المخطط الأميركي للتهجير ومسار التطبيع الإقليمي
يبدو أن إدارة ترامب ضاقت ذرعا بالرسائل الرمزية الإعلامية والسياسية الكثيفة، التي دأبت حركة حماس على بثّها عند كل عملية إفراج عن المحتجزين الإسرائيليين.

ميدل ايست نيوز: أثارت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول تهجير أهالي قطاع غزّة إلى مصر والأردن، وتحويل القطاع إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، تساؤلاتٍ عديدة عن تداعيات هذا الطرح على مسارات التطبيع العربي الإسرائيلي، خصوصا مستقبل اتفاقيات السلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن، وعلى مجمل السياسة الأميركية في إقليم الشرق الأوسط، ولا سيما بالنسبة للترتيبات الأميركية المستقبلية، على الصعد السياسي والاقتصادي والأمني، بعد فشل “الجولة الأولى” من حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، في تحقيق أهدافها المعلنة (إنهاء قدرات حركة المقاومة الإسلامية “حماس” العسكرية والسلطوية، ومنعها من تشكيل أي تهديد مستقبلي لإسرائيل، وتحرير المحتجزين الإسرائيليين بالقوة).
وعلى الرغم من إمكانية قراءة هذه التصريحات في إطار “التكتيكيات التفاوضية” للرئيس ترامب، بغية تكثيف ضغوطه القصوى على حركة حماس ومصر والأردن خصوصا، والأطراف العربية عموما، فإنها تنطوي على مستوى أعلى من الانحياز الأميركي للحليف الإسرائيلي، بهدف إخراج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والدولة الإسرائيلية من مآزقهما المتصاعدة، المتعلقة باستحالة حسم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لصالح تل أبيب، على الرغم من حقيقة التفوق التقني والعسكري الإسرائيلي (المدعوم أميركيا).
واستطرادا في التحليل، ثمة ثلاثة أهداف محتملة لتصريحات ترامب حول التهجير؛ أولها القضاء على إمكانية قيام الدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو/حزيران 1967، والالتفاف على تزايد الاعترافات الدولية بها، في إطار مساعي عدد من الأطراف العربية والإقليمية والدولية للتجاوب مع تداعيات حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، وأبرزها عودة قضية فلسطين إلى الأجندة الدولية، بالتوازي مع وضوح الفشل الإسرائيلي في حسم الصراع ضد الشعب والمجتمع والمقاومة الفلسطينية، وكذا ضد المقاومة اللبنانية، كما سلف القول. وثانيها تصدير المأزق الإسرائيلي إلى مصر والأردن والسعودية، وتوريطها في ترتيبات جديدة لقطاع غزّة، ودفعها إلى مساحة من الانشغال بالحفاظ على علاقاتها الجيدة مع واشنطن، عوض التركيز على دعم أهالي غزّة أو مساندة قضية فلسطين، (على نحو يشكّل، في المحصلة النهائية، ضغطا إضافيا على حركة حماس). وثالثها إيجاد الغطاء الأميركي لتهرب إسرائيل من استحقاقات ملف غزّة، عبر لجوء إسرائيل إلى سياسة توسيع الصراع نحو الضفة الغربية أولا، قبل احتمال تحول إسرائيل صوب ضرب إيران في عام 2025، بهدف تعطيل برنامجها النووي، (كما نقلت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية 13/2/2025).
ويبدو أن إدارة ترامب ضاقت ذرعا بالرسائل الرمزية الإعلامية والسياسية الكثيفة، التي دأبت حركة حماس على بثّها عند كل عملية إفراج عن المحتجزين الإسرائيليين، كما تكشفه عودة نغمة التهديدات الأميركية لحركة حماس، وتلويح الرئيس الأميركي (10/2/2025) بقطع المساعدات عن مصر والأردن إذا لم يقبلا استقبال اللاجئين الفلسطينيين من غزّة، ناهيك عن التهديد بإلغاء اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة إذا لم تفرج حماس عن جميع المحتجزين الإسرائيليين بحلول يوم السبت (15/2/2025).
وربما يمكن القول إن تكتيكات حماس التفاوضية نجحت إلى “حد ما”، في الضغط غير المباشر على إسرائيل وأميركا، للمضي قدما في تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، إضافة إلى استدعاء تدخل الوسيطين القطري والمصري، لإنقاذ الاتفاق من “التلاعب الإسرائيلي المتواصل”.
وعلى الرغم من حقيقة العجز الرسمي، العربي والإقليمي، عن لعب دور فعّال في وقف حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، على مدار أكثر من خمسة عشر شهرا، فإن انفلات السلوك الإسرائيلي بعد لقاء نتنياهو ترامب (4/2/2025)، وتكرار تهديدات واشنطن (خصوصا أفكار الرئيس ترامب غير المؤسسية) قد يخلقان تأثيرات عكسية على نحو يعطّل مجمل الترتيبات الأميركية لإقليم الشرق الأوسط، وربما يخلقان “إدراكا” رسميا لدى أغلب الدول العربية بأهمية التقارب والتعاون بقصد إفشال سياسة تهجير أهالي قطاع غزّة، توطئة لإيجاد مقاربة جديدة لإعادة مسألة الدولة الفلسطينية إلى الواجهة، حلا للمأزق الراهن في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ولئن كان صحيحا أن إقليم الشرق الأوسط يقف عند مفترق طرق حرج، وأن تدخلات القوى الدولية مرشحة للاستمرار والتصاعد، فإن صمود العامل الفلسطيني واستجماع الإرادة الفلسطينية بغية مقاومة ضغوط العامل الأمريكي الإسرائيلي، قد يؤديان في المحصلة إلى تحريك المساندة العربية والإقليمية، والتوافق حول الحد الأدنى، المتمثل في رفض “التهجير”، والحد الأقصى المتمثل في العودة إلى دعم مسار الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو/حزيران 1967، بوصفه “مخرجا واقعيا” في التعامل مع تداعيات حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة.
وفي هذا السياق، ثمة أربعة عوامل متداخلة تسهم في رسم مستقبل قضية فلسطين وإقليم الشرق الأوسط، بعد حرب غزّة؛ أولها صعوبة نجاح الرئيس ترامب في إنقاذ حليفه الإسرائيلي، من تصاعد مأزقه الاستراتيجي مع الشعوب العربية والقوى الحية فيها، ولا سيما الحواضن الاجتماعية والشعبية لقوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية.
ثانيها ارتباك الرؤية الأميركية وغياب الاستراتيجية الكبرى عن سياسات واشنطن، بسبب تداعيات النزعة “الترامبية الانعزالية”، خصوصا العداء للمؤسسات الدولية، وبروز أدوار الرئيس والنخب العقارية المحيطة به على حساب أدوار المؤسسات الأميركية المستقرة (فكرة تهجير أهالي غزّة نموذجا)، ما قد يعني “ارتباكا أوسع” في عملية صنع القرار الأميركي، ما قد يفضي في المحصلة الأخيرة إلى تآكل النفوذ الأميركي في إقليم الشرق الأوسط، بسبب بلوغ التعقيدات في المنطقة مستويات غير مسبوقة، مع احتمال خروج الأمور عن السيطرة، وبروز تيارات راديكالية (جهادية، أو حتى فوضوية عنفية).
يتعلق العامل الثالث بارتباك السياسة الإسرائيلية الإقليمية، وصعوبة، لكيلا أقول، استحالة تحقيق اختراقات جديدة/واسعة، في عملية التطبيع العربية الإسرائيلية، بعد تصاعد الجرائم الإسرائيلية في غزّة ولبنان والإقليم عموما، (إضافة إلى تصريحات نتنياهو حول إقامة الدولة الفلسطينية في الأراضي السعودية).
يتعلق العامل الأخير بإمكانية تصاعد الصراعات الإقليمية نتيجة السياسات والضغوط الأميركية/ الإسرائيلية، مع احتمال فشل واشنطن في ضبط مستوى الصراع الإسرائيلي مع إيران؛ أي منع انتقاله من مساحات “حروب الظل”، و”الحروب السيبرانية”، و”الحروب بالوكالة”، إلى مرحلة صدامٍ مباشر بين الطرفين، على نحو يأخذ الإقليم بأسره، إلى حلقات من التصعيد والفوضى والأزمات الاستراتيجية، ما قد يؤدي في المحصلة إلى “إفلات” الإقليم برمته من الهيمنة الأميركية، على نحو يؤكد أن إسرائيل تحولت إلى “عبء استراتيجي” على واشنطن، خصوصا في التعامل الأميركي مع الدول العربية ( ولا سيما مصر والأردن والسعودية) وكذا مع إيران، وهذا يعني إجمالا أن العودة الأميركية الإسرائيلية إلى طرح حلول التهجير وتصفية قضية فلسطين والتصعيد العسكري المحتمل ضد طهران، هي مقدمات لاحتمال دخول المنطقة إلى سيناريو من “الفوضى الإقليمية الشاملة”، بسبب رضوخ واشنطن لأحلام تيار اليمين الإسرائيلي غير العقلانية.