جذور “خط النستعليق” التاريخية.. هل هو فارسي أم عربي؟

سعى الخطاطون الإيرانيون، خصوصاً في القرن الثامن الهجري، إلى ابتكار خط يجمع بين انسيابية التعليق ونظامية النسخ، فخلقوا خطاً جديداً سموه "نستعليق".

ميدل ايست نيوز: من بين جميع أساليب الخط، لا يوجد خط ارتبط بروح اللغة الفارسية وخصوصيتها مثل خط النستعليق. فهو ليس مجرد أداة للكتابة، بل يُعد مرآةً للذوق الفني والهوية الثقافية الإيرانية. ومع ذلك، تُبذل في بعض المحافل والفعاليات في دول المنطقة محاولات لعرض هذا الخط باعتباره جزءاً من تراث “الخط العربي”، وهو ادعاء لا ينسجم لا مع التاريخ ولا مع البنية اللغوية والفنية لهذا الخط.

نسعى في هذا التقرير لإعادة التعرف على الجذور التاريخية لخط النستعليق واستعراض خصائصه الفريدة وتقديم القامات الذين أوصلوه إلى ذروته.

أصل التسمية

اشتق مسمى “نستعليق” من كلمتين: “نسخ” و”تعليق”، ويعكس تزاوجاً بين أسلوبين خطيين سابقين. فالنسخ كان خطاً مقروءاً ومستقيماً ووبسيطاً، يُستخدم لكتابة القرآن والنصوص العربية والرسمية، في حين كان التعليق خطاً إيرانياً أكثر، يتميز بالانسيابية والميلان، ويُستخدم بشكل أساسي في المراسلات الإدارية في إيران خلال العهد الإيلخاني والتيموري.

سعى الخطاطون الإيرانيون، خصوصاً في القرن الثامن الهجري، إلى ابتكار خط يجمع بين انسيابية التعليق ونظامية النسخ، فخلقوا خطاً جديداً سموه “نستعليق”.

وبحسب ما ورد في كتاب أطلس الخط لحبيب‌ الله فضائلي، فإن “نستعليق” يعني “خط ناتج عن مزيج من النسخ والتعليق”. وقد وُصف في بعض المصادر القديمة بأنه “مشتق من النسخ والتعليق” أو “واسطة بينهما”.

ويرى خسرو دهقان في كتابه سير تطور الخطوط الإسلامية أن النستعليق هو دمج إبداعي نشأ من تلاقي خطين متضادين: أحدهما صارم ومقروء (النسخ)، والآخر انسيابي وسريع (التعليق)، وقد قام الإيرانيون بتطويره ليتماشى مع اللغة الفارسية.

لماذا لا يمكن اعتبار خط النستعليق عربياً؟

خط النستعليق لم ينشأ في البلدان الناطقة بالعربية، بل هو ابتكار إيراني خالص نشأ لخدمة اللغة الفارسية وتطوّر في بيئتها الثقافية.

وبحسب حبيب‌ الله فضائلي، بعكس خط النسخ الذي ظهر في الحجاز والشام، فإن النستعليق تطور بالكامل في إيران، خصوصاً في أذربيجان وخراسان. وقد نشأ هذا الخط استجابةً لحاجات اللغة الفارسية، التي تختلف في الوزن والتركيب والإيقاع الجمالي عن اللغة العربية.

ويؤكد خسرو دهقان أن خط النستعليق لم يستخدم بشكل واسع في العالم العربي، ولم يحظَ بوظيفة أو قبول فني فيه. على العكس، فقد خدم اللغة الفارسية منذ البداية، وانتشر لاحقاً في لغات مثل الأردية والبشتو والتركية العثمانية (بشكل محدود).

وعلى الصعيد اللغوي والتاريخي، ورغم أن النستعليق – كغيره من الخطوط الإسلامية – تطور أصلاً من الخط الكوفي، الذي يعود بدوره إلى الخط السرياني والآرامي، إلا أن هذا يعود إلى الجذور القديمة فقط، وليس له علاقة ببنية وهوية خط النستعليق المعاصرة.

في الحقيقة، كل الخطوط الإسلامية تقريباً (الكوفي، النسخ، الرقاع، الديواني، التعليق، والنستعليق) ترجع إلى الخط الآرامي، إذ إن الخط العربي نفسه مشتق من النبطي، والنبطي مأخوذ من الآرامي. وقد أكد هذه المسألة كل من أحمد نيريزي في رسالته حول الخط، والدكتور محمدرضا شفيعي كدكني في تحليلاته الشفوية. ولذلك، فإن اشتراك الخطوط في أصل آرامي لا يعني بالضرورة أن النستعليق “عربي”، بل يشير فقط إلى سلالة كتابية مشتركة في منطقة الشرق الأوسط. أما هوية النستعليق، فهي إيرانية تماماً، من حيث النشأة والشكل الفني والوظيفة اللغوية.

نشأة خط النستعليق ومصدره

قبل اختراع النستعليق، كانت الخطوط الشائعة هي النسخ والتعليق والكوفي، والرقاع. لكن اللغة الفارسية، ببنيتها الخاصة ومفرداتها وإيقاعها الشّعري، كانت تحتاج إلى خط ناعم وانسيابي يتناسب مع الذوق الأدبي للإيرانيين. وكان خط النسخ رسمياً أكثر ومناسباً للعربية، بينما كان التعليق، رغم انسيابيته، يُعد سريعاً وصعب القراءة.

في هذا السياق، حاول الخطاطون الإيرانيون خلق خط يجمع بين نعومة التعليق وتنظيم النسخ، فكان اختراع النستعليق لحظةً مفصلية في تاريخ الخط الفارسي. فهو لم يكن فقط تطوراً تقنياً، بل جاء استجابة فنية لحاجات لغوية وثقافية.

تُشير الوثائق التاريخية إلى أن هذا الخط نشأ في القرن الثامن الهجري، وأن تبريز كانت مهده الأساسي.

الخصائص الفنية والبنيوية لخط النستعليق

يعتبر العديد من الخطاطين والنقاد الفنيين، ومنهم حبيب‌ الله فضائلي، أن النستعليق هو “ملكة الخطوط الفارسية” و”أكثر الخطوط الإسلامية شاعرية”. فهو بخواصه الجمالية الفريدة يتناغم مع روح اللغة الفارسية أكثر من أي خط آخر.

ويرى حسن تهراني، في كتابه جماليات الخط الفارسي، أن من أبرز سمات النستعليق “سيولة وحركة الحروف”، ويعتقد أن الحروف فيه صُمّمت وكأنها مستوحاة من عناصر الطبيعة مثل النسيم أو الماء، مما يجعل حركة العين على السطور مريحة وسلسة.

ومن خصائصه الأخرى التوازن والتناغم البنيوي. فميرعماد الحسني، أحد أعظم أساتذة النستعليق في التاريخ الإيراني، يشير في رسالته إلى ضرورة إيجاد توازن دقيق بين الأعلى والأسفل، واليمين واليسار، وأبعاد الحروف، لجعل السطر جميلاً ومريحاً بصرياً.

ويقول تهراني إن “المدّات الفنية” تلعب دوراً أساسياً في خلق الجمال في النستعليق، خصوصاً في حروف مثل ك، ل، ن، ور، والتي تمنح النص طابعاً موسيقياً وشاعرياً.

ويضيف أن ميل الخط قليلاً نحو اليمين، إضافة إلى هذه المدات، يمنح النستعليق حيويةً ديناميكية. وبخلاف خطوط كـالنسخ أو الكوفي، المصممة للنصوص العربية، فقد وُضع النستعليق منذ البداية لكتابة الشعر والنثر الأدبي الفارسي.

وأخيراً، فإن أبرز سمات هذا الخط هي “البساطة المصحوبة بالدقة”. فرغم تعقيده الجمالي، يظل النستعليق أوضح قراءةً من التعليق أو التعليق المكسور، ولهذا أصبح الخط المفضل لكتابة النسخ الفاخرة والدواوين الشعرية والكتب التراثية.

استخدامات خط النستعليق بعد نشأته

بعد ظهوره واستقراره في القرن الثامن الهجري، سرعان ما أصبح النستعليق الخط المفضل لدى الخطاطين الإيرانيين، وخصوصاً خلال العصور التيمورية والصفوية والقاجارية. وقد جاءت شعبيته نتيجة ملاءمته الكبيرة مع روح وبنية اللغة الفارسية، وليس فقط لشكله الجمالي.

من أوائل استخداماته، كتابة دواوين الشعر الفارسي، حيث نُسخت أعمال شعراء مثل حافظ وسعدي وفردوسي وجامي ونظامي بهذا الخط. فتصميمه كان مثالياً لنقل رقة وإيقاع الشعر الفارسي.

كما استُخدم لنسخ المصاحف، وإن لم يكن بقدر خط النسخ، وخصوصاً في العهدين الصفوي والقاجاري.

ومن استخداماته المهمة أيضاً، المراسلات الرسمية بين رجال الدولة، حيث حل محل خط التعليق تدريجياً في العهد الصفوي، خصوصاً في الكتابات الموجّهة لفارسيي اللسان.

وفي العهد القاجاري، دخل النستعليق مجالات جديدة، كالنقش على البلاط والحجارة والمباني التاريخية. فأصبحت مداخل المساجد والمدارس والمقابر وحتى القصور مزينة بكتابات بالنستعليق، مما نقل هذا الخط من صفحات الكتب إلى فضاء العمارة والفن العام.

أعلام النستعليق

يُعرف ميرعلي التبريزي، الخطاط الكبير في العصر التيموري، عادةً بأنه مبتكر خط النستعليق أو أول من وضعه بصيغته الكاملة والمستقلة. فقد استخلصه من خط التعليق وأدخله عناصر من النسخ. ويُذكر أن ابنه ميرعلي الهروي كان له دور في تثبيته وتطويره.

واصل تلاميذ ميرعلي ومن تبعهم نشر هذا الخط، الذي سرعان ما أصبح مفضلاً للشعراء والكتّاب والفنانين، وتحول من العهد التيموري فصاعداً إلى الخط المهيمن في الكتابة الفارسية، خاصة في الأدب والشعر، وساهم فيه خطاطون كبار على مدى التاريخ.

ومن أبرزهم ميرعماد الحسني، الذي تُعد أعماله، حسب فضائلي، مثالاً يُحتذى لجمال هذا الخط من حيث الرقة والتوازن والتكوينات الفنية الدقيقة.

وقد سُجّل مذهب خط النستعليق لمدرسة ميرعماد الحسني في قائمة التراث غير المادي لإيران في أغسطس ۲۰۱۷.

في العهد القاجاري، شهد النستعليق تطوراً جديداً. وكان ميرزا غلام رضا الأصفهاني من أبرز أعلام هذا الخ، حيث أدخل عليه تنويعات في الأسطر واستخدام الحبر الملون. كما أبدع وصال الشيرازي وأبناؤه في جنوب إيران وتركوا وراءهم أعمالاً مهمة.

وفي العصر الحديث، عاد النستعليق للواجهة مع تأسيس جمعية الخطاطين الإيرانيين. ومن أعلامه المعاصرين: غلام حسين أميرخاني وعباس أخوين وكريم زنجاني‌ نجاد ومحمد احصائي، ولكل منهم دور في استمرارية هذا الفن وتحديثه.

ختاما، لا يُعدّ خط النستعليق مجرد أسلوب في الكتابة، بل هو تعبير فني وثقافي تطوّر في سياق اللغة الفارسية، حتى أصبح مرتبطاً بشكل وثيق بهويتها الجمالية واللغوية. ورغم أن أصول الخط العربي والإسلامي تعود إلى جذور آرامية مشتركة، فإن النستعليق تميّز بتكوين خاص وشخصية فريدة برزت في الفارسية تحديداً، دون أن يكون له حضور يُذكر في الكتابة العربية. تطوّره داخل هذا السياق منحه القدرة على نقل الإحساس والموسيقى البصرية التي تنسجم مع خصائص اللغة التي نشأ فيها.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

17 + 18 =

زر الذهاب إلى الأعلى