التفاوض مع الشيطان الأكبر.. اتفاق غير متوقع في ظل التوترات المتصاعدة؟
قد تكون النقطة المضيئة الوحيدة على رقعة الشطرنج الدبلوماسية العالمية هي العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران.

ميدل ايست نيوز: هذا ليس عصرًا ذهبيًا للدبلوماسية. لا يزال وقف إطلاق النار – ناهيك عن السلام الدائم – بين روسيا وأوكرانيا احتمالًا بعيدًا، ولا يبدو أن إسرائيل ولا حماس تعتبران هدنة طويلة الأمد في غزة أولوية. قد تكون النقطة المضيئة الوحيدة على رقعة الشطرنج الدبلوماسية العالمية هي العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران.
نعم، لقد قرأت ذلك بشكل صحيح: نفس الولايات المتحدة التي أطلق عليها رجال الدين الحاكمون في إيران اسم “الشيطان الأكبر” منذ الثورة الإسلامية قبل ما يقرب من نصف قرن. نفس الولايات المتحدة التي دعمت الشاه حتى الإطاحة به عام 1979. نفس الولايات المتحدة التي قتلت قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني القوي، قبل خمس سنوات فقط.
إيران، من جانبها، هي نفس الدولة التي احتجزت 52 أمريكيًا رهائن لمدة 444 يومًا من أواخر عام 1979 إلى عام 1981. نفس إيران التي تدعم حماس – الجماعة المسؤولة عن الهجمات الإرهابية ضد إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 – والحوثيين اليمنيين الذين يستهدفون الجيش الأمريكي والشحن الدولي. وإيران نفسها التي ورد أنها درست خيارات اغتيال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأعضاء إدارته الأولى.
فلماذا إذن تهتم إيران بتوقيع اتفاق جديد مع ترامب، الذي انسحب أحاديًا من خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) لعام ٢٠١٥ بين إيران وبعض القوى العالمية الكبرى خلال ولايته الأولى؟
هناك سببان بارزان. أولًا، سيساعد الاتفاق إيران على تجنب هجوم عسكري مباشر من إسرائيل و/أو الولايات المتحدة، وهو أمر أثبتت عجزها عن التصدي له حتى أكتوبر الماضي، عندما استهدفت إسرائيل بنجاح مواقع تصنيع الصواريخ والطائرات المسيرة ودفاعاتها الجوية. مع ضعف اقتصاد إيران وتدهوره، قد يوفر الاتفاق الجديد تخفيفًا ضروريًا للعقوبات، وربما يخفف الضغط السياسي الداخلي على النظام.
ولكن ما فائدة ترامب؟ من الواضح أنه يريد إنجازًا دبلوماسيًا كبيرًا. لقد حاول وفشل مع كوريا الشمالية في ولايته الأولى، ولم يُفلح حتى الآن في محاولاته للتفاوض على إنهاء الحروب في أوكرانيا وغزة. قد يكون الاتفاق النووي مع إيران أفضل فرصة له.
علاوة على ذلك، تعهد ترامب علنًا بأن إيران لن تُطور أو تحصل على أسلحة نووية في عهده. الأمر مُلحّ حقًا، حيث تقترب إيران تدريجيًا من تجميع المكونات اللازمة لصنع سلاح نووي واحد أو أكثر.
لا شك أن هناك أسبابًا استراتيجية وجيهة تدفع ترامب إلى السعي للتوصل إلى اتفاق مع إيران. إذا فشلت الدبلوماسية والقوة العسكرية، ونجحت إيران في تطوير سلاح نووي، فقد تكون النتيجة سباق تسلح نووي في جميع أنحاء الشرق الأوسط. كما يمكن لإيران المسلحة نوويًا أن تنشر قواتها التابعة العديدة – بما في ذلك حزب الله وحماس والحوثيين – مع إفلات أكبر من العقاب.
مع ذلك، هناك العديد من الأسئلة التي يجب الإجابة عليها قبل توقيع أي اتفاق. أولًا، ما هي المواد النووية التي سيُسمح لإيران بالاحتفاظ بها أو إنتاجها؟ وتحديدًا، هل سيُسمح لها بتخصيب اليورانيوم أو الاحتفاظ به، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الكمية وإلى أي مستوى؟
المسألة الثانية تتعلق بالمراقبة. كيف تضمن الولايات المتحدة وفاء إيران بالتزاماتها؟ وإلى أي مدى ستكون إيران المنعزلة مستعدة للانفتاح على خبراء خارجيين مكلفين بتقييم مدى امتثالها؟
تتعلق مجموعة ثالثة من الأسئلة بنطاق الاتفاق. هل سيقتصر على المواد النووية، أم سيشمل أيضًا عناصر أساسية أخرى مثل مكونات القنابل، والصواريخ، وأنشطة التجارب، أو دعم إيران لوكلائها الإقليميين؟
رابعًا، ما هي مدة الاتفاق؟ هل سيتضمن بنودًا تحدد تاريخ انتهاء صلاحيته، مثل خطة العمل الشاملة المشتركة، أم سيكون مفتوحًا؟ وأخيرًا، ما هو شكل الاتفاق؟ قد تسعى إيران للحصول على ضمانات بأن ترامب وخلفائه من كلا الحزبين سيلتزمون بالاتفاق، ربما بالإصرار على موافقة الكونغرس عليه.
هناك حل وسط محتمل قد يمنح كلا الجانبين ما يحتاجانه. سيُسمح لإيران بالاحتفاظ بكمية صغيرة من الوقود النووي منخفض التخصيب المناسب للأغراض المدنية فقط. وستكون هناك مراقبة خارجية مكثفة. في المقابل، ستحصل إيران على تخفيف جزئي للعقوبات، مع إمكانية تخفيفها أكثر إذا شمل الاتفاق قضايا إضافية. يمكن أن يكون الاتفاق مفتوحًا أو يمتد، على سبيل المثال، حتى عام 2050 – أو الأفضل من ذلك، حتى عام 2075. وسيُطلب من الكونغرس، إلى جانب نظيره الإيراني، الموافقة على الاتفاق.
ستؤدي هذه النتيجة إلى إعاقة – وليس مجرد إيقاف – تقدم إيران نحو إنتاج الأسلحة النووية. وفي الوقت نفسه، ستسمح لإيران بالادعاء بأنها حافظت على خيارها النووي مع جني ثماره الاقتصادية. ومن المرجح أن يلقى هذا الاتفاق استحسانًا كبيرًا من جانب شريحة كبيرة من شعبها، التي ترغب في تحسين مستويات المعيشة وتقليل العزلة الدولية.
والأهم من ذلك، أن القيادة الإيرانية تريد الحفاظ على النظام المتهالك الذي أوجدته ثورة 1979. وقد دفع هذا الهدف إلى تحولات سياسية كبيرة في الماضي: ففي عام 1988، وافق آية الله روح الله الخميني على إنهاء الحرب مع العراق دون تحقيق نصر – وهو قرار شبّهه بتجرع السم – لإنقاذ الجمهورية الإسلامية. ويمكن تطبيق المنطق نفسه الآن.
من جانبه، يمكن لترامب أن يدّعي أنه توصل إلى اتفاق أكثر شمولاً من الاتفاق الذي تخلّى عنه، وأطول أمداً بكثير. لا شك أن البعض في إسرائيل والولايات المتحدة سيتذمرون من تنازله عن الكثير، لكن أجنحة ترامب السياسية قوية بما يكفي لإتمام الاتفاق. كما سيسمح له هذا الاتفاق بتجنب أي تورط عسكري جديد.
تمر العلاقات الأمريكية الإيرانية بمنعطف حرج. واجهت الولايات المتحدة معضلة مماثلة في أوائل التسعينيات، عندما أتيحت لها فرصة ضرب المنشآت النووية الكورية الشمالية، لكنها تراجعت في النهاية، خوفاً من رد كوريا الشمالية بغزو كوريا الجنوبية، حيث كان يتمركز عشرات الآلاف من القوات الأمريكية.
أوضحت تداعيات هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول أن إيران اليوم لا تشكل تهديداً مماثلاً. ومع ذلك، قد يتردد ترامب في اختبار هذا التقييم، نظراً لأن إيران قد تضر بجيرانها وترفع أسعار النفط، مما يؤدي إلى زيادة التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي. وهذا التقارب بين المخاطر والمصالح هو الذي يجعل الوضع مهيأ بشكل مفاجئ لتحقيق اختراق دبلوماسي.
ريتشارد هاس
الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية، والمستشار الأول في شركة سنترفيو بارتنرز، والباحث الجامعي المتميز في جامعة نيويورك، شغل سابقًا منصب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية (2001-2003)، وكان المبعوث الخاص للرئيس جورج دبليو بوش إلى أيرلندا الشمالية ومنسقًا لمستقبل أفغانستان.