من الصحافة الإيرانية: إيران عند مفترق مصيري
مصير إيران لا يتحدّد بخرق الهدن أو الالتزام بها، بل بنظرتنا نحن إلى العالم وإلى الداخل. صراعنا هو بدرجة أكبر صراع داخلي وليس مع الخارج أو الغرباء.

ميدل ايست نيوز: لا شكّ أنّ هذه الأيام الاثني عشر تمثل صفحة متميّزة في تاريخ إيران. هناك من يرى أنّ هذه الهدنة لا يمكن الوثوق بها، وأنّ الأيام العصيبة والقلقة في أواخر يونيو 2025 قد تتكرّر. وجوابي هو أنّ هذا أمرٌ ممكن، لكن كلّ شيء يعتمد على الدروس التي استخلصناها من هذه الأيام الاثني عشر.
مصير إيران لا يتحدّد بخرق الهدنة أو الالتزام بها، بل بنظرتنا نحن إلى العالم وإلى الداخل. صراعنا هو بدرجة أكبر صراع داخلي وليس مع الخارج أو الغرباء. على مدى السنوات الماضية، سادت نظرتان مختلفتان بالكامل للحكم، متعارضتان في جوهرهما، لكنهما -في مفارقة سياسية- تواجدتا أحيانًا جنبًا إلى جنب في إدارة شؤون الدولة والمجتمع.
كانت العوائد النفطية هي العامل الذي سدّ الفجوة الكبيرة بين هذين الاتجاهين المتناقضين. النظرة الأولى كانت الغالبة في العادة، بينما لم تحظَ النظرة الثانية -رغم انسجامها الداخلي- بداعمين جادين داخل البنية السياسية، ولم يتم اللجوء إليها إلا في الأزمات، وعلى مضض.
النظرة الأولى ترى أنّ الحكم هو ميدان للمواجهة والصراع. ويتجلّى هذا الصراع في السياسة الخارجية عبر الدخول في مواجهات نشطة مع القوى الغربية الكبرى باعتبار ذلك مهمة أساسية. وكلّما عظمت القوة الأجنبية، عظمت معها المسؤولية. وتعتبر هذه النظرة أنّ غياب العدالة أو ضعفها في الساحة الدولية يبرّر دورها في مواجهة الظلم في أي بقعة من العالم.
وتصوّر هذه النظرة نفسها كراية وحيدة لمحاربة الظلم، وترى أنّ أي تفكير بالنتائج أو توازن القوى يقع ضمن منطقة العدو. وهي تؤمن بأنّ البلدان النامية التي خرجت من الفقر خلال العقود الأربعة الماضية قد فرّطت باستقلالها وقبلت التبعية للغرب. وتعتبر الداخل خطّ دعم خلفي لما تسميه “الجهاد المقدّس” العالمي والإقليمي.
أما نظرتها إلى الرفاه والاقتصاد فهي نظرة معيشية، توجيهية، من أعلى إلى أسفل، داخلية الطابع، تقوم على الاكتفاء الذاتي المطلق، وترى أنّ مهمة الاقتصاد هي دعم الجبهة الداخلية في معركة الخارج. وتنظر إلى التوجّه نحو الرفاه الجماعي كأمر وضيع، بل وحيواني. ومصطلح “التنمية” في هذا الخطاب هو مفهوم غربي يعبّر عن التبعية، ولذا يجب شطبه من خطاب الحكم المحلي.
في المقابل، ترى النظرة الثانية أنّ الحكم ينبع من إرادة الشعب. فالمجتمع هو المحور، والحكومة تتولى فقط ما يعجز المجتمع عن القيام به أو يكون مكلفًا عليه. وتقاس كفاءة الحاكمين بمعايير الازدهار والعدالة التي تقود إلى رضا عام. فالازدهار يُقاس بالنمو الاقتصادي، والعدالة تعني محاربة الفقر، وتحسين توزيع الدخل، وتوفير فرص عادلة غير قائمة على الامتيازات.
ومن هذا المنظور، يجب أن يكون الحكم علميًّا، شفافًا، وخاضعًا للمساءلة، على الأقل لأنّه يدير موارد عامة تعود إلى المجتمع. كما أنّ التفاعل مع العالم لا يعني التبعية من طرف واحد. فالصين اليوم تعتمد إلى حدّ كبير على الولايات المتحدة، والعكس صحيح، لكنها مع ذلك تُعد من أكثر الدول استقلالًا، رغم أنها ثاني أكبر مستورد في العالم، خاصة من أميركا.
وتعتبر هذه النظرة أنّ السلام مبدأ، ولا يعني إطلاقًا القبول بالظلم. وهي تضع البيانات والتحليل العلمي في المقام الأول، وترى أنّ الأمنيات الكبيرة، إذا لم تكن قابلة للتحقيق، تتحوّل إلى نقيضها. يجب أن نحيا على أرض الواقع. فكلّما اندفعنا في العمل الرمزي باسم العدالة العالمية دون أدوات كافية، ابتعدنا أكثر عن العدالة الداخلية.
يمكن بطبيعة الحال توسيع وتفصيل هذه النقاط، لكن أهمية هذا النص تكمن في الإشارة إلى أنّ احتمال تغلّب الاتجاه الأول بعد الحرب التي استمرت 12 يومًا قد تعزّز. وقد يُقرع طبل المعركة الخارجية بصوت أعلى.
إن شراسة بعض حكّام العالم وفسادهم وميولهم العدوانية لا تبرّر لنا الانخراط في صراعات غير عقلانية معهم. علينا أن ننتبه إلى أنّ لدينا أزمات عميقة ومُهدِّدة تفوق في خطورتها أيّ عدو خارجي، وقد تؤدي إلى دمار البلاد.
هذه الأزمات تضيّق، منذ الآن، سُبل العيش على كلّ إيراني، وفي المستقبل القريب، قد تجعل من هذه الأرض -التي رُويت بدماء كثيرة في سبيل حمايتها- أرضًا غير صالحة للسكن وعديمة القيمة. إنّ معالجة هذه الأزمات تتطلب حلولًا مؤلمة وصعبة، وتستلزم تسامحًا مجتمعيًّا واسعًا، وتعاونًا شاملاً مع العالم واستغلالًا لطاقاته وموارده وتقنياته.
لقد تضررت قدرات وطنية مهمة في إيران خلال هذه الأيام الاثني عشر، مما سيخلّف مشكلات لاحقة. وفي مواجهة المستقبل الصعب، يجب أولًا أن يعترف نظام الحكم بالتنوّع القائم داخل المجتمع ويعمل معه. وثانيًا، أن يسعى إلى تقليص عدد أعدائنا الخارجيين وزيادة أصدقائنا، حتى نخرج من هذه العزلة الخطرة.
إيران تقف اليوم عند مفترق طرق مصيري في مجال الحُكم: طريق يقوم على الضغينة، وآخر يقوم على التفكير العقلاني بمصلحة عامة بعيدة النظر.
مسعود نيلي
خبير في الشؤون الاقتصادية والمستشار الاقتصادي للرئيس الإيراني السابق حسن روحاني