحدّة الأميركية على إرهاب تنظيماتٍ متشدّدة إسلامياً، كـ”طالبان” و”القاعدة”. أرضٌ منذورة للأخوَة، ووقائع تقول إنّ الأخُوّة ظاهرةٌ رغم مصائب تحلّ، ومن يصنع المصائب أفرادٌ، فأفرادٌ آخرون، وجميعهم إيرانيون، يُكنّون كلّ حبٍّ واحترام لهؤلاء الإخوة. الظاهر أيضاً أنّ قلق اليوميّ مُرافقٌ دائماً لأفغانٍ يلجأون إلى إيران بحثاً عن منفذٍ لخلاصٍ مرجوّ، فإذْ بصدماتٍ يواجهونها، وحقائق يصطدمون بها، فتنكشف جوانب غير سليمةٍ في “أرض الإخوة” تلك.
والفيلم، المعروض للمرّة الأولى دولياً في الدورة الـ40 (18 ـ 28 يناير/ كانون الثاني 2024) لـ”مهرجان ساندانس السينمائي”، يُخفِّف من كلّ تفكيرٍ عميقٍ بالظاهر بصرياً، وبخفاياه المتسلّلة بهدوء إلى واجهة المشهد، بسرده حكايات أفرادٍ، ربما تكون نموذجاً يُعمَّم، لكنّ مفردات التعبير السينمائي تبدو كأنّها مكتفية بهؤلاء الأفراد. سرد حكاياتهم، هم فقط، أساسيٌّ في نصّ (كتابة الثنائي قاسمي وأميرفضلي نفسه)، يوحي برغبةٍ في السرد فقط، تاركاً مخبّأ فيه ينكشف في قول أو تصرّف أو علاقة أو حالة. وهذا، إذْ يُساهم بجعل متعة المُشاهدة أعمق وأجمل، يجعل المتعة نفسها مدخلاً إلى تفكيك عوالم ونفوس وأنماط تفكير وممارسة سلطة.
الحكايات ثلاث، تتقاسمها الشخصيات نفسها في أوقاتٍ مختلفة، وتروي تفاصيل من يوميات الأبرز فيها، والرابط بينها يتّضح إمّا بإيحاء وإمّا مباشرة، وإنْ تُكشف المُباشَرةُ بإيحاء مبطّن. أي أنّ حكايات “في أرض الإخوة”، المُختار لبرنامج “عروض خاصة” في الدورة الـ58 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2024) لـ”مهرجان كارلوفي فاري السينمائي”، يُمكن أنْ تُقرأ وتُشاهَد وتُعاش بسلاسة وبساطة، ومن دون تفكيرٍ في دلالاتها ورموزها وانتقاداتها. وهذا، إنْ يحدث، يمتّع عيناً وقلباً وروحاً، لكنّه يعجز عن تفادي المخبّأ في ثنايا كلّ حكاية، من مسارب ومنعطفات ومواقف وتأمّلات.
أول حكاية (2001)، يرويها محمد (محمد حُساي)، تلميذ مدرسة يبلغ 15 عاماً. يشعر بحبّ لليلى (حميدة جعفري)، ومعها يمضي أوقاتاً مسروقة من أهل وأقارب، ويُلقّنها اللغة الإنكليزية، ويصنع لها هدايا من أوراق عادية. ذات يوم، يأمره الشرطيّ أصغري (هَجير مُرادي) بمرافقته إلى مركز الشرطة، للمساعدة في تصريف مياه تغمر الطابق الأرضي (أرشيف). ثمّ “يعتني” به، إلى حدّ الاعتداء الجنسي عليه، ما يدفع محمد إلى تصرّف مؤلم بحقّ ذاته، للخلاص من وحشٍ لا يرتوي.
ليلى محور الحكاية الثانية (2010): عاملةٌ في منزل فخم لزوجين ثريين (مهران فوزوغي ومرجان اتفاغيان)، في منطقة بندر أنزلي (بحر قزوين)، تحاول إيجاد توازن بين تحضيرات تتناسب والاحتفال برأس السنة الفارسية، والاعتناء بابنها العائد من المدرسة، والموت المفاجئ لزوجها صباح اليوم نفسه. خوفٌ يعتريها من قول حقيقة الوفاة، لأنّ إمكانية الترحيل واردة. خوفٌ من إعلان حقيقةٍ مردّه خوفٌ من خسارة منفذٍ لحياة مطلوبة. خوفٌ من كشف مستور منبثقٌ من رغبةٍ في خروجٍ آمن من مأزق عيش، في بلدٍ يُفترض به أنْ يكون “أرض أخوّة”. الكذب (سمة شخصيات سينمائية إيرانية كثيرة، مع ما يصنعه الكذب من تعقيدات ومطبّات وأهوال)، مدخلٌ إلى إخفاء وقائع، بل إلى فضح هشاشةٍ وانصياع إلى انفعال. موت الزوج سرٌّ، ودفنه في مكانٍ ما في حديقة المنزل إذعانٌ لاواعٍ (ربما) لطغيان الخوف من مُقبلٍ مجهول (الدفن بحدّ ذاته مشهدٌ بديع سينمائياً، وحميدة جعفري باهرةٌ في تأدية دورها في تلك الحكاية).
ثالث الحكايات (2020)، يرويها قاسم (بشير نيكزاد)، الشقيق الأكبر لليلى. زوج هانية (مرجان خالقي)، البكماء، يعلم أنّ ابنه، الذي يُفترض به أنْ يعمل في تركيا تحضيراً للجوء إلى ألمانيا، شهيدٌ، بعد مشاركته “إخوة” إيرانيين في حرب سورية. معرفته هذه يؤكّدها مسؤول أمني، يعطيه الهاتف الجوّال للابن الشهيد (لقطات تكشف اتصالات متكرّرة للأب بالهاتف نفسه، مع أنّ ردّاً واحداً يتكرّر، عن عدم قدرة متلقّي الاتصال على الردّ حالياً). الحيرة قاسية، كقسوة الخبر والواقع. حيرة بين إخبار الزوجة أمْ لا، والاستمرار في عيشٍ مليء بأحلامٍ، تبدو له أوهاماً، أمْ الانفضاض على هذا كلّه، بكاءً وقهراً وصراخاً مكتوماً، كتطهّر شبه كامل من وجع وخيبة وانكسار.
الحكايات غير محصورة في اختزال مضامين، مفتوحة على أسئلة عيشٍ وحياة، وانتماء ورغبات وتطلّعات، وعلاقات ومشاعر ووقائع. “في أرض الإخوة” إشارات تراوح بين وضوح مخفَّف ومواربات جمالية تصنع أحد معالم متعة المُشاهدة. والفيلم، إذْ يوهم أنّ مرتكزه الأساسي معقودٌ على سرد حكاياتٍ، فيها من النقد السياسي الاجتماعي الحياتي العقائدي كمٌّ كبيرٌ من التساؤلات والدلالات؛ الفيلم هذا يُشاهَد كراوٍ لثلاث حكاياتٍ محمّلة بقهر وألم ومواجع.