من الصحافة الإيرانية: إيران ومجلس التعاون.. الانتقال من الصراع إلى التعاون
في الشرق الأوسط الذي أنهكته لعقود الصراعات الهوياتية والسياسية والمذهبية، برزت اليوم فرصة غير مسبوقة لإعادة تعريف العلاقات بين إيران والدول العربية في منطقة الخليج.

ميدل ايست نيوز: في الشرق الأوسط الذي أنهكته لعقود الصراعات الهوياتية والسياسية والمذهبية، برزت اليوم فرصة غير مسبوقة لإعادة تعريف العلاقات بين إيران والدول العربية في منطقة الخليج. إذ فتحت التطورات الأخيرة، بما في ذلك استئناف العلاقات بين إيران والسعودية في عام 2023 بوساطة صينية، والعلاقات المتنامية مع سلطنة عمان وقطر، فتحت نافذة للتعاون الاستراتيجي.
تعود جذور الصراعات الهوياتية بين إيران والعالم العربي إلى تاريخ طويل من التنافس الثقافي والسياسي. فمنذ الثورة الإسلامية عام 1979، التي حولت إيران إلى رمز للمقاومة ضد النفوذ الغربي، مرورًا بالأزمات الإقليمية في اليمن ولبنان، ساهمت هذه الفروقات في نشوء تحالفات متصارعة وصراعات بالوكالة. إيران، التي تؤكد على استقلالها الاستراتيجي وأيديولوجيتها الثورية، كانت غالبًا على خلاف مع دول مجلس التعاون المحافظة، وزادت العقوبات الدولية من تعقيد هذا الوضع.
ومع ذلك، فإن هذه التوترات لم تمنع من إدراك وجود قواسم إقليمية مشتركة. حيث تواجه إيران والدول العربية تحديات متشابهة مثل الاعتماد على النفط والحاجة إلى تنويع الاقتصاد والتهديدات الأمنية. لكن الموقع الجغرافي لإيران الممتد من مضيق هرمز حتى ممر الشمال–الجنوب، إلى جانب موارد الغاز الهائلة والكوادر البشرية المتخصصة، يجعل منها شريكًا محتملاً لدول مجلس التعاون.
أظهر استئناف العلاقات بين إيران والسعودية عام 2023، والاتفاق الذي تم توقيعه بوساطة صينية، أن الدبلوماسية قادرة على تقليص الفجوات الهوياتية. هذا الاتفاق، بالإضافة إلى العلاقات الدافئة بين إيران وكل من عمان وقطر، مهّد الطريق لتعاون اقتصادي وسياسي. يمتلك الشرق الأوسط 30% من إنتاج النفط العالمي و20% من الغاز، إضافة إلى موقع مواصلاتي فريد بين أوراسيا وأفريقيا، مما يمنحه إمكانية التحول إلى قوة عالمية. يمكن لإيران أن تخترق السوق الاستيرادي لمجلس التعاون، الذي يقدّر بـ650 مليار دولار، من خلال تصدير المنتجات الزراعية والبتروكيميائية ومواد البناء. في المقابل، يمكن للاستثمارات السعودية والإماراتية في مشاريع البنية التحتية الإيرانية، مثل تطوير موانئ شهيد رجائي وبوشهر، أن تعزز التجارة الإقليمية. ومثال على ذلك هو التعاون مع قطر في حقل غاز بارس الجنوبي، والذي استؤنفت مفاوضاته في عام 2024.
تؤدي سلطنة عمان، التي تتمتع بسجل طويل في الوساطة وعلاقات ودّية مع إيران، دورًا محوريًا في إخراج إيران من عزلتها الاستراتيجية. بلغ حجم التبادل التجاري بين إيران وعمان في عام 2024 نحو 700 مليون دولار، ويُعدّ ميناء دقم أو المنطقة الحرة في صحار العمانية مكمّلة لميناء تشابهار الإيراني. كما يمكن لعمان أن تستضيف اجتماعات مشتركة للهيئات المالية، ما يربط إيران بشبكات التجارة والمال الإقليمية.
لكن رغم هذه الآفاق، لا تزال التحديات السياسية والبنيوية تشكل عوائق جدية أمام هذا التعاون. إذ تعاني الجمارك الإيرانية من بطء الإجراءات، حيث يبلغ متوسط زمن التخليص 7 أيام، مقارنةً بالأنظمة الرقمية في الإمارات التي تقلص الزمن إلى أقل من 24 ساعة. كما تعرقل العقوبات المصرفية، ولا سيما القيود المرتبطة بنظام سويفت، عمليات التحويل المالي، مما يجعل إيران تعتمد على وسطاء مثل الإمارات وتركيا. وتحد المنافسة العالمية مع الصين والهند والاتحاد الأوروبي من قدرة إيران على النفوذ في سوق الخليج. وقد أضرّت الهجمات السيبرانية على النظام المصرفي الإيراني في صيف 2024 بثقة المستثمرين، غير أن الاتفاق مع السعودية والعلاقات مع عمان وقطر فتحت نافذة للالتفاف على العقوبات عبر التسويات بالعملات الوطنية أو بنظام المقايضة.
إن بروز قادة جدد في المنطقة، مثل محمد بن سلمان في السعودية والشيخ تميم بن حمد في قطر، يوفّر فرصة لإعادة صياغة العلاقات. تركز رؤية السعودية 2030 وخطة عمان 2040 على تنويع الاقتصاد وجذب الاستثمارات الأجنبية، وهي أهداف لا يمكن تحقيقها من دون تعاون إقليمي وتخفيف التوترات مع أحد أبرز الفاعلين الإقليميين، أي الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ولتحقيق تعاون استراتيجي، يتعيّن على إيران والدول العربية اتباع مسار متكامل. من الضروري أن تجري إيران إصلاحات داخلية، مثل رقمنة الجمارك باستخدام تقنية البلوك تشين وتقليص زمن التخليص إلى أقل من 48 ساعة. كما أن تطوير موانئ الإمام الخميني وبوشهر وتشابهار وبندرعباس عبر جذب استثمارات من دول الخليج والصين سيعزز البنية التحتية اللوجستية. وعلى الصعيد التنظيمي، فإن تبسيط القوانين النقدية والمواءمة مع المعايير الجمركية لمجلس التعاون سيسهل التجارة، كما أن تعزيز الدبلوماسية المالية من خلال توقيع اتفاقيات ثنائية مع عمان وقطر والسعودية لتسوية التجارة بالعملات المحلية سيقلل الاعتماد على الدولار.
يمكن لإيران أن تشكّل محورًا لتحالف جديد للقوة في الشرق الأوسط يمكن أن يصبح منافسًا للقطب التقليدي من خلال تعاونها مع مجلس التعاون والجامعة العربية. فالوصول إلى أسواق أوراسيا عبر إيران، وأفريقيا عبر السعودية واليمن، والمركز اللوجستي في الإمارات، سيحوّل هذا التحالف إلى قوة عالمية.
وقد يرسم هذا التحالف، من خلال تقسيم عملي وموضوعي مدروس، مستقبلًا مستدامًا للشرق الأوسط. ويمكن القول بوضوح إن قرار اليوم في طهران والعواصم العربية، في ظل تراجع الأقطاب التقليدية مثل أوروبا، هو ما سيحدد مكانة هذه المنطقة في النظام العالمي الجديد.
محمد حسين محمدي
دكتوراه في الشؤون الدولية