سطوة الجغرافيا.. لماذا روسيا تدافع وأميركا تهاجم وإيران توسّع نفوذها؟
قبل أن تندلع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، كتب المفكر الجيوسياسي الأميركي روبرت كابلان عام 2012 قائلا إن روسيا في موقع جغرافي يجعلها دائما في حالة دفاع مبكر، ما يجعلها عدوانية حين تشعر بالاختناق.

ميدل ايست نيوز: في غرفة عمليات باردة بضواحي برلين أواخر عام 1905، جلس رئيس هيئة الأركان العامة بالجيش الألماني، الجنرال ألفريد فون شليفن، أمام خريطة ضخمة لأوروبا.
لم يكن الرجل مشغولا بالسياسة، بل بشيء أكثر ثباتا هو الجغرافيا. نظر شليفن إلى موقع بلاده، المحشور بين قوتين عظميين معاديتين في ذلك الوقت، هما فرنسا في الغرب والاتحاد السوفياتي في الشرق، حيث لا تمتلك ألمانيا حواجز طبيعية تحميها، مثل الجبال أو البحار، بل كانت أراضيها مفتوحة من جهتيها الشرقية والغربية، مما جعلها عُرضة لحرب على جبهتين في وقت واحد، وهو تهديد لا يمكن تحمله أو انتظار وقوعه.
من هنا وُلدت واحدة من أشهر الخطط العسكرية في التاريخ الحديث التي سُميت خطة شليفن، واقتضت أن تبادر ألمانيا بغزو فرنسا أولا، عبر سهول بلجيكا، قبل أن تنجح روسيا في تعبئة قواتها، وتتفادى ألمانيا بذلك المأزق الجغرافي المتوقع. طُبّقت الخطة لاحقا ببعض التعديلات أثناء الحرب العالمية الأولى، بعد موت شليفن قبل اندلاع الحرب بعام واحد. وبصرف النظر عن نتائجها، كانت إستراتيجية ألمانيا في الحرب استجابة مباشرة لقيود الجغرافيا الألمانية كما تصوَّرها القادة الألمان آنذاك.
بعد عقود طويلة، وقبل أن تندلع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، كتب المفكر الجيوسياسي الأميركي روبرت كابلان عام 2012 قائلا “إن روسيا في موقع جغرافي يجعلها دائما في حالة دفاع مبكر، ما يجعلها عدوانية حين تشعر بالاختناق. وأوكرانيا، بوصفها دولة عازلة، ليست مجرد جارة، بل مفتاح الأمن الروسي”. لم يكن كابلان يتحدث عن نيات بوتين أو قرارات الكرملين التي نُفّذت بعد عقد كامل بقرار الغزو في فبراير/شباط 2022، بل عمَّا استشفّه من الجغرافيا بكل بساطة.
فمن خلال الرقعة الواسعة المسماة بالسهل الأوروبي الشمالي (الممتد من الحدود الغربية لروسيا حتى قلب ألمانيا)، مرّت جيوش نابليون متجهة إلى روسيا عام 1812، وجيوش هتلر عام 1941، وخلفت في الذاكرة الروسية قناعة جغرافية قبل أن تكون أمنية، مفادها أن الأمن لا يتحقق داخل الحدود الروسية، بل يبدأ من خارجها.
كانت الجغرافيا بالنسبة للروس والألمان طيلة القرن 20 بمثابة مسارات للقدر السياسي والعسكري، ورغم انتقادات عديدة لتلك الحتمية التي أسبغها البعض على الجغرافيا مُتناسين العناصر الأكثر فعالية مثل البنية الاجتماعية والوزن الاقتصادي والنظام السياسي، فإن كثيرين التقطوا تلك الرؤية الجيوسياسية وأخذوا ينظرون إلى العالم من أعلى، حيث تبدأ الإستراتيجية العظمى في نظرهم.
فالخرائط لا تخبرنا بمواقع الدول وطبيعتها فحسب، بل تشرح لنا مخاوفها الأمنية وتحالفاتها المُمكنة، وأسباب انزلاقها للحروب أو تراجعها عنها، وما يمكن أن تفعله وما يستحيل عليها فعله.
الحدود الطبيعية، والممرات البحرية، والجبال والصحاري، والسهول المكشوفة والمضائق المختنقة، كلها تحدد الكثير من السياسات الأمنية والعسكرية. وبينما يتغيَّر القادة، وتتبدّل الأيديولوجيات، تبقى الجغرافيا ثابتة، وتساعد في تفسير الكثير. فما تأثيرها في سياسات القوى العالمية والإقليمية؟
الولايات المتحدة.. قوة البحر وما بعدها
ثمَّة ما يدفع الكثير من صناع القرار الأميركيين إلى الطمأنينة والثقة بقدرات الولايات المتحدة، فهي شبه جزيرة كبرى يحميها محيطان شاسعان من الشرق والغرب، ويجاورها جاران ضعيفان نسبيا إلى الشمال والجنوب (كندا والمكسيك).
وتلك ليست معطيات جامدة على خريطة صماء، بل أسس ثابتة للإستراتيجية الأميركية، وهي على العكس من نظيرتيْها الروسية والألمانية، لا تعرف معنى “الجبهة الشرقية والغربية” أو “الخطر الحدودي”، ولم تضطر طوال تاريخها تقريبا إلى القتال دفاعا عن أراضيها. وبدلا من حماية حدودها بالمعنى المباشر، رسم الإستراتيجيون الأميركيون عبر قوة البحر طريق هيمنة بلادهم على العالم.
منذ أواخر القرن 19، ظهرت قناعة راسخة لدى النخبة الأميركية بأن التحكم في البحار مفتاح القوة العالمية، وهي قناعة تشكّلت تحت تأثير أفكار المنظر الإستراتيجي والضابط الأسبق في البحرية الأميركية، ألفريد ماهان الذي اعتبر أن السيطرة على الممرات البحرية والتجارة العالمية ستكون أساس بناء نفوذ أميركا حول العالم.
في أطروحته الأهم “تأثير القوة البحرية على التاريخ”، خلص ماهان إلى أن “المفتاح إلى القوة العالمية لا يكمن في الجيوش البرية، بل في البحار المفتوحة”، ودعا إلى تعزيز الأسطول الأميركي وبناء قواعد حول العالم، وشقِّ قناة تصل بين المحيطين الأطلسي والهادئ، وهي رؤية تحقّقت في نهاية القرن 19 بالسيطرة على الفلبين وغوام وبورتوريكو، ثم شق قناة بنما.
منذ ذلك الحين، بدأ الدور العالمي لأميركا يتوسّع بالتدريج مدفوعا بقوتها البحرية كي يُسيطر على رؤوس البحار والممرات البحرية الرئيسية حول العالم.
ونتيجة تراكم هذه القوة، خرجت الولايات المتحدة إلى المسرح العالمي بعد الحرب العالمية الثانية بوصفها القوة الوحيدة القادرة على ملء الفراغ الإستراتيجي الذي خلَّفته أوروبا المنهكة. وعند هذه النقطة، بدأ الإستراتيجيون الأميركيون في النظر إلى ما هو أبعد من البحار: اليابسة الكبرى المتصلة بين آسيا وأوروبا وأفريقيا.
هنا برزت أطروحة الجغرافي البريطاني هالفورد ماكيندر عام 1904، وهي واحدة من النظريات التأسيسية في النظرية الجيوسياسية. وقد اعتبر ماكيندر أن موقع الولايات المتحدة من القارات الثلاث للعالم القديم ذات الكتلة اليابسة الضخمة، يُشبه موقع بريطانيا من كتلة أوروبا، ولضمان هيمنة أميركا على هذا العالم القديم، تحتاج واشنطن إلى منع ظهور أي قوة برية كبرى مهيمنة داخله، ومن ثمّ تتوجّب عليها السيطرة على وسط أوراسيا (المنطقة البرّية الواسعة غير الساحلية في بين آسيا وأوروبا)، التي وصفها بأنها “قلب العالم”، وقال إن من يسيطر عليه يمكن أن يسيطر على العالم.
تطوَّرت رؤية ماكيندر على يد أستاذ السياسة الدولية الأميركي نيكولاس سپيكمان، الذي اعتبر أن السيطرة على “قلب العالم” يبدأ عند دول “حافة العالم”، وهي أراضٍ تُحيط بقلب الأرض تبدأ من قلب أوروبا عند ألمانيا وبولندا، وصولا إلى إيطاليا وتركيا وأجزاء من مصر والمشرق والجزيرة العربية، ثم الهند وجنوب شرق آسيا وبقية السواحل الشرقية لآسيا. ويرى سپيكمان أن السيطرة على هذه الحافة تمنع القوى البرية في “قلب العالم” (روسيا بالأساس أو قوة ألمانية مُحتَملة) من التأثير بقوة في البحار، كما تُتيح للدول البحرية (أميركا بالأساس) تطويق أوراسيا جيوسياسيا.
لقد جرت العادة ألا تُدوِّن الدول إستراتيجياتها الكبرى في وثائق رسمية، لكنها تبقى راسخة في التفكير الجيوسياسي والإستراتيجي لدى مسؤوليها ونخبها العسكرية، بحيث تفرض نفسها على صناع القرار، ولا تتغيّر إلا ببطء على مر العقود.
وفي حالة الولايات المتحدة بالتحديد، بقيت هذه النظريات تُحدّد طريق الهيمنة على العالم، وطبيعة المناطق ذات الأولوية الإستراتيجية، وتتيح لنا فهم أسباب نظرة واشنطن للصين وضرورة تطويقها بحريا، وأهمية مضيق تايوان الصغير بالنسبة لها، وكذلك أسباب التحالف المتنامي بين الولايات المتحدة والهند، وتطويرهما معًا قدرات بحرية لموازنة الصين، بالإضافة إلى سلسلة التحالفات الأميركية الجديدة في جنوب وشرق آسيا، وكذلك الحملة العسكرية الضروس على الحوثيين في اليمن.
روسيا.. الجغرافيا الفسيحة وأعباؤها
عند إلقاء نظرة على خريطة روسيا، تبدو لنا البلد الأكبر في العالم وكأنها إمبراطورية مترامية الأطراف تلامس 3 قارات وتجاور 14 بلدا آخر، لكنها في الحقيقة تكافح دوما من أجل البقاء.
فبَيْن اتساع جغرافي يُرهِق أدوات السيطرة، وضعف وسائل النقل الداخلية، تتعقّد سرعة التحرّك العسكري، وتجعل الحفاظ على جيش جاهز أمرا مُكلِفا. تقف موسكو إذن أمام معادلة أمنية قاسية: إنها دولة يصعب احتلالها، لكن يصعب الدفاع عنها أيضا! ولا خيار سوى أن تخلق محيطا وظيفيا يحميها ليكون بمثابة خط دفاع أول بعيد عن حدودها المباشرة.
تعاني روسيا من خلل ديمغرافي فادح في الوقت نفسه، حيث يعيش في غربها الأوروبي الصغير (من جبال الأورال إلى حدودها الغربية) حوالي 75% من سكانها. وهناك تواجه الجغرافيا الروسية أكبر تهديداتها الإستراتيجية المتمثّلة في سهول شمال أوروبا، وهي مساحة مفتوحة بلا حواجز طبيعية تفصل بينها وبين القوى الأوروبية التي طالما هدَّدتها، وعلى رأسها ألمانيا.
من هنا غزا نابليون روسيا، وسار على دربه الألمان مرتيْن أثناء الحربين العالميتين. في المقابل، عكفت موسكو على التوسّع غربا لإنشاء “مناطق عازلة”، ودفع القوى المعادية إلى أبعد مسافة ممكنة عن قلبها الأوراسي، مما يُفسّر تركيز الكرملين الدائم على أوكرانيا وبيلاروسيا باعتبارهما خطيْ الدفاع الأساسيين عن قلب روسيا.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فقدت روسيا جزءا من مجالها الحيوي، وباتت دول حلف الناتو في بولندا والبلطيق على مسافة بضع مئات من الكيلومترات من مدينة سانت بطرسبرغ. ومع شروع الناتو في التوسّع شرقا في العقديْن الماضيين، ودعم أوروبا والولايات المتحدة للانتفاضة الأوكرانية عام 2014، واقتراب كييف من الغرب سياسيا، تحرّكت موسكو جيوسياسيا، فضمّت شبه جزيرة القرم في العام نفسه، ودعمت الانفصاليين في شرق أوكرانيا، ثم غزت البلاد في الأخير عام 2022.
في جنوب غرب روسيا، تتمتّع البلاد بحصن جبال القوقاز ومن ثمّ تمتلك بعض العمق الدفاعي، لكن منطقة القوقاز ظلَّت بدرجة أقل مصدرا للتحديات بسبب التنوّع الديني والعرقي، والنزعات الانفصالية المتكررة، مما جعل السيطرة على الشيشان وجوارها ضرورة أمنية روسية.
أما في الجنوب، فتتصل روسيا مع كزاخستان عبر حدود طويلة للغاية تمتد إلى 7500 كلم، ولا توجد عوائق طبيعية تفصلهما عن بعضهما البعض، ولكن في ظل محدودية قدرات كزاخستان والخطر الذي يُمكن أن تُشكّله آسيا الوسطى في العموم، تحتفظ روسيا بوجود عسكري واقتصادي في المنطقة لتأمين حدودها ونفوذها بدون هواجس جيوسياسية مُلحة.
من أجل الالتفاف على هذه القيود التي تفرضها الجغرافيا، استخدمت روسيا سياسة “الربط الإستراتيجي” بين الجبهات، مثل تدخُّلها في سوريا عام 2015، الذي لم يكن معزولا عن صراعها مع الغرب في أوكرانيا. إذ إن الوجود العسكري الروسي في الساحل السوري كان يهدف، بصورة ما، إلى امتلاك أوراق تفاوضية في وجه واشنطن، التي حاولت عزلها على خلفية ضمّ القرم، وذلك عبر التفاف موسكو على قواعد الناتو جنوبا في البحر المتوسط مقابل تقدّم الأخير في البحر الأسود.
في النهاية، تظل الجغرافيا عنصرا محوريا في التصوّرات الإستراتيجية الروسية، فهي بلد ضخم ومفتوح وقليل السكان مقارنة بمساحته الشاسعة، ويفتقر إلى الحدود الطبيعية في نقاط بالغة الحساسية، ويعتمد على خلق مناطق نفوذ أمامية لتعويض انكشافه الذاتي. ولهذا حاربت روسيا باستمرار على الأطراف كي تحمي المركز، وسعت للتمدُّد كلما شعرت أن قلبها معرّض للخطر.
الصين.. بين البر والبحر
تكمن مشكلة الصين الكبرى في أنها تشبه أميركا، فهي قوة بحرية في المقام الأول، وإذا تمكّنت من السيطرة على بحارها القريبة، كما تمكّنت الولايات المتحدة من السيطرة على الكاريبي في نهاية القرن 19 وأوائل القرن 20، فإن ذلك يفتح لها الطريق كي تكون قوة عالمية، وهذا ما يجعلها خصما إستراتيجيا للولايات المتحدة منذ صعودها الاقتصادي في العقود الأخيرة، والمُشابه لصعود القوة الاقتصادية الأميركية مطلع القرن 20.
بالنظر إلى خريطة الصين، يمكن أن نراها قوةً قارية مُمتدة في عمق آسيا، لكنها محمية بسلاسل جبلية ومناطق قاحلة في الشمال والغرب، بينما يقع قلبها السكاني والاقتصادي في المنطقة الجنوبية والشرقية، المُمتدة من دلتا نهر يانغتسي حتى الساحل. وهناك تتركز أغلب المدن الكبرى والموانئ وقواعد الإنتاج، وتحيط بهذا القلب 3 مناطق تأرجحت تاريخيا بين السيطرة الصينية وغير الصينية، وتسكنها أعراق متنوّعة، وتعمل بمثابة مناطق عازلة، وهي التيبت وشينغيانغ (تركستان الشرقية) ومنغوليا الداخلية.
على عكس روسيا، لا تواجه الصين خطر الغزو البري المباشر، لكن تحدياتها الجيوسياسية الرئيسية تكمن في محيطها البحري.
تقع موانئ الصين الكبرى كافة على ساحل شرق آسيا، وهي من أكثر السواحل المُحاصَرة في العالم، حيث تمتد سلسلة جزر اليابان وتايوان والفلبين وكأنها جدار يعزل الصين عن المحيط الهادئ، وتنتشر بطوله تحالفات عسكرية أميركية، مما يجعل بحريْ جنوب الصين وشرقها مناطق نزاع لبسط النفوذ الصيني، ولذا تحاول الصين كسر الطوق الأميركي عبر بناء جزر اصطناعية، وتوسيع نطاق سيطرتها البحرية، وتأمين الممرات نحو مضيق ملقا، شريان الطاقة والتجارة إلى الشرق الأوسط وأفريقيا.
في هذا السياق، نبعت فكرة “طريق الحرير البحري”، أحد أركان مبادرة الحزام والطريق، التي تسعى من خلالها الصين إلى تجاوز الطوق البحري الأميركي عبر ربط سواحلها بموانئ تمتد من ميانمار وسريلانكا إلى جيبوتي.
وفي الوقت نفسه، تسعى بكين إلى تأمين خطوط إمداد برية عبر آسيا الوسطى، ضمن طريق الحرير البري، الذي يمر عبر بلدان تعتبرها روسيا مجالا حيويا. ومن ثمّ، تقع الصين من جانب آخر في تنافس ناعم مع موسكو في آسيا على المدى البعيد، رغم تحالفهما السياسي الحالي لمناورة القوة الأميركية.
ثمّة تحديات أخرى على الحدود البرية الصينية لكنها قابلة للاحتواء، ففي الشمال تفصلها صحراء غوبي عن منغوليا، لكنها لا تمنع التأثير الروسي، المحدود بالنظر إلى هشاشة الوجود الديمغرافي والثقل الاقتصادي الروسي في الشرق. وفي الغرب، تُشكّل هضبة التبت حاجزا طبيعيا مع الهند، لكنها أيضا مصدر توتّر دائم معها، وقد خاض البلدان مواجهات حدودية محدودة متكررة أشهرها حرب 1962 التي انتصرت فيها الصين.
أما الشمال الغربي، فهو الأكثر انكشافا من الناحية العِرقية والجيوسياسية، بسبب التركيبة الخاصة لمقاطعة شينغيانغ (تركستان الشرقية) صاحبة الصلات الدينية والثقافية واللغوية الممتدة بشعوب آسيا الوسطى، والجغرافيا المتصلة جزئيا بكزاخستان وقرغيزستان.
وتمثل تلك المنطقة في الوقت نفسه شريان الصين إلى قلب آسيا ثم إلى إيران وتركيا، ومن ثمَّ فهي جزء حاسم من مبادرة الحزام والطريق، ولذا تحرص بكين على سيطرتها في شينغيانغ بوسائل لعلها الأشد قمعية مقارنة ببقية مقاطعات الصين.
تبقى نقطة الضعف الأكبر للصين في تايوان، فهي جزيرة تعتبرها جزءا من الأراضي الصينية، لكنها فعليا تتمتَّع بحكم ذاتي من واشنطن منذ لجأ إليها القوميون بعد هزيمتهم في الحرب الأهلية أمام الحزب الشيوعي في نهاية الأربعينيات. ورغم اعتراف دول العالم قاطبة بالصين الشعبية مُمثلا أوحد للصين كبلد، فإن جزيرة تايوان تظل ذات صفة مُبهمة وعلاقات فعلية مع اليابان والولايات المتحدة، وتحول دون تمتّع الصين بموطئ قدم أقرب إلى عمق المحيط الهادئ.
لذلك، لا تعتبر بكين السيطرة على تايوان مجرد قضية محورية لاستكمال سيادتها على ما تعتبره الصين التاريخية فحسب، بل تعدّها أيضا مفتاحا لفك الطوق البحري الأميركي.
وبهذا المعنى، فإن إستراتيجية الصين الكبرى حتى الآن ليست توسّعية بالمفهوم العسكري الكلاسيكي، بل دفاعية-هجومية، حيث تحاول تأمين الداخل بإحكام وفتح الباب أمام مبادرة طريق الحرير البري نحو غرب آسيا، واختراق الطوق البحري حولها بحسم ملف تايوان وتجاوز التحالفات الأميركية في محيطها بمبادرة طريق الحرير البحري.
إيران.. الثغر المفتوح
بعيدا عن القوى الكبرى، تمنحنا إيران بوصفها قوة إقليمية؛ حالة مهمة لفهم تأثير الجغرافيا، فهي تقع بين الخليج العربي وسهول العراق، وجبال القوقاز الجنوبية المتداخلة مع الأناضول، وجنوب وسط آسيا (المعروف تاريخيا باسم خُراسان)، ومنطقة بلوشستان المتداخلة مع شبه القارة الهندية. كل ذلك يضع إيران في قلب التفاعلات الإقليمية لأربع مناطق مختلفة: الشرق الأوسط وجنوب آسيا وآسيا الوسطى والقوقاز، وهي مركزية جغرافية مكّنت إيران في مراحل مختلفة من أن تُشكّل إمبراطورية مُمتدة.
بيد أن القيود الداخلية لإيران لم تُمكّنها من بسط نفوذها مباشرة، فلجأت عادة إلى السيطرة غير المباشرة عبر نظام لامركزي أتاح لها تفويض نفوذها لحلفاء أو دويلات تدين لها بالولاء على هامش الهضبة الإيرانية، وهي سِمة مكّنتها من الاحتفاظ بثقافتها وإرثها الفارسي بعد الفتح الإسلامي، لكنها في الوقت نفسه سهّلت هزيمتها بإلحاق الهزائم المتتالية بوكلائها من أي جهة (روسيا من الشمال، الهند من الجنوب، المغول والأفغان من الشرق، تركيا من الغرب)، ولم يُتِح لها التمدّد بسهولة إلا إذا خلا محيطها من القوى الوازنة.
تبدأ الجغرافيا الإيرانية مما يسمى “الهضبة الإيرانية”، وهي مساحة مرتفعة وشحيحة الموارد نسبيا، تمتد من سلاسل جبال زاغروس غربا حتى حدود أفغانستان وباكستان شرقا، ومن سلسلة جبال ألبُرز التي تمتد قرب ساحل بحر قزوين إلى ساحل الخليج وسيستان في الجنوب.
وقد كانت هذه التضاريس الصعبة دائما حاجزا طبيعيا أمام الغزاة، لكنها في الوقت نفسه حدّت من قدرة إيران على الغزو الخارجي بسهولة، كما حدّت من سهولة الاتصال والاندماج الداخلي، فبقيت إيران دولة متعددة القوميات، غير قادرة على تدشين سلطة مركزية كاملة.
ومع أن إيران تُطل على الخليج، فإن سواحلها ليست مفتوحة ومُهيَأة مثل قوى بحرية أخرى، بل ضيقة وَعِرة، كما أن مضيق هرمز لم يُمكّنها من بناء قوة بحرية ضخمة في معظم فترات تاريخها.
كانت هذه الجغرافيا الفريدة سببا في دفع إيران نحو التمدّد غربا كإستراتيجية مُثلى منذ الإمبراطورية الفارسية حتى اليوم. وبحسب المحلل الجيوسياسي الأميركي جورج فريدمان، فإن تأثير إيران واضح في أفغانستان إلى شرقها، لكنها جبلية وقبلية وأقل فائدة، كما أن أراضي آسيا الوسطى تحتاج كُلفة حشد القوات عبر الجبال لاحتلالها. أما القوقاز فاختراقه شبه مستحيل عمليا، وعادة ما اصطدم بقوة روسيا.
لذلك كان العراق دائما البوابة التاريخية للنفوذ الإيراني نحو المشرق العربي، كما أن اتصال إيران بالعراق عبر إقليم الأهواز (وهو سهل منبسط) يعد الثغر الأكبر في جغرافيا إيران، مما يجعله فرصة وتهديدا في آن واحد، ويجعل السيطرة عليه وقمع تحرّكاته المعادية لمصالح طهران ضرورة للدولة الإيرانية. ليس غريبا أن تحوّلت إيران بعد الثورة إلى إستراتيجية النفوذ غير المباشر عبر تشكيل شبكة مليشيات موالية لها، مما أتاح لها التأثير في بغداد دون تدخّل مباشر، وهو نمط امتد لاحقا إلى سوريا ولبنان واليمن.
إثيوبيا.. قلعة أفريقية
لا تُعَد إثيوبيا قوة دولية أو حتى إقليمية بحكم المعايير التقليدية، لكنها تتمتع بموقع جغرافي فريد ومُهم في القرن الأفريقي يجعلها لاعبا لا يمكن تجاوزه، ومشروعا واعدا لبناء قوة إقليمية إذا استطاعت إدارة إمكاناتها وتحدياتها الجغرافية.
وتنبع خصوصية الجغرافيا الإثيوبية من الهضبة الإثيوبية، وهي منطقة مرتفعة تحيط بها منحدرات شديدة، ما يجعل العاصمة أديس أبابا -ومعظم مراكز الثقل السياسي- مُحصّنة طبيعيا. وقد شكّلت هذه التضاريس المُعقّدة على مرّ القرون خط دفاع طبيعيا، وجعلت إثيوبيا من الدول القليلة في أفريقيا التي لم تخضع للاستعمار الأوروبي الكامل.
غير أن الجغرافيا الإثيوبية الداخلية تُشكّل أيضا تحديا كبيرا على مستوى الاتصال والاندماج الوطني، فبين المرتفعات الشمالية (تيغراي وأمهرة) والجنوبية (أورومو وشعوب الجنوب)، لا توجد شبكة نقل سهلة، ما يجعل السيطرة المركزية على البلاد صعبة، ولا يمكن تحقيقها إلا بتحالفات فيدرالية أو بالقوة العسكرية المكثَّفة.
ولهذا، ارتبطت الدولة الإثيوبية دائما بصراعات داخلية إثنية الطابع، أعاقتها عن لعب دور إقليمي متكامل، وأغرقتها في صراعات أهلية لم تخرج منها إلا بصيغة فيدرالية غير مكتملة.
أما الميزة الجيوستراتيجية الأبرز لإثيوبيا فهي تحكّمُها في منابع النيل الأزرق، الذي يغذي نحو 85% من مياه نهر النيل، وينبع من بحيرة تانا في الشمال الإثيوبي، ويمر بأراضيها قبل أن يصل إلى السودان ومصر. وقد منح هذا الموقع إثيوبيا أداة ضغط إستراتيجية تجاه دول المصب إلى شمالها، ولذلك كان بناء “سد النهضة” ترجمة مباشرة لهذا الإدراك الجغرافي، فهو مشروع لتحويل الموقع إلى نفوذ يُمكن به تحقيق مكتسبات سياسية واقتصادية جديدة.
في المقابل، تُقيَّد إثيوبيا بانعدام المنافذ البحرية، فمنذ انفصال إريتريا عام 1993، تحوّلت إثيوبيا إلى دولة حبيسة، مما فرض عليها اعتمادا على موانئ الجوار، وخصوصا جيبوتي، لتصدير واستيراد السلع. وقد خلق هذا الوضع نوعا من الضعف البنيوي في إستراتيجية إثيوبيا الإقليمية، فهي تملك عمقا جغرافيا حصينا، لكنها لا تستطيع التحرّك في محيطها الإقليمي، ناهيك عن امتلاك قوة بحرية.
ولهذا، ظهرت في السنوات الأخيرة رغبة إثيوبية في استعادة منفذ بحري عبر اتفاقات مع إقليم أرض الصومال الانفصالي، بحيث توسِّع منافذ إثيوبيا التجارية، وكذلك تتيح لها بناء قوة بحرية لأول مرة منذ عقود.
من جهة الغرب، تمتلك إثيوبيا حدودا مع السودان وجنوب السودان، وهي مناطق مضطربة تُشكّل في أحسن الأحوال عمقا غير موثوق. أما الجنوب فأكثر استقرارا نسبيا، لكنه يفتقر إلى القيمة الإستراتيجية، ما يجعل إثيوبيا في الغالب تنظر شمالا وشرقا عند رسم أولوياتها الجيوسياسية.
كل هذه الاعتبارات تضع إثيوبيا أمام معادلة جغرافية منصبّة على كونها هضبة حصينة وقادرة على التأثير في ملف المياه إلى شمالها، لكنها محرومة من الوصول إلى البحار، ومثقلة بنزاعات داخلية مستمرة، ومحاطة بجوار إقليمي هش أو معادٍ أحيانا. ولذا يُمكن القول إن الإستراتيجية الكبرى الإثيوبية تقوم على 3 محاور: تحصين الداخل من التشرذم، واستخدام الموارد المائية كأداة نفوذ إقليمي، والسعي لاستعادة منفذ بحري.
في هذه الأمثلة وغيرها على امتداد حدود العالم، لا تبدو الجغرافيا مجرد وصف بارد ومحايد للتضاريس والظروف المناخية، بل نقطة انطلاق تُحدّد خريطة الفرص والمخاطر، وخطوط الملعب الذي تلعب عليه القوى الدولية والإقليمية بما تملكه من عناصر القوة الاقتصادية والعسكرية والبشرية، وبين أسباب القوة الفعّالة والخرائط الصماء، يختلف الأساتذة والمنظرون حول حجم الدور الذي تلعبه الجغرافيا، بين أعداء الحتمية الجغرافية الذين يرون في العناصر البشرية والاقتصادية البُعد الأهم لبناء القوة، وبين أبناء الرؤى الجيوسياسية التقليدية الذين يرون في الجغرافيا ملامح قدر لا فكاك منه، لا مجرد خطوط صمّاء على مسرح السياسة الدولية.