السياسة الخارجية الحقيقية في “عقيدة ترامب”

سنشهد قريبا سياسة خارجية نقية لدونالد ترامب، خالية من تأثير مجلس الشيوخ الأميركي أو تيار المعتدلين داخل الحزب الجمهوري أو القيود التي قد يفرضها المحترفون في وزارة الخارجية أو وكالة الاستخبارات المركزية أو البنتاغون.

ميدل ايست نيوز: سنشهد قريبا سياسة خارجية نقية لدونالد ترمب، خالية من تأثير مجلس الشيوخ الأميركي أو تيار المعتدلين داخل الحزب الجمهوري أو القيود التي قد يفرضها المحترفون في وزارة الخارجية أو وكالة الاستخبارات المركزية أو البنتاغون.

يدرك فريق ترمب، من خلال تجربته السابقة في الإدارة، مدى الحاجة إلى وجود موالين ضمن مكاتب الموظفين، ممن لن يعترضوا على تعليمات البيت الأبيض. ومن المتوقع أن يسعى مجلس الأمن القومي إلى التحكم في توجهات السياسة الخارجية بدقة، مما سيؤدى إلى تقليل نفوذ وزارة الخارجية والبنتاغون.

من المرجح أن نشهد انقساما داخل فريق ترمب. إذ سيتبنى البعض، بقيادة نائب الرئيس ج.د. فانس، سياسة تقليص الالتزامات الأميركية وتقليل التورط في الصراعات الخارجية، بينما يستعد الصقور من الجمهوريين، مثل وزير الخارجية السابق ومدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق مايكل بومبيو، لمواجهة التحديات التي تطرحها كل من الصين وروسيا وإيران. ستحتاج إدارة ترمب الجديدة إلى بعض الوقت لتنظيم صفوفها والتوفيق بين هذين المعسكرين.

عندما يتحدث ترمب عن العلاقات الثنائية مع دولة أخرى أو عن أزمة دولية، يميل إلى التركيز على علاقاته الشخصية مع القادة الأجانب المعنيين، ونادرا ما يشير إلى المصالح الوطنية الأميركية. يعود ذلك، في جزء كبير منه، إلى عدم قدرته على فصل رؤيته لأهميته الشخصية عن المصالح الوطنية الأميركية الثابتة. بالنسبة له، يبدو تقديم التنازلات في سبيل دعم النظام العالمي أمرا صعبا، حيث يؤمن هو وقاعدته السياسية بأن هذا النظام يضع الولايات المتحدة في موقف غير ملائم ويجعلها تتحمل تكلفة إنجازات دول أخرى. ولهذا، يركز ترمب على تحقيق تنازلات من الطرف الآخر قبل أن يوافق على أي خطوة من جانبه، إذ ينظر إلى العلاقات من منظور “الصفقات” أكثر من كونها توازنا للمصالح المتبادلة.

الرسوم الجمركية جميلة

يعتبر ترمب أن الولايات المتحدة لم تحصل على صفقة عادلة في التجارة الدولية، لذا سيضع هذه القضية في مقدمة أولوياته مع بداية عام 2025. خلال حملته، وصف كلمة “رسوم جمركية” بأنها أجمل كلمة في اللغة الإنكليزية. ويعتزم ترمب زيادة الرسوم الجمركية على المنتجات المستوردة من المكسيك وأوروبا، وبشكل خاص تلك القادمة من الصين، حيث تشير التقارير إلى إمكانية فرض رسوم تصل إلى 60 في المئة. تستورد السوق الأميركية منتجات صينية أكثر من أي دولة أخرى، ما يشكل نحو 16 في المئة من إجمالي الصادرات الصينية.

لن يعير ترمب اهتماما إذا أثرت سياساته على الاقتصاد الصيني أو إذا عانى شركاء الصين التجاريون، مثل كوريا الجنوبية، اليابان، أوروبا، ودول الخليج، من ركود ناجم عن تراجع النمو الاقتصادي الصيني. سيواصل ترمب الضغط على الصين لتقديم تنازلات، مثل زيادة وارداتها من المنتجات الزراعية الأميركية– وهي خطوة ستعود بالنفع على شريحة كبيرة من قاعدته السياسية.

على الأقل، لن تقلق بكين بشأن أية انتقادات محتملة من ترمب حول معاملتها للأويغور؛ فترمب قد لا يكون على علم أصلا بهذه القضية، كما أنه لن يتطرق إلى قضايا حقوق الإنسان مع أي دولة.

لا توازن دقيق للقوى

لا ينبغي للعلاقات الاقتصادية الأكثر تشددا مع الصين أن تزرع لدى تايوان أوهاما بوجود حليف قوي في شخص ترمب. فقد أبدى الرئيس الأميركي في السابق شكوكا حيال الدفاع عن الجزيرة، لا سيما في ظل فائضها التجاري الكبير مع الولايات المتحدة. وعلى عكس الرئيس جوزيف بايدن، من غير المرجح أن يقدم ترمب التزاما صريحا بالدفاع عن تايوان؛ بل سيعود إلى سياسة الغموض الاستراتيجي التي لطالما اتبعتها الولايات المتحدة بشأن أمن الجزيرة. ومن المتوقع أن يطالب ترمب تايوان بزيادة إنفاقها العسكري إذا أرادت الحصول على الدعم العسكري الأميركي، كما سيطالب كوريا الجنوبية واليابان بتمويل أكبر لدعم وجود القوات الأميركية على أراضيهما. كما أن ترمب لا يرى في تحقيق توازن القوى مع الصين سببا كافيا لنشر القوات الأميركية للحفاظ على النظام العالمي.

وبالمثل، لن يأخذ ترمب في الاعتبار تداعيات توازن القوى في أوروبا فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا. بل سيركز بشكل أساسي على علاقته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي سعى إلى بناء علاقة جيدة معه خلال فترته الرئاسية الأولى. يرى ترمب أن أوكرانيا ليست من المصالح الحيوية للولايات المتحدة، وقد قاد الحزب الجمهوري في معارضته لتقديم المزيد من المساعدات إلى كييف، بحجة أنه إذا كانت أوكرانيا بهذه الأهمية للأمن الأوروبي، فعلى الأوروبيين تحمل تكاليف دعمها.

وفي النصف الثاني من عام 2025، من المتوقع أن يمارس ترمب ضغوطا على الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي للقبول بمفاوضات مع بوتين، مستعينا بورقة توفير الأسلحة الأميركية أو حجبها كوسيلة ضغط على زيلينسكي وبوتين على حد سواء. وتشير تقارير إعلامية أميركية إلى أن مستشاري ترمب اقترحوا تسوية تتضمن إقامة منطقة حكم ذاتي أو منطقة منزوعة السلاح في شرق أوكرانيا، إضافة إلى تعهد بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف “الناتو”، وهو أمر يشكك ترمب أساسا في ضرورته. لكن يبقى من غير الواضح ما إذا كان بوتين سيقبل بهذه المقترحات لإنهاء الحرب، خاصة أن ترمب ليس معروفا بصبره الدبلوماسي.

الخليج وإسرائيل… لكن ليس الفلسطينيون

كانت علاقة ترمب بالرئيس زيلينسكي متوترة، لكنه في المقابل كان مرتاحا لعلاقاته مع قادة دول الخليج، مما يعني أن علاقته بهم في ولايته الثانية ستنطلق من أساس متين. وعلى عكس مسؤولي إدارة بايدن، لم يعلن ترمب موقفا رسميا من أية اتفاقية دفاع رسمية مع المملكة العربية السعودية. عموما هو يشكك في جدوى التحالفات، ووفقا لتقرير نشرته “نيويورك تايمز” في 6 نوفمبر/تشرين الثاني، يرى ترمب التحالفات كالتزامات قد تثقل كاهل الولايات المتحدة بأعباء الدفاع عن دول أخرى، ولا يعتبرها وسيلة لتعزيز القوة الأميركية. وفي هذا السياق، يرى بعض الجمهوريين أنه من الأفضل لواشنطن تشجيع دول المنطقة، بما في ذلك إسرائيل، على تعزيز التعاون فيما بينها لمواجهة التهديدات الإيرانية، بينما تركز الولايات المتحدة بشكل أكبر على الصين. على أقل تقدير، سيطالب ترمب بمساهمات مالية وعسكرية سعودية كبيرة في أي اتفاقية دفاع مشترك.

يهتم ترمب كثيرا بدول الخليج أكثر من اهتمامه بالقضية الفلسطينية. خلال إدارته الأولى وحملته الانتخابية، لم يظهر ترمب أي التزام بحقوق الفلسطينيين أو حقهم في تقرير المصير، وكان فخورا باتفاقيات أبراهام التي أبرمها عام 2020 لتعزيز العلاقات التجارية بين إسرائيل ودول الخليج، دون تقديم أي تنازلات تذكر للفلسطينيين. في ضوء الانتقادات الفلسطينية خلال فترة رئاسته، أوقف ترمب الحوار مع السلطة الفلسطينية وألغى المساعدات الاقتصادية. ومن غير المتوقع أن يستمر ترمب في محادثات إدارة بايدن مع السلطة الفلسطينية، وستختفي كذلك المساعدات الاقتصادية التي أعاد بايدن تقديمها. وسيساند ترمب جهود إسرائيل لتقويض وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).

في الحقيقة، يظهر ترمب تعاطفا إنسانيا، كما ظهر في ردة فعله تجاه الضحايا المدنيين السوريين في هجوم كيميائي شنه نظام الأسد عام 2018. وهو غير سعيد بمشاهدة معاناة المدنيين في غزة، لكنه يحمّل “حماس” المسؤولية وليس إسرائيل. وكما تتبنى الحكومة الإسرائيلية هذا الموقف، يعتقد ترمب أن السبيل لإنهاء معاناة المدنيين هو انتصار إسرائيل الكامل وتدمير “حماس”. لن يقيد ترمب يد إسرائيل في غزة أو ضد “حزب الله” في لبنان، كما سيستمر تدفق الأسلحة إليها. أيضا، لن يعاقب إسرائيل على توسيع المستوطنات في الضفة الغربية أو غزة، بخلاف إدارة بايدن التي بدأت بفرض عقوبات على بعض قادة المستوطنين الإسرائيليين، وهو ما سيتوقف تحت إدارة ترمب.

من الواضح أن ترمب لا يملك حليفا سياسيا داخليا يدافع عن القضية الفلسطينية أمامه، وقد يكون قادة الخليج وحدهم القادرين على إعادة لفت انتباهه لهذه القضية، بشرط أن يقرروا حجم التأثير الذي قد يرغبون بالمخاطرة به.

هذا الدعم القوي من ترمب جعل الإسرائيليين سعداء بفوزه في الانتخابات، لكن عليهم أن يتذكروا أن ترمب شعر في نهاية فترته الأولى بأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو خانه بعد أن بادر بتهنئة جو بايدن بفوزه في انتخابات 2020، وهي خطوة لم ينسها ترمب حتى اليوم. علاوة على ذلك، فإن الفوز الكبير الذي حققه ترمب في انتخابات 2024 يعني أنه لن يشعر بالالتزام تجاه أصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة لدعمهم الانتخابي، حيث تشير التحليلات الأولية إلى أن حوالي ربع الجالية اليهودية في أميركا فقط صوتت له. قد يعني هذا الشعور الذي يختلج ترمب من خيانة 2020 وعدم حاجته لدعم أصدقاء إسرائيل أنه لن يمنح تل أبيب شيكا على بياض في ولايته الثانية.

إيران… الصقر والحمامة

رغم الضغط المتوقع من جانب إسرائيل وصقور الجمهوريين لدفع ترمب نحو شن هجوم على إيران الضعيفة، قد يقاوم ترمب هذا الضغط نظرا لتردده بشأن خوض حرب طويلة جديدة في الشرق الأوسط. يُذكر أن ترمب أعرب منذ عام 2016 عن قناعته بأن التدخلات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط كانت خطأ فادحا، وهو رأي تشاركه قاعدته الشعبية وقطاع من الحزب الجمهوري، بما في ذلك نائب الرئيس. وأكد ترمب في تصريحات له في سبتمبر/أيلول الماضي على ضرورة التفاوض على اتفاق نووي جديد مع إيران، دون أن يكشف عن تفاصيل محددة. رغم الصعوبة الفنية المتوقعة للتفاوض، لن يتردد ترمب في المضي قدما في المحادثات مع “الجمهورية الإسلامية”، بخلاف بايدن، ولن يخشى الانتقادات السياسية من داخل حزبه الجمهوري. وفيما يبدو، يطمح ترمب لنيل جائزة نوبل للسلام بعد توقيع اتفاقيات أبراهام، وقد يرى أن إبرام اتفاق مع إيران قد يفتح له الطريق لتحقيق هذا الهدف في المستقبل.

ومع ذلك، فإن تطلعه لجائزة نوبل لن يمنعه من استئناف حملة الضغط القصوى على إيران في العام المقبل، مع الحرص على تطبيق العقوبات بقوة ودون استثناءات. لن يكون هناك تساهل كما في اتفاق بايدن الذي سمح لواشنطن بالتغاضي عن مشتريات الصين من النفط الإيراني مقابل الحد من أنشطة إيران ضد القوات الأميركية في العراق وسوريا. وعلى العكس، سيقبل ترمب بسهولة تنفيذ الاتفاق الذي أبرمه بايدن مع العراق بشأن الانسحاب التدريجي للقوات الأميركية خلال عامي 2025 و2026، وربما يتسارع هذا الجدول الزمني، بالإضافة إلى سحب آخر القوات الأميركية من سوريا، ربما مقابل تنازلات معينة من تركيا وروسيا في مناطق أخرى.

كما يُتوقع من إدارة ترمب الجديدة أن تتبنى نهجا صارما تجاه العراق، وربما تفرض عقوبات عليه إذا استمر في دفع مستحقات الطاقة المستوردة من إيران. إذ لن تكون هناك استثناءات كما كان في السابق. ويبدو هذا النهج مرجحا بشكل خاص، إذ إن ترمب ليست لديه علاقة شخصية برئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، ولن يعطي لقاءه الأولوية. في نظر ترمب، يعتبر العراق مجرد تابع لإيران.

وينبغي تذكر أن ترمب من الصعب التنبؤ بخطواته، حتى بالنسبة لأقرب مستشاريه. وفي ولايته الثانية، سيواجه قيودا أقل من تلك التي واجهها في عام 2017، ولن يكون هناك مبدأ ثابت لـ”عقيدة ترمب” يحدد استراتيجية واضحة ترشده أو توجهنا.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
المجلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة × 2 =

زر الذهاب إلى الأعلى