البرنامج النووي الإيراني… تطوير متسارع لم توقفه العقوبات
يعود البرنامج النووي الإيراني إلى واجهة الأحداث الدولية بشكل أكثر إثارة للاهتمام من ذي قبل.

ميدل ايست نيوز: يعود البرنامج النووي الإيراني إلى واجهة الأحداث الدولية بشكل أكثر إثارة للاهتمام من ذي قبل، سواء لجهة التهديدات الأميركية والإسرائيلية المتصاعدة بضرب منشآت طهران النووية، أو التقارير الأممية المتزايدة ببلوغ البرنامج مراحل أكثر تقدماً وتطوراً من أي وقت مضى، ما يقرّب طهران من القدرات الضرورية لصناعة قنبلة نووية، فضلاً عن تهديدات إيرانية بين فينة وأخرى باحتمال تغيير العقيدة النووية التي لطالما أكدت أنها تعتمد “السلمية”، لكنها لا تخفي في الوقت ذاته أنها قد تغيّر هذه العقيدة وتتجه نحو إنتاج القنبلة النووية إذا ما تعرضت لقصف أميركي أو إسرائيلي، حسب ما قال كبير مستشاري المرشد الإيراني، علي لاريجاني، مساء الاثنين الماضي.
تطور البرنامج النووي الإيراني
تطورت القدرات النووية الإيرانية إلى حد كبير خلال السنوات الأخيرة، بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي عام 2018 وتخلي طهران عن معظم التزاماتها النووية بعد ذلك. ويقول الخبير الإيراني عباس أصلاني، لا أحد اليوم يسأل عن امتلاك إيران العلم النووي لإنتاج القنبلة النووية لأنها تمتلكه، لكن الأمر يتوقف على “اتخاذ قرار وإرادة” بذلك أكثر من القدرة على ذلك، “فهي لم تتخذ بعد هذا القرار”. ولا يرى أصلاني تناقضاً بين تصريحات علي لاريجاني الذي هدد بالتوجه نحو صناعة القنبلة النووية إذا تعرضت إيران للقصف، وبين ما قاله وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، الثلاثاء الماضي، في تغريدة أعاد فيها نشر التزام إيراني منصوص عليه في الاتفاق النووي بأنها “لن تسعى أبداً تحت أي ظرف كان إلى امتلاك وتطوير أو حيازة أي أسلحة نووية”.
ويشير أصلاني إلى أن لاريجاني يؤكد أيضاً أن السياسة الإيرانية ما زالت تتمثل في الالتزام بسلمية البرنامج النووي الإيراني في الوقت الراهن، ولم يتم اتخاذ أي قرار بالعدول عن ذلك، مضيفاً أن عراقجي أيضاً أراد القول للأميركيين الداعين إلى عدم التوجه نحو إنتاج السلاح النووي إن بلاده لا تسعى إلى ذلك من الأساس، لافتاً إلى أن تصريحات المسؤولين الإيرانيَين تؤكد أنه يمكن معالجة هذا الهم الغربي بسهولة. ووفق أصلاني، أراد لاريجاني إيصال رسالة للغرب بأن أي هجوم لن يدمر العلم النووي الذي اكتسبته إيران، ولن يحقق أيضاً مطالب الأميركيين والغربيين بعدم التوجه نحو السلاح النووي و”هو ما سيأتي بنتيجة عكسية”.
وفي ظل التقدم الكبير الذي حققه البرنامج النووي الإيراني، تُطرح اليوم تساؤلات ملحّة عن الوقت الذي تحتاجه طهران لصناعة قنبلة نووية إن اتخذت قراراً بذلك. ويقول أصلاني إن “التقديرات مختلفة ولا يوجد تقدير دقيق”، عازياً ذلك إلى عدم اتخاذ إيران قراراً في هذا الاتجاه، مضيفاً أن معظم التقديرات السائدة تصدر من جهات غربية “للتسويق بأن إيران تسير في هذا الاتجاه، ولكن لا يوجد جدول زمني محدد بشأن هذا الموضوع”.
وكان وزير الخارجية الأميركي السابق أنتوني بلينكن قد قال في يوليو/تموز 2024 إن “الوضع الراهن ليس جيداً. إيران، بسبب انتهاء الاتفاق النووي، بدل أن تكون على بعد عام واحد على الأقل من القدرة على إنتاج مواد انشطارية لصنع قنبلة نووية، هي الآن على الأرجح على بعد أسبوع أو اثنين من القدرة على القيام بذلك”.
من جهته، يقول الخبير الإيراني في الاتفاق النووي، هادي خسروشاهين، إن هذا الاتفاق وبفعل قيود فرضها على البرنامج النووي الإيراني زاد الفاصل الزمني بين اتخاذ قرار لإنتاج قنبلة نووية وتنفيذه إلى نحو عامين تقريباً، “لكن اليوم تشير التقديرات إلى أن إيران يمكنها تخطّي نقطة “الاختراق النووي” في أقل من عشرة أيام وحتى أقل من ذلك”. ويضيف أن تخطي نقطة “الاختراق” لم يعد صعباً على إيران. ووفق تقرير أصدره المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 كان بإمكان إيران تجاوز “الاختراق النووي” في أقل من عشرة أيام، من خلال استخدام ثلث احتياطياتها من اليورانيوم المخصب بدرجة نقاء 60% لتصنع قنبلة نووية، واليوم البلد يمتلك احتياطيات أكبر من ذلك بكثير.
هذه الأرقام تكشف عن تطور كبير سجّله البرنامج النووي الإيراني منذ عام 2018 بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، وفق خسروشاهين، الذي يؤكد أن هذا البرنامج توسع وتطور كمّاً وكيفاً إلى أضعاف ما كان عليه الوضع عندما أُبرم الاتفاق النووي عام 2015، ما نتج عن ذلك تخصيب اليورانيوم بدرجات نقاء عالية وبكميات كبيرة، خصوصاً في منشآت مثل فوردو المحصنة في أعماق الأرض والتي ينظر إليها الغرب بحساسية بالغة.
ويوضح خسروشاهين أن خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) خفّضت احتياطيات إيران من اليورانيوم من 10 آلاف كيلوغرام إلى 300 كيلوغرام بدرجة نقاء 3.67%، ولم يعد مسموحاً لطهران بأن تخصب أكثر من هذه الدرجة وأن تحتفظ بكميات أكثر من 300 كيلوغرام، وبدأ تنفيذ هذه القيود في يناير/كانون الثاني 2015 وكان من المقرر أن تستمر نحو 15 عاماً. ويضيف أنه بموجب تلك القيود تقرر تقليل عدد أجهزة الطرد المركزي من 19 ألفاً إلى 5 آلاف جهاز، قائلاً إن معظم هذه الأجهزة كانت من الجيل الأول (IR1)، وقليل منها كان من الجيل الثاني الأكثر تطوراً، وتم إخراج كل هذه الأجهزة من عملية التخصيب وأبقي على عدد محدود من أجهزة الجيل الأول فقط (5 آلاف) للقيام بتخصيب اليورانيوم تحت مستوى 3.67%. ويتابع أن إيران طوّرت عملية تخصيب اليورانيوم بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي إلى 20% ثم إلى 60%، فضلاً عن زيادة احتياطياتها وكذلك توسيع مواقع التخصيب التي تصل إلى ثلاث منشآت، وتشغيل أجهزة الطرد المركزي الأكثر تطوراً ووصلت إلى الجيل السادس وحتى الجيل التاسع.
ويؤكد خسروشاهين أن إيران قبل إبرام الاتفاق النووي كانت تمتلك نحو 3 آلاف جهاز طرد مركزي من الجيل الثاني، لكنها اليوم تمتلك 3700 جهاز، فضلاً عن نحو 6 آلاف جهاز طرد مركزي من الجيل السادس المتطور، بينما لم يكن بحوزتها هذه الأجهزة المتطورة قبل الاتفاق النووي، مشيراً إلى أنها لديها أيضاً أجهزة طرد مركزي من الجيل التاسع لكنها لم تشغلها بعد.
وحسب أحدث تقارير للوكالة الدولية للطاقة الذرية، فقد بلغ حجم احتياطيات إيران من اليورانيوم المخصب بدرجة نقاء 60%، 274.8 كيلوغراماً حتى 8 فبراير/شباط الماضي، ما يكشف عن قفزة بنسبة 50% في هذه الاحتياطيات خلال ثلاثة أشهر فقط إذا ما قارنا الأرقام مع التقرير الصادر قبله بثلاثة أشهر، حيث زادت إيران خلال هذه الفترة 92.5 كيلوغراماً من احتياطياتها من اليورانيوم المخصب بـ60%. وحسب تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن احتياطيات اليورانيوم المخصب بدرجة نقاء 60% في إيران قد اقتربت خلال الشهور الأخيرة إلى “درجة 90% العسكرية”.
تداعيات الانسحاب من الاتفاق النووي
تحقق إيران هذا التطوير المتسارع لبرنامجها النووي منذ الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي في مايو/أيار 2018 وتعرّضها لعقوبات شاملة مشددة، ما يعني أن الانسحاب من الاتفاق وهذه العقوبات على الرغم من تحميلهما إيران خسائر اقتصادية هائلة والتسبّب في أزمات اقتصادية، لكنهما نووياً جاءا بنتائج عكسية، حيث قال غروسي في تصريحات في 7 مارس/آذار الماضي إن العقوبات المفروضة على إيران غير فعّالة، مؤكداً أن طهران تعلمت كيفية التحايل على هذه العقوبات، وبرنامجها النووي تطور بشكل كبير منذ عام 2018. وأضاف غروسي، في مقابلة مع وكالة بلومبيرغ، أن المسؤولين الإيرانيين أكدوا له أنهم عزلوا برنامجهم النووي عن العقوبات، من خلال إعادة تنظيم الإنتاج المحلي وإنشاء سلاسل إمداد بديلة من أجهزة الطرد المركزي، قائلاً إنه على سبيل المثال، قامت طهران بتطوير خمسة نماذج جديدة من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي.
ويقول الخبير هادي خسروشاهين، إن البرنامج النووي الإيراني “بلغ مراحل متقدمة جداً تقنياً وعلمياً بنسبة كافية لن تعطله ضربات” جوية، مشيراً إلى أن هذه الهجمات ستلحق أضراراً وخسائر بالمنشآت النووية الإيرانية، لكن البلاد حسب التقديرات بسبب امتلاكها الخبرة والعلم الكافيين، يمكنها إعادة برنامجها النووي إلى ما كان عليه خلال عام أو عامين، لكن هذه المرة بدون أي رقابة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية وبدون عمليات التفتيش والتحقق، وحتى بدون التزام إيراني باتفاق الضمانات الملحق لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. ويضيف أن إيران بطبيعة الحال إذا ما تعرضت لهجمات على منشآتها النووية، أقله سترد عليها بإنهاء كافة أشكال التفتيش والتحقق للوكالة الدولية للطاقة الذرية وكذلك التزامها باتفاقية الضمانات، متوقعاً أن يشهد البرنامج النووي الإيراني حينها “تغييرات كبيرة، إذ لا يمكن تأخير البرنامج لأكثر من عام أو عامين، ثم بعد إعادته إلى ما كان عليه ستختلف علاقات إيران مع الذرية الدولية والقوى واللاعبين الغربيين”.
في هذه الأجواء المشحونة بالتهديدات الأميركية بقصف منشآت إيران النووية وتهديدات الأخيرة بصناعة السلاح النووي رداً على ذلك، أجرى غروسي، مساء الثلاثاء الماضي، مباحثات هاتفية مع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بشأن البرنامج النووي الإيراني، وناقشا آخر تطورات التعاون الثنائي بين الوكالة الدولية وطهران. ودعا عراقجي الوكالة الدولية إلى “اتخاذ موقف صريح وشفاف” بشأن التهديدات باستهداف المنشآت النووية الإيرانية. من جهته، قال غروسي إنه سيجري مشاورات مع بقية الأطراف لـ”خلق فضاء مناسب لأجل المساعدة في حل القضايا الموجودة”، مقدماً طلباً لزيارة طهران في هذا الإطار. وذكر بيان الخارجية الإيرانية، أن عراقجي وافق بشكل مبدئي على زيارة غروسي، مع اتفاقهما على بحث تفاصيل الزيارة وإتمامها بغية “إنجاح الزيارة”.
في السياق، يقول خسروشاهين إن مباحثات غروسي مع عراقجي تأتي على وقع “مجازفة” يمكن أن تقدم عليها الولايات المتحدة وإسرائيل مما يترتب على ذلك “أثمان كبيرة لهم”، حيث ستنهي هذه الهجمات وصول الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى منشآت إيران النووية وعمليات التفتيش فيها.
من جهته، يقول الخبير الإيراني في الملف النووي حسن بهشتي بور، إن إيران قادرة على إنتاج القنبلة النووية في أي ظرف، لكن المسألة المهمة هي هل أن امتلاك القنبلة النووية سيقلل من التهديدات ضد إيران أم سيزيدها؟ ويضيف أن الفكرة الأساسية لدى مؤيدي إنتاج القنبلة النووية في إيران هي أن الطرف الآخر لن يجرؤ على مهاجمة إيران إذا كانت تمتلك سلاحاً نووياً، فيما يبدو أن الفكرة القائلة إن إنتاج السلاح النووي فقط للردع ولن تُستخدم أبداً أصبحت محل تشكيك جاد، مشيراً إلى أن الجرائم التي تُرتكب في غزة ولبنان وسورية واليمن تُظهر أن تحقيق أهداف نظام الغطرسة العالمي أهم من تجاوز الخطوط الحمر في ارتكاب جريمة الحرب ضد الإنسانية.