متى ستردّ إيران؟ كيف ستردّ إيران؟ لن تردّ إيران؟!

لا أحد يملك إجابة مقنعة حتى الآن حول طبيعة الردّ الإيراني المتوقع أو توقيته، ولا أحد يستطيع وضع خيارات إيران، بما فيها عدم الردّ من الأساس، على الطاولة، واختيار ما يراه الأفضل والأكثر إقناعاً للداخل الإيراني وللحلفاء والتشكيلات الموالية.

ميدل ايست نيوز: يترقّب العالم، والدول في المنطقة على وجه الخصوص، ردّاً إيرانياً على جريمة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران. لا أحد يملك إجابة مقنعة حتى الآن حول طبيعة هذا الردّ المتوقع أو توقيته، ولا أحد يستطيع وضع خيارات إيران، بما فيها عدم الردّ من الأساس، على الطاولة، واختيار ما يراه الأفضل والأكثر إقناعاً للداخل الإيراني وللحلفاء والتشكيلات الموالية. إن كل ما يتمّ تداوله، سواء عبر الإعلام أو من خلال المراكز الأمنية المتخصصة والخبراء الاستراتيجيين، لا يتعدّى كونه نوعاً من التخمينات، المستندة أساساً إلى قوة إيران وقوة إسرائيل، ورغبة الولايات المتحدة من عدمها في توسيع دائرة الحرب.

هل يمكن لإيران أن تقوم بردّ جدي دون أن تستدعي حرباً طاحنة في المنطقة، قد تكون هي إحدى ضحاياها؟ وهل يمكنها السكوت والخضوع للمناشدات الغربية وللتخويف الأمريكي الإسرائيلي، دون أن تخسر هيبتها وطموحها كقوة إقليمية مؤثرة في المنطقة؟ وما هي الطريقة الأسلم لتقول لشعبها وللعالم: “أنا هنا”، دون خسارات على المستوى الاستراتيجي؟

قبل محاولة الإجابة على هذه التساؤلات قد يفيدنا النظر في عملية الاغتيال ذاتها؛ لماذا تمّت في إيران تحديداً وليس في الدوحة أو بيروت أو أنقرة، أو أي مكان آخر لا يستدعي كل هذه التبعات؟ هذا هو السؤال الأهم برأيي، والذي يجب الوقوف عنده فلسطينياً قبل أي شيء أو اعتبار آخر، ومن أجل ذلك لا بد من تحليل بعض المعطيات السابقة لعملية الاغتيال، وأهمها:

أولاً، لقد فاز الإصلاحي مسعود بزكشيان، أو تمت هندسة فوزه رئيساً للجمهورية الإيرانية، وذلك خلفاً لأحد أكثر المحافظين المتشدّدين في تاريخ إيران الحديث، وهو الرئيس إبراهيم رئيسي. وبهذا الفوز، أو التفويز، فإن إيران ستذهب إلى لغة ومواقف سياسية أكثر اعتدالاً تجاه الغرب والمنظومة الدولية عموماً.

لقد كان خطاب الرئيس الجديد في حفل تنصيبه دليلاً ساطعاً على الحنكة السياسية الجديدة والذكاء في اختيار المفردات. لقد رسم الخطوط العامة للسياسة الإيرانية في المنطقة وفي العالم، دون أن يثير حفيظة الغرب، ودون أن يستعدي المتشدّدين في الداخل، ولا نبالغ لو قلنا إنه تم الاعتناء حتى بالشكل والقاعة والحضور، لتظهر إيران الجديدة كقوة لا يُستهان بها، وفي نفس الوقت ليست معزولة أو “مارقة” كما يفضّل نتنياهو واليمين الغربي وصفها. يضاف إلى ذلك تعيين محمد جواد ظريف، المقبول من الغرب، والذي قاد مفاوضات الملف النووي مع حكومة أوباما، كنائب للرئيس للشؤون الاستراتيجية.

لا يريد نتنياهو وحكومته وكافة أركان الدولة الإسرائيلية هذا الشكل الجديد لإيران، فهو يفقدهم الادعاء المتكرّر بالتهديد الوجودي الذي يحيق بهم من قِبل هذا العدو المتربّص والجاهز، وهم لا يريدون لمفاوضات الملف النووي الإيراني أن يُعاد فتحها مع الغرب. باختصار، هم يريدون إيران متشدّدة وسهلة الوصف بالإرهابية والداعمة للإرهاب، وفوق ذلك معزولة دولياً، ليسهل تجنيد الغرب ضدها في أي حرب حالية أو قادمة.

لهذا السبب، فإن اغتيال شخص بمكانة إسماعيل هنية لدى محور المقاومة، وداخل إيران تحديداً، سيدفع الأخيرة نحو التشدّد، وسوف يُفقد رئيسها الجديد أوراقه في مواجهة هذا التشدّد وأقطابه، وفي نفس الوقت سوف يحرجها إن هي تظاهرت وكأن شيئاً لم يكن.

ثانياً، لقد بدأت الحكومة الإسرائيلية حربها على قطاع غزة في الثامن من أكتوبر الماضي بثلاثة مصطلحات مدروسة تماماً، وهي “حيوانات بشرية” و “داعش” و “هولوكوست جديد”، ولقد استطاعت أن تجنّد العالم ومراكز قراره المهمة من أجل شرعنة انقضاضها الوحشي على الشعب الفلسطيني، بفصائله ومدنييه ومؤسساته ومستشفياته وبنيته التحتية كاملة وبلا استثناءات.

لكن الحرب طالت أكثر مما يجب، وما نتج عنها من كارثة إنسانية متكاملة الأركان في القطاع، ومن خسائر لا يستهان بها لدى المعتدي وجيشه وبنيته الاقتصادية، ومن عدم القدرة على الحسم العسكري السريع والذهاب إلى الترتيبات السياسية، جعل العالم يغير من رؤيته وانخراطه في هذه الحرب. لقد تسبب انفلات القوة الغاشمة، وما نتج عنها من أعداد غير مسبوقة للضحايا، بأن فقدت المصطلحات السابقة تأثيرها لدى الغرب والمؤسسات الدولية.

لم يعد العالم يصدّق أو يتعاطى مع فكرة الداعشية التي تمّ إلصاقها بالفلسطينيين، ولم يعد يستطيع سماع مبرّر الهولوكوست وهو يرى إبادة يومية تتمّ بحقهم، إبادة تتعدّى فكرة الانتقام لما حصل في السابع من أكتوبر، أو تنسجم مع الهدف المعلن للحرب وهو استعادة الرهائن. إذن، ومن وجهة نظر نتنياهو وحكومته، فلا بد أن نلصق بهؤلاء الفلسطينيين تهمة أخرى يمكن للعالم، أو على الأقل للحكومات اليمينية فيه، أن تغضّ الطرف عن قتله اليومي بسببها أو استناداً إليها.

إنهم إيرانيون. إنهم حلفاء لهذه الدولة “الإرهابية”. هكذا يريد نتنياهو أن يصفنا. لا أحد ينكر بالطبع ما يحدث على معظم الساحات التي تديرها إيران من مواجهة عسكرية مع إسرائيل، ولا أحد يمكنه نفي العلاقة المباشرة للحوثيين بإيران، أو حزب الله بإيران، لكن للفلسطينيين عموماً، خصوصية مشتقة من كونهم أصحاب القضية، ومن كونهم يتمتعون بطيف كبير متنوّع من الرؤى السياسية، وطيف كبير أكثر تنوعاً من الحلفاء في العالم، ولا يمكن زجّهم بسهولة أو اختصارهم كـ “تشكيل إيراني”، أو كحليف فقط لإيران. هذه الخصوصية بالتحديد لا يريدها نتنياهو أن تستمرّ، وهو يفعل كل ما يستطيع لوضع الفلسطينيين وقضيتهم كجزء من “المشكلة” الإيرانية في الإقليم.

لنتخيل لو أن الاغتيال تمّ في بلد آخر مثلاً، أي بلد كان، ساعتها ستظل عملية الرد مقتصرة على الفلسطينيين وفصائلهم، وفي أفضل الأحوال، سيتسبب ذلك بأزمة دبلوماسية مع البلد الذي تمّت فيه عملية الاغتيال.

لكن نتنياهو يعرف ما يريد؛ وما يريده هو إزاحة إيران نحو التشدّد أكثر، ووضع الفلسطينيين في نفس السلة معها، كعدو، ليس له وحسب، بل للخليج وللعالم بأسره، وهذا يسهّل عليه الاستمرار في قتلهم والضغط من أجل تهجيرهم تحت أنظار العالم المتفرج، إن لم نقل المتفهّم.

بعد كل هذا، كيف ستردّ إيران؟ وهل ستغامر بكل ما اشتغلت عليه في الأشهر الأخيرة من صورة جديدة يمكنها من خلالها قطف نتائج سياسية؟ برأيي المتواضع، وقد أكون مخطئاً على أية حال، فإن رداً على شاكلة الرد السابق لن يحصل، فذاك كان استعراضاً للقوة هدفه القول إن إيران قادرة وتمتلك ما يمكنها بواسطته إيذاء إسرائيل. إذن لا داعي لاستعراض جديد للقوة لن يقدّم أو يؤخّر. الخيار الثاني هو الذهاب إلى رد حقيقي من الأراضي الإيرانية نحو إسرائيل مباشرة، وهذا سيضع إيران في مواجهة جدية مع أمريكا، وهي لا ترغب بذلك ولا تريد المغامرة به.

مع نفي هذين الخيارين فإن الخيارات تتقلّص إلى الردّ عبر الحلفاء في المنطقة؛ فيما يخصّ اليمن، لا أظن أن رداً، في إطار قدرات الحوثيين، يمكنه أن يكون قابلاً للترويج كرد مقنع من قِبل إيران، أما فيما يخصّ حزب الله، فلديه أولوية الرد على اغتيال قائده فؤاد شكر، إن كان لا بد من ردّ، ناهيك عن حساباته السياسية التي تخصّ الداخل اللبناني، وفوق ذلك كله: هل ستضحّي إيران نفسها بهذه القوة الحليفة والقريبة من إسرائيل؟ لا أعتقد.

يتبقى لدينا الساحة السورية وساحة الضفة الغربية، فالرد من هاتين الساحتين، ومهما كانت تداعياته واستمرارها، ونتائجه وكارثيتها، يمكن لجميع الأطراف أن تتفق على عدم تسميته “حرباً إقليمية”… فلننتظر.

عامر بدران
شاعر وطبيب فلسطيني

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
رصيف 22

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة عشر + ستة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى