اتفاق الشرع-عبدي… بين “ضغط” التنازلات والرغبة في بناء الثقة

إثر الاتفاقية التي وقعها القائد العام لـ"قسد" الجنرال مظلوم عبدي مع الرئيس السوري أحمد الشرع، أنهت "قسد" مسارا سياسيا وعسكريا امتد لقرابة ثلاثة عشر عاما، كان خلاله فاعلا ميدانيا رئيسا في عموم المسألة السورية.

ميدل ايست نيوز: إثر الاتفاقية التي وقعها القائد العام لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) الجنرال مظلوم عبدي مع الرئيس السوري أحمد الشرع، أنهت “قسد” مسارا سياسيا وعسكريا امتد لقرابة ثلاثة عشر عاما، كان خلاله فاعلا ميدانيا رئيسا في عموم المسألة السورية، وقوة عسكرية وسياسية أولى في شمال وشرق سوريا.

وحسب الاتفاق ستكون هذه القوات وأجنحتها السياسية جزء ناشطا من المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا راهنا، وغالبا مستقبلها المنظور.

الاتفاق تضمن ثمانية بنود واضحة ومقتضبة، تشكل بعموها ملامح ما سوف تسير عليه منطقة شمال شرقي سوريا المسيطر عليها من قِبل قوات سوريا الديمقراطية خلال الشهور الباقية من هذا العام، حيث حدد الاتفاق ذلك لنفسه كإطار زمني، ويرسم بعض الخطوط السياسية المحورية، سواء في تلك المنطقة، وحتى مجمل الحياة العامة في البلاد.

كان واضحا للمراقبين بأن مخرجات هذا الاتفاق تتسم بالكثير من “الواقعية السياسية”، أي إن الطرفين تبادلا “التنازلات” والقبول بالحلول الوسط للنقاط العالقة، بعد أسابيع من المفاوضات الثنائية بينهما، برعاية الولايات المتحدة الأميركية وضغط منها. فالاتفاق الحالي حسب مصدر كردي رفيع تحدث لـ”المجلة” كان جاهزا منذ ثلاثة أسابيع، إلا أن موضوع آلية تشكيل اللجان الفنية المنفذة له بقيت محل نقاش مطول، إلى أن تم التوافق بشأنها أيضا.

إذ يؤكد في بنديه الأولين على ضرورة ضمان “حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية وكافة مؤسسات الدولة، بناء على الكفاءة بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية”، ويؤكد حقيقة أن “المجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية، وتضمن الدولة السورية حقه في المواطنة وكافة حقوقه الدستورية”. وهو “الاعتراف السياسي” الذي بقي الكرد السوريون يكافحون من أجله منذ تأسيس الدولة، وكانت مختلف السلطات وأنظمة الحكم تمتنع عن إقراره دستوريا وقانونيا، وتحقق راهنا. لكنه في المقابل أبعد، أو أجل على الأقل، أي إقرار باللامركزية الجغرافية/السياسية التي كانت القوى السياسية الكردية السورية تطالب به طوال السنوات الماضية.

فالاتفاق المبرم، ينص صراحة على تفكيك المؤسسات البديلة التي شيدتها الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا طوال السنوات الماضية، وإعادة هيكلتها ضمن النسيج الوطني: “دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرقي سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز”.

لكن الموقعين من طرف الإدارة الذاتية يمنون النفس بأنهم كسبوا “وقف إطلاق النار على كافة الأراضي السورية”، و”ضمان عودة كافة المهجرين السوريين إلى بلداتهم وقراهم وتأمين حمايتهم من الدولة السورية”. أي إن قوات سوريا الديمقراطية لم تعد مهددة من قِبل أية دولة أجنبية، لأنها صارت قوة وطنية معترفا بها، وصار مئات الآلاف من المهجرين الكرد من مناطق عفرين ورأس العين وريف حلب قادرين على العودة إلى مناطقهم الأصلية وممتلكاتهم، بعدما صارت هجرتهم الجماعية تهدد الوجود الكردي في سوريا.

البنود الأخيرة من الاتفاق رسمت بعضا من الملامح السياسية للمرحلة القادمة داخليا. فحسبه صارت قوات سوريا الديمقراطية جزءا من الجهد الكلي للسلطة الجديدة في محاربة بقايا النظام السابق: “دعم الدولة السورية في مكافحتها لفلول الأسد وكافة التهديدات التي تهدد أمنها ووحدتها”. ما يعني أن شرعية النظام الجديد صارت كاملة وواجبة على قوات سوريا الديمقراطية ومؤسساتها وحتى رؤيتها السياسية، شريطة أن لا تتعرض هذه القوات لأية ضغوط وأشكال ابتزاز من مؤسسات الدولة واستطالتها الإعلامية والسياسية: “رفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية ومحاولات بث الفتنة بين كافة مكونات المجتمع السوري”.

مصدر سياسي “كردي” واسع الاطلاع، شرح في حديث مع “المجلة” ما اعتبرها المناخات الدافعة لهذا الاتفاق، وأضاف: “كان واضحا خلال الشهور الماضية، تحديدا بعد استلام الإدارة الأميركية الجديدة لدفة الحكم، أن تركيا تتجهز عسكريا وميدانيا، واستخدمت أقصى الضغوط على السلطة الجديدة في البلاد، بغية إنهاء قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا بأي ثمن، ولو كان ذلك على حساب بعض المواجهة السياسية مع الولايات المتحدة، فالإدارة الأميركية وقتها، حسب الرؤية التركية، ستفضل الانسحاب أو الاعتراف بالواقع، بدل الدخول في مواجهة مع حليفة مثل تركيا.

وتجاوزا لإمكانية حدوث ذلك، بدأت قوات سوريا الديمقراطية مفاوضة دمشق بحيوية وتعامل إيجابي مع التشجيع الأميركي. فالقادة الميدانيون الأميركيون عبروا عن خشيتهم من أية قرارات مباشرة قد تصدرها الإدارة الأميركية الجديدة، وحساباتها التي قد تتجاوز تفصيلا صغيرا مثل شمال شرقي سوريا، لصالح ملفات عالقة أخرى، مثل إيران وأوكرانيا، التي تحتاج فيها إلى مؤازرة تامة من قِبل تركيا”.

المصدر السياسي أكد خلال حديثه عن وجود آلية واضحة المعالم لتنفيذ ما تم التوصل إليه ميدانيا، وأكمل: “سيكون ثمة سبع أو ثماني لجان فنية تخصصية، ستبدأ أعمالها عما قريب، تختص بشؤون التربية والتعليم العالي، حيث ثمة مئات الآلاف من الطلبة الذين تلقوا طوال السنوات الماضية تعليما باللغة الكردية فقط، وسيكون مثلها لجان خاصة بالإدارة البيروقراطية العامة والجيش والمعابر الحدودية والسجون… إلخ. فهذه المؤسسات تعمل وتدير نفسها ذاتيا منذ 13 عاما، وتاليا تشبه عملية دمجها الحالية مع مؤسسات الدولة السورية خلق اتحاد انحلالي بين دولتين، وهو ما سيخلق الكثير من الصعوبات، تحديدا في قضايا شديدة الحساسية، مثل الجيش والسجون، وهو ما قد يهدد الاتفاق بالانهيار لو فشلت.

لأجل ذلك، سيحتاج الطرفان إلى مرحلة طويلة لبناء الثقة، قد تطول لشهور عديدة، كأن تكون القوات العسكرية الداخلة إلى مناطق الإدارة الذاتية من التشكيلات المدربة أميركياً في (قاعدة التنف)، أو أن يتوافق الطرفان على إدارة السجون حسب نظام داخلي مشترك بينهما، وهكذا. فالإطار الزمني للاندماج سيخضع لما قد يجده الطرفان من صعوبات أثناء التنفيذ، ولأجل ذلك قد يتجاوز التنفيذ مدة التسعة أشهر المحددة له، ودائما برعاية ومراقبة من الولايات المتحدة”.

تحول جيوسياسي

في الصورة الأعم، تبدو الاتفاقية تعبيرا عن تبدل جوهري في “الفالق السياسي” إقليميا، المتمثل في التراجع الشديد لنفوذ إيران الإقليمي، وتصاعد الدور التركي، المتراكب مع المبادرة التركية الحالية تجاه المسألة الكردية في البلاد، وغالبا في عموم المنطقة.

فحسب هذه الاتفاقية، ستغدو قوات سوريا الديمقراطية، المقربة أيديولوجياً ورمزياً من “حزب العمال الكردستاني”، جزءا مندمجا في هياكل السلطة السورية الجديدة، المقربة تماما من تركيا، وهو أمر كان من المستحيل حتى تخيله قبل شهور قليلة. لكن لا يمكن قراءة وفهم حدوثه بمعزل عن التحول الذي صار يصيب علاقة تركيا مع “حزب العمال الكردستاني” نفسه، فهذا الأخير وافق بعد نداء زعميه المعتقل عبد الله أوجلان على وضع سلاحه وحلّ نفسه، وتاليا إنهاء الحرب المستدامة طوال أربعة عقود مع الدولة التركية، وترك المسألة الكردية في تركيا للحلول السياسية المتراكمة.

بهذا المعنى، فإن الاتفاقية تعني “نهاية الحقبة الإيرانية” في سوريا تماما، حيث كان المراقبون والساسة المقربون من تركيا يتهمون ويحذرون من إمكانية تحول منطقة شمال شرقي سوريا- والتي تشكل قرابة ربع مساحة البلاد- إلى بؤرة لعودة النفوذ الإيراني إلى سوريا، خصوصا لو انسحبت القوات الأميركية بشكل سريع وغير محسوب العواقب عما قريب. فالإيرانيون وقتئذ كان يمكن لهم أن يعرضوا أنفسهم كحبل نجاة لقوات سوريا الديمقراطية وعموم تلك المنطقة، مستفيدة من حالة “الفزع” التي قد تصيب قوات سوريا الديمقراطية وقواعدها الاجتماعية، فيما لو بقيت دون أي نصير وحامٍ استراتيجي.

غير بعيد عن ذلك، ترسم الاتفاقية ملمحا لما سوف تكون عليه سوريا في المستقبل القريب، كبؤرة هادئة غير متصارع عليها، مع وجود نفوذ أميركي/تركي/عربي بعيد المدى، حيث إن هدوءها سيكون جزءا من إمكانية تهدئة الأوضاع في لبنان وإيجاد توافقات بشأن القضية الفلسطينية. لكن الأهم هو ما سوف يتخذ بشأن إيران في المستقبل القريب، وموقع سوريا من تلك الإجراءات.

إلى جانب ذلك، فإن الاتفاقية الحالية تفند وتضع حدا لطيفا من الادعاءات والخطابات الإعلامية التي انتشرت طوال الأسابيع الماضية، كانت تربط قوات سوريا الديمقراطية بطيف من البرامج السياسية العابرة للحدود والمنافية للواقعية السياسية. فعدد هائل من المنابر والطروحات السياسية قالت إن مستويات عالية من التنسيق الاستخباراتي والسياسي وحتى العسكري صارت تجري بين إسرائيل وقوات سوريا الديمقراطية، وإنها دخلت مرحلة التنفيذ، بغية كسر الوحدة الكيانية لسوريا، وتهديد تركيا في عمقها الجيوسياسي.

كذلك ارتفعت أصوات تشكك بوجود تحالف/مؤامرة بين القوى السياسية الممثلة للأقليات المذهبية والقومية في البلاد، تستهدف فرض النظام الفيدرالي على السوريين، مشككين تحديدا في العلاقة بين هذه القوات والقوى العسكرية المنتشرة في محافظة السويداء وفلول النظام السابق.

أخيرا، فإن الاتفاقية تعبير عن قبول واعتراف القوى الدولية المركزية بالنظام السياسي الجديد الحاكم لسوريا. فلولا ذلك، لما رعت هذا الاتفاق، ولا اعتبرته عبر تصريحات ممثليها تعبيرا عما تريد أن تراه في سوريا مستقبلا على أكثر من مستوى. فمشاركة قوات سوريا الديمقراطية في هياكل النظام السياسي الجديد في البلاد هي تلبية لواحد من أهم شروط الدول الغربية على السلطة الجديدة، أي اتباع نهج “التشاركية الحقيقية” في بناء مؤسساتها الحاكمة. فوعي الرئيس الشرع لأهمية احتواء قوات سوريا الديمقراطية كان في واحد من أبعاده إرسال رسالة إلى القوى الغربية، ودليلا على حسن نواياه، خصوصا بعد الأحداث المرعبة في منطقة الساحل السوري، والتشكيك في إمكانية رفع العقوبات في ظلال هذه السلوكيات.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
المجلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية − 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى