الذهب الأسود الإيراني: قصة بئر جعلت من إيران بؤرة اهتمام العالم

حين انفجر النفط من أول بئر في الشرق الأوسط بمدينة مسجد سليمان في خوزستان، بزغ فجرٌ أعاد رسم أفق إيران، وفتح صفحة جديدة في تاريخها الحديث.

ميدل ايست نيوز: حين انفجر النفط من أول بئر في الشرق الأوسط بمدينة مسجد سليمان في خوزستان، بزغ فجرٌ أعاد رسم أفق إيران، وفتح صفحة جديدة في تاريخها الحديث، لتغدو منذ تلك اللحظة بؤرة اهتمام العالم. ومنذ ذلك اليوم، تسرّبت رائحة النفط الإيراني إلى كل تفاصيل هذه الأرض؛ من ترابها إلى سياساتها، ومن حياة شعبها إلى مصيرها.

في كتابه “خواب آشفته نفت” (نوم النفط المضطرب) يقول الكاتب محمد علي موحد: “قال أسلافنا إن النفط نذير اضطرابات وصراعات. من يرى النفط في المنام، يُصاب بمصيبة. النفط مال حرام لا خير فيه. يجلب السوء ولا يُنذر بخير. رؤيا النفط تنبئ بوصول بلاء سياسي! كنا نقول إن هذه خرافات، وإن مفسري الأحلام في الأزمنة القديمة كانوا أسرى أوهامهم. أيعقل أن يكون النفط مصدرًا للفساد والبؤس؟ سببًا للحروب والصراعات؟ كنا نستهجن هذا، إلى أن بدأت رائحة النفط الإيراني تنبعث من الجنوب في مطلع القرن العشرين، وحين انفتحت أبواب الجحيم في أواخره فوق مياه الخليج، وانطلقت قذائف المدافع وسقطت الصواريخ ناشرة الرعب والموت، أدركت أسماك البحر وجمال الصحراء ونخيل البصرة وقصب بطائح العراق أن النفط قد يكون نذير حربٍ وخراب.”

بهذه العبارات يوضح الكاتب الإيراني كيف أن هذه المادة السوداء، التي يتردد صداها في تاريخ إيران الحديث، قد تكون «ذهبًا أسود» أو «بلاءً أسودًا» لا خلاص منه.

بعد سبعة أعوام من الحفر والعمل المتواصل على مدار 24 ساعة، انبثق النور من أول بئر نفطي في الشرق الأوسط، وهو بئر نفتون في مدينة تدعى مسجد سليمان في محافظة خوزستان جنوب إيران، حينها أدرك البريطانيون وحدهم فداحة التحوّل. احتفلوا حول البئر، وقد عرفوا أن ما خرج لم يكن سوادًا بل ذهبًا. ومن دخان تلك اللحظة، وُلدت أولى الصراعات على النفط، لتعيد تشكيل تاريخ الشرق الأوسط حتى يومنا هذا.

وقتی بوی نفت از دل تاریخ برخاست

كيف بدأت حكاية البئر الأولى؟

قبل أن تشقّ أصوات القطارات وأبراج الحفر عمق الجنوب الإيراني، كان فريق من علماء الآثار الفرنسيين بقيادة جاك دي مورغان يبحثون عن آثار خزف ونقود في عمق الأرض، لكنهم صادفوا شيئًا لم يتوقعوه: سائلًا أسودَ كثيفًا وغامضًا – هو النفط.

انتشر خبر الاكتشاف بصمتٍ في الجنوب، وبلغ مسامع أحد موظفي الجمارك الإيرانيين، ومن هناك، انتقل إلى باريس ثم لندن، حتى وصل إلى ويليام نوكس دارسي، رجل الأعمال البريطاني الطموح، الذي كان يحلم بالسيطرة على «الذهب الأسود». بعد تحريات أولية، أرسل دارسي جيولوجيين إلى إيران، كان من بينهم جورج برنارد رينولدز، الذي بدأ أعمال الحفر نهاية عام 1902 في بئر يدعى “سرخ” بقصر شيرين، وآخر يدعى “شاردين” في رام هرمز، كما تجهز للحفر في حقل «نفتون» في مسجد سليمان.

وقتی بوی نفت از دل تاریخ برخاست

فشلت المحاولة الأولى في قصر شيرين، لكن دارسي لم يستسلم، وانتقل البحث إلى خوزستان، الأرض التي أصبحت لاحقًا مشبعة برائحة النفط الإيراني. وأخيرًا، في مايو من عام 1908، انفجرت البئر رقم واحد في مسجد سليمان، وخرج منها النفط الإيراني إلى السطح.

وصف الضابط والدبلوماسي البريطاني السير آرنولد ويلسون تلك اللحظة بقوله: “كان ذلك في 26 مايو 1908. كنت مستلقيًا في خيمتي خارج المعسكر حين أيقظني صخب غريب. ركضت نحو البئر، فشاهدت تدفقًا هائلًا من النفط الأسود يرتفع حتى 15 مترًا في الهواء. الحفّارون الإيرانيون تراجعوا مذعورين وسط السعال من الغازات المنبعثة. لم نكن نعلم: هل ما نراه نعمة أم لعنة؟”

في ذلك اليوم، خرج النفط الإيراني ليس فقط من باطن الأرض، بل من عمق التاريخ، وغيّر مصير البلاد، محوّلاً منطقة منسية إلى مركز عالمي.

وقتی بوی نفت از دل تاریخ برخاست

ماذا فعل النفط الإيراني بمدينة مسجد سليمان؟

مع تدفّق النفط من البئر الأولى، تغيّر تاريخ المنطقة. فبعد أن كان السكان يعتمدون على الزراعة وتربية المواشي، واجهوا فجأة صناعة حديثة. استغلّ البختياريون هذه الفرصة لإثبات قدراتهم. يكتب الدكتور يانغ، أحد أعضاء فريق الحفر، عن مدى سرعة تعلّم سكان هذه المنطقة لتقنيات تشغيل المحركات والمعدات، مادحا حنكتهم وموهبتهم، وكيف تعلم أبناء مسجد سليمان الذين لم يقودوا سيارة أبدًا كيفية قيادة الدراجة النارية والسيارة بسرعة.

كان أول تواصل بين السكان والنفط الإيراني في دور الحماية والتأمين للآبار، إذ لم يكن الدخول إلى أراضي البختياريين ممكنًا دون رضا زعمائهم. فبدأت عقود التعاون الأولى، وأنشأت شركة النفط البختياري بحصة 3٪ من الأسهم لصالح الزعماء المحليين. تدريجيًا، شارك السكان في العمليات النفطية، ومع ازدياد الإنتاج، امتدت خطوط الأنابيب من مسجد سليمان إلى عبادان. يرسم آرنولد ويلسون صورة مدهشة لتلك السنوات قائلا: “في أرضٍ لم تكن الطيور تحلّق فيها، بات اليوم مئات العمّال والمهندسين والنجارين يبنون مدينة حديثة.”

وقتی بوی نفت از دل تاریخ برخاست

ومعها، نشأت مظاهر الحداثة: مطار، سينما، مستشفى، نادٍ رياضي، ومركز إطفاء، جعل الذهب الأسود من مسجد سليمان مدينة الريادة الأولى في المنطقة. لكن هذا التطور لم يمنع بروز احتجاجات عمالية منظمة منذ أربعينات القرن العشرين، ربطت كل جوانب الحياة – من الكثافة السكانية إلى الاقتصاد – بالنفط الإيراني.

وقتی بوی نفت از دل تاریخ برخاست

في خمسينات القرن الماضي، عمل أكثر من 60٪ من الإيرانيين في الصناعة النفطية. لكن في منتصف الستينات، ومع تراجع الإنتاج، بدأ الانحدار، وتحوّلت الاستثمارات إلى الحقول الجنوبية الأخرى. وبعد قيام الثورة الإسلامية عام 1979، خرجت المدينة من دائرة الأولوية النفطية، مع قرب نضوب احتياطاتها وتوجّه الدولة نحو حقل بارس الجنوبي.

النفط الإيراني: ذهب أسود أم بلاء أسود؟

لم يكن اكتشاف النفط الإيراني مجرّد تحول اقتصادي، بل بداية عصر جديد من التغيير السياسي والاجتماعي. فـ«اتفاقية دارسي»، التي أبرمت عام 1901 بين دارسي والدولة القاجارية، منحت هذا البريطاني امتياز التنقيب في أكثر من ثلاثة أرباع أراضي إيران مقابل مبلغ نقدي وسهم صغير من الأرباح، فاتحةً بذلك بابًا للاعتماد الاقتصادي والتبعية السياسية.

وبعدما ألغت إيران هذه الاتفاقية من جانب واحد عام 1932 احتجاجًا على تراجع العائدات النفطية، تدخلت بريطانيا، وجرى التوصل إلى صيغة جديدة عام 1933. لكن الاحتلال المشترك لإيران خلال الحرب العالمية الثانية، والتنافس بين لندن وموسكو، وتراكم غضب الناس من قلة نصيبهم من الثروة النفطية، دفعت البلاد نحو مرحلة جديدة.

في مارس 1951، وبدفع من جبهة القوى الوطنية بقيادة الدكتور محمد مصدق، صوّت البرلمان الإيراني لصالح تأميم النفط الإيراني، ثم أقرّه مجلس الشيوخ. لم يكن النفط بعد ذلك مصدر دخل فحسب، بل رمزًا للكرامة الوطنية.

وقتی بوی نفت از دل تاریخ برخاست

لكن انقلاب 19 أغسطس 1953، بدعم من بريطانيا والولايات المتحدة، أطاح بمصدق، وأعاد إيران إلى دائرة النفوذ الغربي. فجاء فضل‌ الله زاهدي رئيسًا للوزراء، واستأنف العلاقات مع لندن، وتم التوصل إلى «اتفاقية التحالف الإقليمي» التي جعلت إيران تبيع نفطها الإيراني إلى الشركات الكبرى الغربية، محافظة على استمرار النفوذ الخارجي.

وقتی بوی نفت از دل تاریخ برخاست

تمت مراجعة هذه الاتفاقية لاحقًا، لكن نصيب إيران بقي محدودًا، حتى جاء عام 1979، حيث نُقلت الامتيازات إلى «شركة النفط الوطنية الإيرانية». ورغم ذلك، استمرت لعنة النفط تهيمن على الاقتصاد والسياسة والثقافة الإيرانية؛ نفطٌ لا يزال تاريخه مليئًا بالغموض: فهل هو ذهب أسود؟ أم بلاء لا فكاك منه؟

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عشرين − خمسة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى