عراقجي في بكين؛ ماذا تريد الصين من المحادثات الإيرانية الأميركية؟
تعد الصين أحد الموقعين على خطة العمل الشاملة المشتركة وأحد أهم الشركاء التجاريين لإيران، وتتابع عن كثب أي تطورات تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني.

ميدل ايست نيوز: بناء على دعوة من الصين، سافر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى بكين عشية الجولة الثالثة من المحادثات التي بدأت مؤخرا بين طهران وواشنطن. وتعد الصين أحد الموقعين على خطة العمل الشاملة المشتركة وأحد أهم الشركاء التجاريين لإيران، وتتابع عن كثب أي تطورات تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني.
ومن بين اللاعبين الإقليميين والدوليين، ربما لا توجد دولة أكثر اهتماما بنجاح هذه المفاوضات أو بتخفيف الضغوط الاقتصادية على إيران من الصين. وبعبارات أبسط، فإن مصالح عدد قليل من البلدان في المفاوضات الأخيرة تتداخل بقدر ما تتداخل مصالح الصين مع مطالب طهران الحالية. وحتى موسكو، التي تقدم نفسها باعتبارها الشريك الاستراتيجي لطهران، لن تستفيد إلى هذا الحد من الحل الدبلوماسي للأزمة بين إيران والغرب.
والسبب وراء هذا الوضع هو الاستراتيجيات الثلاث الكبرى التي تنتهجها البلاد: أولاً، منع إيران من الحصول على الأسلحة النووية، وثانياً، الأولوية الأساسية للمصالح الاقتصادية والآثار المحتملة للأزمة النووية الإيرانية على هذه المصالح، وثالثاً، مواجهة الهيمنة الأميركية الأحادية الجانب على البنية السياسية والاقتصادية العالمية.
وتدفع هذه القضايا الثلاث بكين إلى السعي إلى حل التوترات بين إيران والولايات المتحدة، وإنهاء حملة الضغوط القصوى التي تشنها واشنطن ضد طهران، ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران أو تخفيفها على الأقل. ولكن بكين لديها أيضاً حدود في تحقيق هذه المطالب، وهي غير مستعدة لمساعدة إيران على النجاح في هذه المفاوضات.
إن العلاقات الصينية الأميركية متعددة الطبقات، وإيران جزء من معادلة متعددة الأوجه ومعقدة للغاية. ولهذا السبب، يتعين على الصين، عند اختيار الخطوات التي تتخذها فيما يتصل بإيران، أن تأخذ في الاعتبار أيضاً أولويات أخرى، بعضها ــ مثل العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة ــ يشكل أهمية استثنائية بالنسبة لبكين.
لماذا الصين مؤيدة لإيران إلى هذه الدرجة؟
إن الصين، مثل القوى النووية الأخرى والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، تعارض بشدة حصول إيران على الأسلحة النووية. إن السياسيين في هذا البلد، مثلهم في ذلك مثل الأوروبيين والأميركيين، يدركون جيداً أن مستوى تخصيب اليورانيوم في إيران يتجاوز بكثير الكمية اللازمة للاستخدام السلمي. في الاستراتيجية الكبرى التي تنتهجها الصين فيما يتصل بالشرق الأوسط، فإن تطوير إيران للقنبلة النووية ليس له مكان، ويعتبر هذا الأمر مخالفا تماما لمصالح بكين. وقد أظهرت هذه الدولة هذه السياسة علناً خلال العقد الماضي من خلال مواكبة اعتماد قرارات فرض عقوبات صارمة على إيران في مجلس الأمن.
ولهذا السبب، فإن منع إيران من صنع الأسلحة النووية لا يشكل بالنسبة للصين مجرد أداة للمساومة مع الولايات المتحدة أو تكتيكاً للحصول على المزيد من التنازلات من هذا البلد. وتشير مبادرة بكين في منتصف شهر مارس/آذار، وتقديم خطة من خمس نقاط للمساعدة في حل هذه القضية، إلى أن الصين تنظر أيضاً إلى الوضع الحالي للبرنامج النووي باعتباره أزمة خطيرة. وبناء على ذلك، لماذا تعتبر الصين مؤيدة لإيران إلى هذا الحد؟
ورغم السياسة المبدئية التي تنتهجها الصين فيما يتصل بتطوير الأسلحة النووية في إيران، فإن فرض المزيد من العقوبات أو المواجهة العسكرية مع إيران من شأنه أيضاً أن يلحق ضرراً بالغاً بمصالح الصين. وبحسب وكالة رويترز فإن هذه الدولة هي حاليا المشتري لنحو 90 بالمئة من النفط الإيراني. وبحسب بيانات شركة التحليل الاقتصادي “كيبلر”، بلغت مبيعات النفط الإيرانية 1.8 مليون برميل يوميا في الشهر الماضي. في الوقت نفسه، أفادت شركة “فيرتيكسا” التي تراقب حركة السفن، بأن حجم النفط الخام في مستودعات مصفاة النفط المركزية الصينية في مقاطعة شاندونغ ارتفع خلال نفس الفترة.
وهذا هو أعلى مستوى لصادرات النفط الإيرانية حتى الآن في عام 2020. وبحلول نهاية ولاية ترامب الأولى، انخفضت مبيعات النفط الإيرانية إلى 400 ألف برميل يوميا. وهذا على الرغم من أن إيران تمكنت خلال خطة العمل الشاملة المشتركة من زيادة مبيعاتها النفطية إلى مليونين ونصف المليون برميل يوميا.
وتواجه الصين بالفعل عقبات خطيرة في شراء النفط الإيراني. وكما ذكرت وكالة رويترز، فإن شركات صينية تنقل النفط الإيراني إلى سفن أخرى بالقرب من ماليزيا وسنغافورة للتهرب من الغرامات الأميركية، ومن هناك تستورده إلى الصين على شكل نفط منشأه ماليزيا أو سنغافورة.
ويعتمد الاقتصاد الصيني بشكل كبير على واردات الطاقة، ويقول كيبلر إن 16% من احتياجات البلاد من النفط في شهر مارس/آذار تم استيرادها من إيران. ومن المؤكد أن دوافع الصين لتخفيف العقوبات على إيران لا تقتصر على قضية شراء النفط من إيران.
إن احتياجات الاقتصاد الإيراني الواسعة للاستثمار الأجنبي في البنية التحتية الحيوية مثل السكك الحديدية وبناء الموانئ وشبكة الاتصالات من الجيل الخامس (5G) تشكل فرصًا مناسبة لتوليد الإيرادات للشركات الصينية والتي يمكن أن تستفيد منها إذا تم رفع العقوبات.
ولكن ربما يكون الأمر الأكثر أهمية من الفائدة الاقتصادية المباشرة التي ستجنيها الصين من تخفيف العقوبات على إيران هو الدور الذي يلعبه الخليج في تزويد الصين بالطاقة التي تحتاج إليها، وهو ما يجعل بكين ترى أي توتر عسكري في المنطقة ضاراً بمصالحها. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 40 في المائة من احتياجات الصين من الطاقة يتم تصديرها إلى البلاد من منطقة الخليج. ولهذا السبب فإن أي صراع عسكري في هذه المنطقة قد يكون بمثابة كابوس بالنسبة للصين، ليس فقط بسبب التأثيرات التي قد يخلفها على أسعار سوق الطاقة، بل وأيضاً بسبب المخاطر التي قد يخلقها في الخليج.
إن هذه القضية مهمة للغاية بالنسبة للصين لدرجة أنها في عام 2023، وفي خطوة غير مسبوقة، سعت البلاد بنشاط إلى حل الأزمة السياسية بين إيران والمملكة العربية السعودية، ومن خلال الوساطة والمفاوضات خلف الكواليس واستخدام الأدوات السياسية والاقتصادية المتاحة لها، مهدت الطريق للمصالحة بين البلدين.
الصين دولة صاعدة تواجه العديد من العقبات من العالم الغربي – وخاصة الولايات المتحدة – في طريقها إلى أن تصبح قوة عظمى عالمية. إن هذه الدولة لديها العديد من المشاريع الطموحة في هذا المسار، والتي يمكن لإيران أن تلعب فيها دوراً فعالاً للغاية. ومن أهم هذه المشاريع مبادرة “الحزام والطريق”، التي تعمل الصين حتى الآن جاهدة على ضم إيران إليها. و
يعد توقيع اتفاقية التعاون الاقتصادي لمدة 25 عامًا بين إيران والصين في عام 2021 أحد هذه الجهود. خلال هذه الفترة، مهدت الصين الطريق أمام حصول إيران على العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي للتعاون. وكانت هذه الدولة أيضًا أحد اللاعبين المهمين الذين أدى إلى دعوة طهران للانضمام إلى دول مجموعة البريكس.
وعلى الرغم من أن الصين، باعتبارها عضواً دائماً في مجلس الأمن، تتمتع بقوة في البنية الدولية الحالية، فإنها غير راضية عن الهيمنة التي يمارسها الغرب ــ وخاصة الولايات المتحدة ــ على هذه البنية، وتبذل جهوداً جادة ومخططة لإنهاء هذه الهيمنة.
وبهذه الطريقة، أصبحت الصين فعلياً مركز الثقل لنادي دول “الجنوب العالمي” التي تعتقد أن الغرب تجاهل مصالحها وأصبح عقبة أمام نموها وتقدمها. وفي سياق هذه المنافسة مع الولايات المتحدة، فإن التقرب من طهران وزيادة التوافق في السياسة الخارجية ليس مجرد تكتيك قصير الأجل، بل ضرورة استراتيجية وطويلة الأجل يمكن أن تساعد في تقويض هيمنة واشنطن على المستوى الدولي.
وعلى هذه الخلفية فإن المبادرات مثل توقيع عقود للتجارة باليوان ليست المبادرات العملية الوحيدة التي اتخذتها الصين للالتفاف على العقوبات الأميركية. ولكن هذا العمل هو في الواقع جزء من مشروع مهم للغاية يهدف إلى “إزالة الدولار” من الاقتصاد العالمي، وهو المشروع الذي أظهرت الصين جدية في متابعته.
في الواقع، في الصورة الأكبر، فإن معارضة الصين الشديدة للعقوبات الأميركية الأحادية الجانب ودعمها لطهران تشكل مقاومة لهيمنة منافس أصبحت قوته الدولية عقبة أمام بكين. إذا نجحت الولايات المتحدة في إرغام دولة مثل إيران على الخضوع بشكل أحادي الجانب، ودون دعم المجتمع الدولي، فإنها تكون قد حققت تنازلاً، جزء منه تم أخذه من جيوب دول مثل الصين أو روسيا.
إلى أي مدى تقف الصين وراء إيران؟
ورغم اهتمام الصين بإنهاء العزلة الاقتصادية لإيران، فإنها تواجه أيضاً قيوداً جدية في مساعدة إيران على الصعيد الدولي أو في صراعها مع الغرب. إن إيران تحكمها حكومة أظهرت تعصبها في متابعة الأيديولوجية السياسية الإسلامية، وتستمر في بعض الأحيان في لعب دور الحكومة التعديلية والثورية على الساحة الدولية.
إن الصين ليست غريبة على هذا الشكل من السياسة الخارجية، وحتى أوائل سبعينيات القرن العشرين، كانت بكين تلعب أيضاً موقفاً مماثلاً إلى حد ما لموقف إيران اليوم، في مواجهة العرف والقانون الدوليين. ولكن الحكومة الثورية الصينية تخلت عن جلدها بطريقة ذات معنى على مدى السنوات الخمسين الماضية، وانتقلت من سياسة خارجية أيديولوجية وجذرية إلى سياسة خارجية واقعية ترتكز على المصالح الوطنية. ولهذا السبب فإن الدعم الشامل الذي تقدمه الصين لدولة غير مستعدة، على سبيل المثال، تحت أي ظرف من الظروف للاعتراف بوجود دولة إسرائيل بسبب القانون الدولي، ليس خاليا من التحديات.
وتتمتع الصين بعلاقات جيدة مع إسرائيل، ويجب عليها دائماً أن تأخذ في الاعتبار مستوى العداء الأيديولوجي والشديد الذي تكنه الدولة الدينية الإيرانية تجاه هذا البلد في تعاملاتها مع إيران. وحتى على مستوى المنافسة الإقليمية بين إيران والمملكة العربية السعودية، تسعى الصين إلى إيجاد توازن يضمن الاستقرار على المدى الطويل، بحيث لا تصبح إيران، على سبيل المثال، القوة المهيمنة في المنطقة من خلال مجموعاتها التابعة.
وبالإضافة إلى هذه الاعتبارات الرئيسية، فإن الصين مضطرة أيضاً إلى النظر في جوانب مختلفة من علاقاتها مع الولايات المتحدة في مواجهتها معها. رغم الأضرار الجسيمة التي لحقت بالعلاقات التجارية بين الصين والولايات المتحدة في الأسابيع الأخيرة، إلا أنها لا تزال تشكل أهمية كبيرة بالنسبة لبكين.
هل الصين مستعدة للذهاب إلى حد دفع ثمن العقوبات الأميركية المحتملة دعماً لإيران؟ أم أنه يفضل استخدام نفوذه على الحكومة الإيرانية واتخاذ خطوات نحو خفض التصعيد؟ وإذا فشلت المفاوضات لأي سبب من الأسباب، وتحركت إيران نحو زيادة التخصيب أو حتى بناء قنبلة نووية، فما هو القرار الذي ستتخذه بكين بشأن صداقتها الاستراتيجية مع طهران؟
وفي إيران، هناك مخاوف أيضاً، سواء على مستوى الرأي العام أو حتى بين بعض النخب الحاكمة، إزاء اعتماد طهران السياسي والاقتصادي المتزايد على بكين. ورغم أن الصين استثمرت بشكل كبير في تعزيز قوتها الناعمة في السنوات الأخيرة، فإنها تدرك جيدا أوجه القصور لديها في هذا المجال.
وتواجه الحكومة الإيرانية الثيوقراطية معارضة شديدة من جانب مواطنيها، وفي كل مرة يتم ذكر اسم الصين كداعم لحكومة قمعية وقاسية وعنيفة. إن هذا الوضع، مهما بدا غير ذي أهمية في نظر السياسيين الصينيين، لا يمكن في نهاية المطاف أن يفلت من انتباههم.
ولهذا السبب، وعلى الرغم من أن السياسات الكلية للصين على مستوى المواجهة مع الغرب أو أميركا تظهر استمرارية واستقراراً على المدى الطويل، إلا أن هناك دائماً تفاصيل مهمة واضحة في تعاملات هذا البلد مع إيران تظهر أن الصين ليست الأخ المخلص لإيران بين القوى العالمية، وأن سياساتها، بالإضافة إلى مصالحها الاقتصادية الطويلة الأجل والقصيرة الأجل، تتأثر أيضاً بالعلاقات الإقليمية وعلاقاتها مع الدول الإقليمية.
بالنسبة للصين، فإن الدفاع عن أمن منطقة الخليج والحفاظ عليها خالية من الأسلحة النووية يشكل أولوية مهمة تؤثر، بالإضافة إلى المصالح الاقتصادية، على علاقاتها مع دول أخرى في المنطقة، مثل المملكة العربية السعودية أو الإمارات العربية المتحدة. وإذا أدى انهيار المحادثات إلى عودة العقوبات الدولية الشاملة من خلال تفعيل آلية الزناد في مجلس الأمن، فإن الصين ستتخذ موقفا ضد هذه العقوبات من حيث المبدأ. ولكن إذا أدى مثل هذا الوضع إلى دفع إيران إلى اتخاذ خطوات نحو بناء الأسلحة النووية أو أصبح عاملاً في نشر التوتر وانعدام الأمن في المنطقة، فسوف يكون من الصعب للغاية على الصين أن تستمر في رؤية نفسها إلى جانب إيران.