الشوارع الثقافية في العراق.. محاولة ترميم الحياة والخروج من الرتابة
بدأت البذرة الأولى للشوارع الثقافية مع مهرجان "أنا عراقي، أنا أقرأ"، الذي انطلق في بغداد قبل نحو ثلاثة عشر عاماً، كتجمّع شبابي يروّج للقراءة ويدعم الشباب.

ميدل ايست نيوز: قبل أكثر من عشر سنوات، شهدت المدن العراقية انطلاق ظاهرة الشوارع الثقافية في فضاءات عامة، حيث اضطلعت هذه المبادرات بعدة أدوار ثقافية؛ من بيع الكتب وتنظيم المعارض التشكيلية، إلى إقامة حفلات موسيقية وندوات ثقافية ومحاضرات بيئية. ومع مرور الوقت، تحوّلت هذه الشوارع إلى منصات واسعة لعرض المواهب والإبداع، لاسيّما لمن لم تتح لهم الفرصة من قبل للظهور في المشهد الثقافي العراقي.
ورغم أن فكرة الشوارع الثقافية ليست جديدة على العراق، إذ تعود جذورها إلى شارع الحويش في النجف وسوق النجيفي في الموصل، وصولاً إلى شارع المتنبي الشهير في بغداد، إلّا أنّ تلك النماذج كانت أقرب إلى أسواق كتب ذات طابع اقتصادي، ولم ترقَ إلى مستوى الفعل الثقافي المتنوع والشامل الذي شهدته الشوارع الثقافية الحديثة.
انطلاقة الفكرة
بدأت البذرة الأولى للشوارع الثقافية مع مهرجان “أنا عراقي، أنا أقرأ”، الذي انطلق في بغداد قبل نحو ثلاثة عشر عاماً، كتجمّع شبابي يروّج للقراءة ويدعم الشباب. عملت المبادرة على توزيع آلاف الكتب مجاناً في مهرجان سنوي راح ينتقل بين المدن العراقية. سرعان ما تطوّر هذا النشاط إلى مفهوم أوسع، فتحولت المبادرة إلى شوارع ثقافية دائمة، عبر مبادرات شبابية اجتاحت المدن العراقية من البصرة جنوباً حتى كركوك شمالاً.
هذه الشوارع لم تكن مجرد مهرجانات عابرة، بل تحولت إلى منصات أسبوعية تُقام في الهواء الطلق، توفر فضاءً مفتوحاً للتعبير الفني والحوار الثقافي والمناقشات الفكرية وإظهار المواهب، وتشجّع على الأعمال التطوعية والعروض المسرحية، خارج الجدران الرسمية أو القاعات المغلقة.
أول الشوارع الثقافية التي رأت النور كان في البصرة عام 2015، وأُطلق عليه اسم “شارع الفراهيدي”، ليغدو ملتقى أسبوعياً يجمع المثقفين والفنانين والصحافيين، ويشكّل سوقاً نشطة للكتب ومنصة للمصورين والرسامين، علاوة على كونه ميداناً لتجارة الكتب.
وسرعان ما لحقت به شوارع أخرى: شارع الرميثة الثقافي في المثنى، وشارع الرصيف المعرفي في ميسان، وشارع دجلة في واسط، وشارع كركوك في كركوك، وشارع الناصرية الثقافي في الناصرية.
ورغم أن العديد من هذه الشوارع خفَت نشاطها أو توقفت، فإنها استطاعت، خلال فترة وجيزة، أن تفتح آفاقاً جديدة للشباب وتمنحهم فرصة للانخراط في العمل الثقافي والفني، من خلال فعاليات متنوعة وتطوعية، بعيداً عن الأطر الرسمية.
بعض هذه الشوارع لا يزال نشطاً حتى اليوم، مثل شارع الفراهيدي في البصرة، وشارع الناصرية الثقافي، الذي احتفى مؤخراً بالشاعر الراحل موفق محمد، وأحيا ذكرى رحيل مظفر النواب في عامه الثالث.
بين المركز والهامش
أظهرت التجربة أن الشوارع الثقافية قدمت نموذجاً جديدا للمشهد الثقافي العراقي، بعيداً عن الطابع التقليدي لشارع المتنبي في بغداد، الذي وإن كان محجاً للمثقفين والكتاب، سواء في الداخل أو الخارج، إلا أنه بقي أقرب إلى سوق كتب منه إلى حاضنة للفن والإبداع.
في العاصمة، ظل الفضاء الثقافي محاطاً بحدود نخبوية، حيث تتركّز اللقاءات والحوارات داخل دوائر مغلقة، فيما تفتقر الشوارع الكبرى إلى الفعاليات الفنية أو المساحات المفتوحة لاحتضان المواهب. على النقيض من ذلك، خلقت الشوارع الثقافية في المحافظات بيئة حرّة وأكثر مرونة، مما سمح بظهور مواهب شابة لم تكن تجد لنفسها موطئ قدم في المركز.
تجاوزت هذه الشوارع وظيفتها الأصلية كسوق للكتب، لتتحول إلى مسارح مفتوحة للعزف والغناء، ومعارض فنية للشباب من الجنسين، وفضاءات للحرف اليدوية والمجسمات التراثية والأعمال المنزلية الإبداعية.
وأصر القائمون على هذه المبادرات على إقامة فعاليات فكرية وجلسات نقدية وأدبية، في محاولة لكسر احتكار العاصمة للمشهد الثقافي، ونقل الأضواء إلى المدن التي لطالما بقيت في الظل.
الشوارع الثقافية أطلقت موجة جديدة من التفكير الإبداعي لدى الشباب، ودعتهم لكسر النمط السائد والانخراط في الفضاء العام صناعاً للثقافة لا مستهلكين لها فقط. كما أسهمت في دفع المجتمع للتفاعل مع الثقافة بوصفها جزءًا من الحياة اليومية، وليست حكرًا على النخب أو المناسبات.
ولعل أبرز ما قدمته هذه التجربة هو تجاوزها للثنائية التقليدية بين الثقافة “الشعبية” و”النخبوية”، إذ قدمت نموذجًا وسطيًا يجمع بين الاثنتين، لكنه يتحرك ببطء بفعل التحديات والموارد المحدودة.
رسائل مفتوحة
تُوجِه الشوارع الثقافية رسالة مفادها أنَّ الفعل الثقافي يمكن أن يكون حراً ومنفتحاً، في ما وراء القاعات الرسمية والانتماءات الضيقة. فهي فضاءات جامعة للآداب والمسرح والموسيقى والتاريخ، وتفتح الأبواب أمام المواهب الفطرية التي لم تنل فرصة التعليم أو العضوية في النقابات.
ويرى المنظمون، وهم غالباً متطوعون، أنَّ هذه الشوارع تشكل استثماراً ثقافياً حقيقياً، يدمج بين الكتاب والفن والحرف، ويسهم في توفير دخل للشباب، فضلًا عن تحفيز الناس على اقتناء الكتب وحضور الندوات والفعاليات الثقافية.
تستهدف هذه الشوارع فئات المجتمع كلّها، من الأطفال إلى كبار السن، وتشكّل ملتقى للفرق التطوعية والجامعات والمؤسسات الإنسانية. كما تستقي روحها من شارع المتنبي، لكنّها تقدم تجربة أكثر تنوعًا من خلال الاهتمام بالأدب، والعلوم، والتاريخ، وعلم النفس، وقضايا البيئة والمناخ، والتصوير الفوتوغرافي، وغيرها من المجالات.
ورغم تراجع بعضها، فإن هذه الشوارع تركت بصمة واضحة في المشهد الثقافي العراقي، وشكلت نقطة تحول ساعدت في ولادة جيل جديد من المبدعين.