ترامب والنفط الإيراني: ما القادم؟

في ظلّ الاتفاق النووي، تمتّعت إيران بفترة انتعاش اقتصاديّ التقطت فيها أنفاسها وتمكّنت خلالها من العودة للاندماج في الأسواق العالميّة وتخفيف الكثير من الأعباء والمشكلات على مختلف المستويات.

ميدل ايست نيوز: شكّل توقيع خطّة العمل الشاملة المشتركة، المعروفة بـ”الاتفاق النووي”، عام 2015 بين إيران والقوى الغربيّة نقطة تحوّل في المسار الاقتصاديّ لإيران، وخصوصاً صادراتها النفطيّة، التي تُعدّ المصدر الأهم من مصادر الدخل القوميّ للبلاد الواقعة تحت العقوبات منذ عقود.

في ظلّ ذلك الاتفاق، تمتّعت إيران بفترة انتعاش اقتصاديّ التقطت فيها أنفاسها وتمكّنت خلالها من العودة للاندماج في الأسواق العالميّة وتخفيف الكثير من الأعباء والمشكلات على مختلف المستويات. فبالإضافة لتحرير ما يزيد على 100 مليار دولار من الأرصدة المُجمّدة في الخارج، كان تعافي قطاع الطاقة واحداً من النقاط المضيئة في الاتفاق، حيث أتاح لشركة النفط الوطنيّة الإيرانيّة الاستثمار في حقول نفطٍ جديدة وإجراء إصلاحات في حقول النفط القديمة.

ودفعت هذه التطوّرات الإيجابيّة بصادرات إيران إلى الزيادة، حيث ارتفعت من نحو 1.5 مليون برميل يوميّاً عام 2015 إلى نحو 2.5 مليون برميل يوميّاً عام 2018. لكن الأيام الجيّدة لم تدم طويلاً. ففي أيار/ مايو 2018، اتخذ الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب قراراً انسحبت بموجبه الولايات المتحدة من الاتفاق النووي.

وأطلق قرار ترامب بالتخلي عن الاتفاق حملة “الضغط الأقصى” على إيران، حيث أعيد فرض عقوبات شاملة استهدفت قطاع الطاقة والأنظمة المالية الإيرانية. وكان الهدف واضحاً: شل الاقتصاد الإيراني، إجبار إيران على تقديم تنازلات بشأن برنامجها النووي، والحد من نفوذها الإقليمي.

وركزت هذه الاستراتيجية على محاولة تقليص صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر. وشملت الحملة عقوبات ثانوية تهدد بفرض عقوبات على أي دولة أو كيان يتعامل مع النفط الإيراني، بالإضافة إلى قيود لوجستية استهدفت شركات الشحن وشركات التأمين والمؤسسات المالية التي تسهل الصادرات الإيرانية.

ورغم أن عقوبات ترامب لم تنه تصدير النفط الإيرانيّ بالكامل، إلا أنها قلصته على نحو حاد، إذ انخفضت صادرات البلاد من مستوى 2.5 مليون برميل يومياً الذي كانت قد وصلته عشيّة الانسحاب الأميركيّ من الاتفاق إلى نحو 500 ألف برميل يوميّاً خلال ما تبقى من ولاية ترامب الأولى، حارمة الخزينة الإيرانيّة من مليارات الدولارات. اتخذت الاستجابة الإيرانية لضغوط ترامب القصوى أشكالاً متعددة.

وفي هذا الصدد، صعّدت إيران التوترات الأمنيّة في منطقة الخليج من خلال تكثيف احتجاز ناقلات النفط ومهاجمة سفن الشحن بالقرب من مضيق هرمز، وصولاً إلى مهاجمة منشآت شركة أرامكو السعوديّة في سبتمبر/ أيلول 2019، وهو الهجوم الذي أظهر هشاشة أمن إمدادات الطاقة في واحدة من أهم مناطق تجارة النفط والغاز في العالم، وأرسل رسالة إيرانية واضحة لواشنطن مفادها أن سياسة “الضغط الأقصى” لن تمر بدون تكاليف، وأنّ حرمان إيران من استغلال مواردها النفطيّة قد يؤدي بالضرورة إلى التأثير على إنتاج النفط في الجانب الآخر من الخليج.

وعلاوة على ذلك، أدركت إيران أنها بحاجة لمسارات أخرى لتصدير نفطها تحسّباً لحالات الطوارئ التي قد يُغلق فيها مضيق هرمز، ولذلك بدأت العمل على مدّ خط أنابيب بطول 1000 كم من مناطق إنتاج الخام الأسود في الأهواز إلى ميناء بندر جاسك المُطلّ على خليج عُمان. وبطبيعة الحال، نبهت العقوبات التي اتخذتها إدارة ترامب إيران إلى ضرورة تطوير تكتيكاتٍ مختلفة للالتفاف على العقوبات، وهي التكتيكات التي ستُستخدم على نطاقٍ واسع وكثيف كما سنرى لاحقاً.

سعت إدارة الرئيس جو بايدن للابتعاد عن سياسة “الضغط الأقصى” التي اتخذتها إدارة ترامب الأولى. وبدلاً من ذلك، بدأت التركيز على مُقاربة مختلفة تتمحور حول الاحتواء والانخراط الدبلوماسيّ، واستكشاف فرص العودة للاتفاق النووي ومكافأة إيران على الخطوات التي تعتبرها واشنطن إيجابيّة.

ورغم أنّ إدارة بايدن لم تُلغ العقوبات المُشدّدة التي فرضتها إدارة ترامب بعد انسحابها من الاتفاق، إلا أنّها تغاضت في الكثير من الأحيان عن تنفيذ تلك العقوبات، وهو ما أتاح لإيران استعادة نشاطها في مجال تصدير النفط. واستندت إيران في تصديرها للخام الأسود خلال عهد بايدن إلى شبكة من ناقلات النفط المُسجلة تحت ملكيّة شركات وهميّة، وإلى أساليب نقل النفط من ناقلة لأخرى في أعالي البحار لإخفاء مصدر الخام الذي تحمله، بالإضافة لتكتيكات أخرى تتضمّن إطفاء إشارة إرسال السفن الناقلة للنفط الإيراني لمنع تتبعها من قبل السلطات البحريّة المعنية أو إرسال إشارات خاطئة حول مكانها الحقيقي.

من الواضح أن هذا المزيج بين تغاضي إدارة بايدن والخبرة التي اكتسبها الإيرانيون في مجال كسر العقوبات النفطيّة كان مثمراً للغاية. فقد عاودت صادرات الخام الأسود الإيرانيّة ارتفاعها لتصل إلى معدّل 1.6 مليون برميل يوميّاً خلال عام 2024، وهو أعلى مستوى تصله في خمس سنوات.

وبحسب تقديرات إدارة معلومات الطاقة الأميركية، بلغت عوائد تصدير المنتجات البتروليّة الإيرانيّة خلال السنوات الثلاث الأولى من عهد بايدن نحو 144 مليار دولار، أي بزيادة مقدارها 100 مليار دولار عمّا صدرته طهران من هذه المنتجات في السنتين الأخيرتين من عهد ترامب، وذلك حين كانت العقوبات على أشدّها.

وعلى الرغم من الضغط من قبل الصقور في واشنطن، الداعين إلى إجراءات أكثر صرامة، سعت إدارة بايدن إلى تحقيق توازن بين تنفيذ العقوبات واعتبارات أوسع تتعلّق باستقرار إمدادات الطاقة العالمية، وخصوصاً في ظل حرب أوكرانيا وارتفاع معدلات التضخم.

مع دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مُجدّدا في يناير/ كانون الثاني 2025، أُعيد طرح الأسئلة حول السياسة التي سينتهجها إزاء إيران في ضوء التطوّرات الأخيرة في المنطقة في أعقاب حرب غزّة، وفي ضوء اعتماد إدارته على طاقم يحمل مُقاربة مُتشدّدة للغاية إزاء طهران، إذ تكفي الإشارة إلى أن وزير الخارجية الأميركيّ الجديد مارك روبيو كان وراء مشروع قانون جديد بعنوان “حظر استيراد النفط الإيراني” يهدف إلى توسيع مظلة العقوبات ضد الكيانات التي تشحن أو تعالج النفط الخام الإيراني، أكانت مصافي أم موانئ أو ناقلات شحن.

فهل ستعود إدارة ترامب الجديدة إلى سياسة “الضغط الأقصى”؟ وهل ستكون هذه السياسة فعالة؟ الإجابة عن السؤال الأول هي: هذا أمرٌ مرجّح بقوّة، وإن لم يكن ذلك لمعاقبة إيران، فلأسباب تتعلّق بأسلوب ترامب الذي يستخدم الأساليب الخشنة لإجبار خصومه على التفاوض وتقديم التنازلات. أما الإجابة عن السؤال الثاني فليست سهلة تماماً وهي أميل إلى لا أكثر من نعم، وذلك بسبب التطوّرات التي حدثت في طبيعة تجارة النفط الإيرانية بين عهد ترامب الأول وعهده الجديد المُنتظر.

في سنوات ترامب الأولى (2017-2021)، كان النفط الإيرانيّ يُصدّر إلى مجموعة من بلدان العالم، من بينها الصين والهند وكوريا الجنوبيّة وتركيا وغيرها من البلدان بما فيها بلدان في القارة الأوروبيّة. فحين أعادت إدارة ترامب الأولى فرض العقوبات على إيران، فإن جميع تلك الدول انصاعت للعقوبات ما عدا الصين، وهو ما أدى إلى انهيار صادرات النفط الإيرانيّة على نحو متسارع. أما اليوم، فإنّ 90% من صادرات إيران من الخام الأسود تذهب إلى بلدٍ واحد وهو الصين.

والأهم من ذلك، أنّ مشتري النفط الإيراني في ذلك البلد الآسيوي هم مجموعة من المصافي الخاصّة المستقلّة التي لا ترتبط بالشركات الصينيّة الكبرى ذات العلاقات التجارية الدوليّة، والتي تعمل خارج النظام المالي الدوليّ الذي تتحكّم به الولايات المتحدة. ولذلك فإنّ تشديد العقوبات مُجدّداً قد لا يكون نهجاً فعالاً تماماً، إذ ستستمر تلك المصافي بالحصول على النفط الإيراني بتخفيضاتٍ معتبرة، وستلجأ في الغالب إلى أنظمة مقاصة تعتمد على الدفع باليوان الصيني أو على نظام المقايضة، وهو الأمر الذي سيجعلها بعيدة عن يد العقوبات الأميركيّة.

يُضاف إلى ذلك أنه لن يكون من السهل على العقوبات الأميركيّة تغطية كلّ مناحي الشبكة التي بنتها إيران خلال السنوات الماضية لكسر العقوبات، والتي تتألف من شركات وهمية ووسطاء وناقلات نفط تعمل في الظل ومكاتب تحويلات مالية على امتداد العالم.

وتقدّم الأشهر الأخيرة من عمر إدارة بايدن مصداقاً لهذا الأمر، حيث إن فرض واشنطن عقوبات على 23 ناقلة تُستخدم لشحن النفط الإيراني للصين ردّاً على الهجوم الإيرانيّ الصاروخيّ على إسرائيل في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي لم يكن له إلا تأثير ضئيل على صادرات النفط الإيرانيّة للصين، فقد أتقنت طهران اللعبة ولم تعد الإجراءات الأميركيّة تعيقها عن مواصلتها. من هذا المنطلق، يمكن القول إن نجاح تدابير واشنطن المتوقعة ضدّ طهران سيعتمد بشكل كبير على دور الصين بصفتها مشترية للنفط الإيراني.

وتشير حاجة بكين للنفط الإيراني الذي يُباع لها بأسعار مُخفضة، ومنافستها الاستراتيجية مع واشنطن، إلى أنها ستقاوم الجهود الرامية إلى الحد من هذه التجارة. وعلاوة على ذلك، فإن استهداف الشركات الصينية المشاركة في تجارة النفط الإيراني قد يزيد التوترات بين الولايات المتحدة والصين، وهو ما يعقد العلاقات الدبلوماسية الأوسع، خاصّة إذا كانت واشنطن تُخطط لإطلاق نسخة جديدة من الحروب التجاريّة مع بكين.

ومن جهة ثانية، فإنّ نجاحاً جزئيّاً لعقوباتٍ أميركيّة متوقعة على إيران يعني أنّه ستكون هنالك حاجة إلى تعويض النقص الذي سيخلفه اختفاء نسبة ما من الصادرات الإيرانية من السوق، وهو الأمر الذي قد يدفع الولايات المتحدة للتنسيق مع بلدان الخليج العربيّ لتعويض هذا النقص، وهي إشارة قد لا تقرأها طهران بارتياح في ضوء التجارب التاريخيّة السابقة.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

13 − ثمانية =

زر الذهاب إلى الأعلى