من الصحافة الإيرانية: اللعبة الأكبر خلف الأبواب المغلقة
إن سعي إيران إلى تحقيق توازن مع روسيا لا يُقرأ في سياق التبعية، بل يُفهم في إطار تعزيز الاستقلال داخل معادلة القوة.

ميدل ايست نيوز: تأتي زيارة عباس عراقجي إلى موسكو قبيل الجولة الثانية من المفاوضات الحساسة مع الولايات المتحدة، في توقيت بالغ الدقة لا يمكن وصفه بالزيارة البروتوكولية أو الاعتيادية. بل تندرج هذه الزيارة ضمن سياق لعبة استراتيجية أكبر تحاول من خلالها إيران تحقيق توافق دون التنازل عن استقلالها الاستراتيجي، وسعيها لأن تكون فاعلاً في نظام عالمي متعدد الأقطاب قيد التشكل.
وفي ظل المشهد الدولي الراهن، الذي يتسم بمخاطر مرتفعة وعدم يقين، تسعى إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى تحقيق اتفاق سريع ومحدود للاستخدام السياسي الداخلي قبيل الانتخابات الأميركية، في حين تعمل طهران على هندسة مشهد تفاوضي يجعل منها لاعباً فاعلاً لا مجرد طرف سلبي في المعادلة.
ولا تُعد موسكو في هذا السياق شريكاً تقليدياً فحسب، بل تمثل ضلعاً أساسياً في مثلث التوازن الجيوسياسي الإيراني لمواجهة النفوذ الأميركي. ويمكن تحليل هذه الزيارة من ثلاثة أبعاد رئيسية:
-
تحقيق عمق تفاوضي استراتيجي عبر دعم موسكو أو على الأقل حيادها: في قواعد “الألعاب التكرارية” ذات المعلومات غير المكتملة، عندما لا يكون الطرف المقابل (الولايات المتحدة) متأكداً من حجم الخيارات البديلة المتاحة لإيران، فإنه سيميل إلى اعتماد أسلوب أقل حدة. ومن هذا المنطلق، يُعد التقارب الإيراني-الروسي نوعاً من “الغموض الفعّال” الذي يزيد تعقيد الحسابات الأميركية.
-
إبلاغ موسكو بالتطورات بشكل استباقي: تدرك طهران أن إبرام أي اتفاق من دون أخذ الاعتبارات الروسية بالحسبان سيقود إلى انعدام الثقة وتقويض الشراكة الاستراتيجية طويلة الأمد. وبالتالي، فإن الشفافية مع موسكو تشكّل نوعاً من “وثيقة تأمين” لحماية توازن المصالح المشتركة.
-
إرسال رسائل غير مباشرة إلى واشنطن عبر موسكو: كما كانت روسيا في السابق لاعباً محورياً في مسار الاتفاق النووي، فإن طهران اليوم تستخدم نفس القناة لتمرير رسائل دبلوماسية مركبة. وتؤكد بذلك أن أي اتفاق محتمل يجب أن يُبنى على فهم جديد لدور إيران الإقليمي، لا على أوهام استمرار سياسة “الضغط الأقصى”.
ولا بد من الإشارة إلى أن صناع القرار في واشنطن يضعون في مقدمة أولوياتهم سياسة “الاحتواء المزدوج” لكل من الصين وروسيا، وتندرج ضمن هذا الإطار محاولة جذب إيران إلى المعسكر الغربي اقتصادياً وقطع روابطها الاستراتيجية مع بكين وموسكو، كهدف ثانوي لكنه ذو بُعد استراتيجي.
وتدرك كل من موسكو وطهران هذه الحقائق جيداً، ما يجعل من كل تحرك دبلوماسي بمثابة خطوة محسوبة في لعبة شطرنج كبرى تجري على رقعة أوراسيا. وبناءً عليه، تُعد زيارة عراقجي إلى موسكو جزءاً من معمار استراتيجي إيراني جديد في خضم إعادة هيكلة النظام الدولي، وهي ليست فقط سعياً لانتزاع مكاسب، بل محاولة للحفاظ على مكانة إيران كطرف فاعل في إعادة تعريف توازنات القوى.
ولذلك، فإن سعي إيران إلى تحقيق توازن مع روسيا لا يُقرأ في سياق التبعية، بل يُفهم في إطار تعزيز الاستقلال داخل معادلة القوة. وهو ما يعكس استراتيجية تنأى بطهران عن الاصطفاف خلف الشرق أو الغرب، وتكرّسها بوصفها لاعباً مستقلاً مبدعاً في مركز ثقله الخاص. زيارة عراقجي إلى موسكو تحمل رسالة واضحة: واشنطن لا تتعامل مع معادلة بسيطة.
فردين قريشي
أستاذ في جامعة طهران