من الصحافة الإيرانية: إيران من الاتفاق النووي إلى الحرب

عدم قبول إيران بمنطق الاتفاق النووي كخيار استراتيجي، وعدم تطويره من تكتيك مؤقت إلى توجه طويل الأمد، انعكس مباشرة على تعامل القوى الدولية مع طهران.

ميدل ايست نيوز: اليوم 14 يوليو 2025. قبل عشر سنوات تماماً، وفي مثل هذا اليوم، توصلت إيران والقوى العالمية إلى اتفاقٍ بعد عامين من المفاوضات، أصبح يُعرف لاحقاً بالاتفاق النووي.

اليوم 14 يوليو 2025 أيضاً، بعد شهر واحد فقط من العدوان الإسرائيلي على إيران، الذي تبعه قصف أمريكي للمنشآت النووية الإيرانية. هذان الحدثان، أحدهما مضى عليه عقد والآخر شهر، يشكّلان في التحليل الشامل امتداداً لبعضهما البعض، ويعبّران عن واقع مشترك يتمثل في النظام الدولي؛ نظام لا يتسم بالعدالة، ولا يخضع لقوانين، ولا يمكن لقرارات أو بيانات أو حتى تحالفات ومؤسسات إقليمية أو دولية أن تُخضعه أو تُقيده.

النظام الدولي لا تحكمه المبادئ أو القوانين، بل تحكمه فقط علاقات القوة الواقعية. إنه مثل الغابة؛ من يملك القوة تكون له الغلبة. وهو ما عبّر عنه هنري كيسنجر في إحدى آخر مقابلاته مع مجلة “الإيكونوميست” بقوله: “لا يوجد شيء سوى توازن القوى”. هذه الجملة يجب أن تُكتب بإطار ذهبي فوق رؤوس من يزعمون ممارسة السياسة، أو تُوضع على مكاتبهم. إنها حقيقة مرة، لكنها حاسمة. ولا يمكن القفز عليها بأي أيديولوجيا أو سردية أو نوايا حسنة.

أمام هذا النظام الدولي الواقعي (لا المثالي كما تصفه كتب القانون الدولي)، ليس هناك سوى خيارين: القبول أو المواجهة. ومع ذلك، لا يعني هذا أن القبول والمواجهة حالتان مطلقتان، بل هناك طيف من الحالات والمقاربات بينهما. يمكن اتخاذ موقف نقدي من بعض مكونات النظام الدولي أو حتى من مجمله، كما يمكن انتقاد التناقضات في سلوك وخطاب القوى الكبرى والصغرى، ويمكن دعم التيارات الإنسانية والتقدمية داخل تلك القوى، لكن من يرفض خيار القبول كلياً، ويتبنّى خطاب مقاومة المظلومين في وجه هذا النظام الجائر، يكون قد اختار المواجهة – عن قصد أو غير قصد.

النقطة الجوهرية هي أن الطرف المقابل، وخاصة الجهات الساعية لتصميم سياسات ضد بلد معين، يبني موقفه على التصورات التي يرسمها لذلك البلد. وقد يُصنفه ضمن خانة القبول أو الرفض للنظام الدولي القائم، حتى لو كان ذلك البلد ملتزماً بالعديد من الاتفاقيات والمعايير الدولية، بل حتى لو اعتبر نفسه ضحية لانتهاك تلك المعايير.

رغم ذلك، فإن موازين القوى – سواء كانت عسكرية أو تكنولوجية أو اقتصادية أو إعلامية – تمنح القوى الكبرى القدرة على تعريف دولة ما على أنها “عدائية” أو “مزعزعة للنظام العالمي”، وبناءً على ذلك، تبرر سلسلة من الإجراءات: من العقوبات الاقتصادية إلى العزل الدبلوماسي، وصولاً إلى الهجوم العسكري.

هذه السياسة نُفذت بالفعل من قبل القوى الكبرى تجاه إيران بعد الثورة الإسلامية. وحتى منتصف العقد الأول من الألفية، ظلت المواجهة في إطار السجالات اللفظية أو قضايا مثل حقوق الإنسان، وحتى العقوبات اقتصرت إلى حد كبير على العقوبات الأمريكية الأحادية وقوانين مثل داماتو. لكن منذ منتصف العقد الأول، وبعد أحداث 11 سبتمبر – التي أوصلت أكثر التيارات تطرفاً في الولايات المتحدة إلى السلطة – وعودة الملف النووي الإيراني إلى الواجهة، إضافة إلى تصريحات حكومة أحمدي نجاد بشأن محو إسرائيل والتشكيك بالهولوكوست، برزت صورة جديدة لإيران في أذهان القوى الدولية: دولة تسعى لتقويض النظام العالمي.

في هذا السياق، شكّلت العقوبات الصادرة عن مجلس الأمن بالإجماع في مطلع العقد الثاني نقطة الذروة في هذا المسار. وفي ظل هذه الظروف، جاء انتخاب حسن روحاني وتقديم صورة جديدة لإيران، كدولة قابلة للتفاهم وتبحث عن الاعتدال والانفتاح، لتكون بداية مسار معاكس. وقد تُوّج هذا التوجه بالتوصل إلى الاتفاق النووي، الذي حمل رسالة أبعد من فقراته القانونية والفنية. الرسالة كانت أن إيران مستعدة للقبول بالنظام الدولي الواقعي، رغم كل ما فيه من ظلم واختلال وتسلط.

هذه الرسالة، التي يُشار إليها غالباً باسم “روح الاتفاق النووي”، لم تُصدّقها القوى الدولية، لأسباب عدة، أولها أن الخطاب الرسمي في إيران أوضح لاحقاً أن الانخراط في الاتفاق لم يكن نابعاً من تغيير استراتيجي في نظرة إيران للعالم، بل كان مناورة تكتيكية للخروج من تحت الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة ورفع العقوبات الأممية.

عدم قبول إيران بمنطق الاتفاق النووي كخيار استراتيجي، وعدم تطويره من تكتيك مؤقت إلى توجه طويل الأمد، انعكس مباشرة على تعامل القوى الدولية مع طهران. ربما حاولت الدول الأوروبية والولايات المتحدة (في عهدي أوباما وبايدن) التعامل مع إيران بحذر وتوازن، لكن ترامب وتحالفاته الدولية المتشددة، وعلى رأسهم نتنياهو، تبنوا نهجاً صدامياً واضحاً.

تعاظم النفوذ العسكري والإقليمي لإيران بعد الاتفاق النووي، وتدخلها في ملفات سوريا ولبنان والعراق، رغم أنه كان مبرراً من زاوية المصالح القومية، إلا أنه زاد من قناعة القوى الكبرى، خاصة المتشددة منها، بأن إيران تشكل تهديداً مباشراً للنظامين العالمي والإقليمي.

ودفع رفض التفاوض مع ترامب في فترته الأولى، وتضييع فرصة التفاهم مع إدارة بايدن، ووصول حكومة راديكالية جديدة إلى السلطة، واندلاع حرب أوكرانيا، واتهام إيران – خاصة من الأوروبيين – بالوقوف إلى جانب روسيا، والتعلّق غير الواقعي بتحالفات مثل شنغهاي وبريكس، وغياب استراتيجية شاملة للتعامل مع عودة محتملة لترامب، والأهم من ذلك هجمات 7 أكتوبر 2023 وتراجع حلفاء إيران في المنطقة؛ كلها عوامل دفعت الوضع من محطة الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015 إلى محطة الهجوم العسكري في 12 يونيو 2025.

ومع أن سياسات ترامب وخطابات نتنياهو لا تملك سنداً قانونياً أو أخلاقياً، بل تمثل تمرّداً أوليغارشياً وإمبريالياً على القيم الإنسانية والليبرالية، إلا أن السؤال الجوهري ليس ماذا فعل الطرف الآخر، بل ماذا كان رد إيران على تلك السياسات التوسعية والعدائية؟

ما هو النهج الذي غيّر صورة إيران من دولة متمردة على النظام العالمي إلى دولة واقعية، وإن كانت ناقدة؟ وهل كان الاتفاق النووي هو هذا النهج؟ وهل كان يجب أن يتحول إلى استراتيجية وطنية دائمة بدل أن يظل مجرد مناورة مؤقتة؟ أم أن السياسات التي عززت الصورة العدائية كانت أكثر فاعلية؟

الحقيقة أن الاتفاق النووي كان أقصى ما يمكن أن تحققه إيران من مكاسب في ظل النظام الدولي الواقعي، بشرط أن تواصِل المسار الذي بدأته. هذا ما فهمه الإسرائيليون تماماً، ولذلك بذلوا كل ما في وسعهم لإفشال الاتفاق خلال ولاية أوباما، لكنهم فشلوا. ثم، في عهد ترامب، فعلوا المستحيل لإسقاط الاتفاق ومنع إحيائه.

والسؤال الذي يجب أن يُطرح بجدية: هل كانت إسرائيل تعتبر الاتفاق النووي عدواً أم الحرب؟ إذا كنا صادقين في مراجعة مسار عشر سنوات من الاتفاق إلى الحرب، سنرى أن نتنياهو كان يعتبر إحياء الاتفاق النووي كابوساً، وأنه الآن يحلم باستمرار الحرب.

محمد جواد روح
صحفي إيراني

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عشرين − إحدى عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى