من الصحافة الإيرانية: “ألمانيا” طرف مزدوج في القضية النووية الإيرانية
لا يمكن فهم المواقف الأخيرة لألمانيا تجاه إيران في سياق النقد التقليدي لسياسات الولايات المتحدة أو في إطار الدبلوماسية المعتادة، لاسيما مع الدعم الضمني للتحركات العدوانية ضد المنشآت النووية الإيرانية.

ميدل ايست نيوز: تبدو ألمانيا هذه الأيام طرفاً متناقضاً وأكثر تعقيداً من أي وقت مضى في ملف إيران النووي؛ ففي الوقت الذي يدعو فيه رئيسها إلى استئناف المفاوضات بين طهران وواشنطن وينتقد صراحة سياسات الإدارة الأمريكية السابقة، تتبنى حكومة برلين، في ظل الهجمات الإسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية، مواقف هجومية تصل أحياناً إلى حد التهديد. فقد اعتبر الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير، في تصريح لاقى صدى واسعاً، أن انسحاب دونالد ترامب الأحادي من الاتفاق النووي كان عاملاً أساسياً في تصاعد التوترات النووية مع إيران، محذّراً من أن استمرار الهجمات على المنشآت النووية لا يمكن أن يشكل حلاً للأزمة. كما رحّب باستعداد طهران وواشنطن للعودة إلى طاولة المفاوضات، واصفاً ذلك بأنه “نافذة مهمة” للسيطرة على الأزمة.
ورغم هذه النظرة الدبلوماسية، فإن التطورات الإقليمية وتغير الحكومة في ألمانيا دفعا برلين إلى الابتعاد عن نهجها الحذر التقليدي، متجهة نحو سياسة أكثر عدوانية وصفها الخبراء بأنها “نادرة الحدوث”.
وفي هذا السياق، أكد مرتضى مكي، المحلل المتخصص في الشؤون الأوروبية، في تصريح لوكالة “إيسنا” للأنباء، أن ألمانيا، إلى جانب تشددها إزاء البرنامجين النووي والصاروخي الإيراني، تنتهج في الحرب الأوكرانية أيضاً سياسة هجومية تفوق نظيراتها من القوى الأوروبية. واعتبر أن هذا التحول ليس مؤقتاً، وأن برلين لا تعتزم العودة بسهولة إلى سياساتها التحفظية السابقة. ويتجلى هذا التوجه العدواني في الدعم الضمني الذي عبّر عنه المستشار الألماني للهجمات الإسرائيلية على المنشآت الإيرانية، وهو دعم تعتبره طهران غير مشروع وخرقاً واضحاً للقانون الدولي، ما يحمّل الحكومة الألمانية مسؤوليات دولية إضافية.
ومن مظاهر التناقض أيضاً موقف الوكالة الدولية للطاقة الذرية حيال برنامجي إيران وألمانيا النوويين؛ إذ أكد المدير العام للوكالة أن ألمانيا لا تحتاج وقتاً طويلاً لتصنيع قنبلة نووية، في حين تواصل الوكالة فرض القيود على البرنامج النووي السلمي الإيراني والتهديد بتفعيل آلية الزناد. هذا التعامل المزدوج، بحسب المراقبين، يسلط الضوء على الطابع السياسي الذي يطغى على الملف النووي الإيراني. وعلى الرغم من تأكيد إيران المتكرر أن وجود أسلحة نووية أمريكية على الأراضي الألمانية يمثل انتهاكاً واضحاً لتعهدات برلين بموجب معاهدة عدم الانتشار، فإن الوكالة لم تصدر أي رد فعل جدي على ذلك، على عكس مواقفها الحادة تجاه طهران.
وفي هذا الشأن، صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، قائلاً: “لو كان هناك نية لمعالجة هذا الوضع بجدية، لكان الأمر تطلّب عقد اجتماع لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ولكن إذا أردنا التركيز على التزامات ألمانيا وفق معاهدة عدم الانتشار، فإن استضافتها للأسلحة النووية الأمريكية والطائرات القادرة على حمل رؤوس نووية يشكل خرقاً صريحاً لتلك الالتزامات”.
وأضاف بقائي: “نعلم، ويعلم الجميع، أن هناك عدداً كبيراً من أسلحة الدمار الشامل النووية الأمريكية في ألمانيا، وهذا وحده كافٍ للدلالة على أن برلين انتهكت التزاماتها، ويتعيّن على المجتمع الدولي والوكالة الدولية للطاقة الذرية أن يتحركا بهذا الخصوص. لكن للأسف، نشهد تعاملاً انتقائياً، حيث يتعرض البرنامج النووي السلمي الإيراني ليس فقط للانتقاد، بل وللاعتداء العسكري”.
وشدد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية على أن “موقف ألمانيا في هذا الشأن غير مناسب وخاطئ تماماً، ويتضمن تبريراً لعمل غير قانوني ارتكبته إسرائيل، وهو ما يحمّل الحكومة الألمانية مسؤولية دولية لأنها دعمت صراحة خرقاً فادحاً للقانون الدولي”.
وفي ظل هذا المشهد غير المتوازن والنظرة السياسية التي تفتقر إلى المهنية والفنية في التعامل مع الملف النووي الإيراني، فإن التهديدات التي أطلقتها الدول الأوروبية الثلاث، وخاصة ألمانيا، بتفعيل آلية الزناد ضد طهران، قد زادت من حدة التوتر. ورغم أن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية اعتبر هذه التهديدات غير ذات قيمة قانونية ووصفها بأنها خطوة سياسية تهدف للضغط على طهران، إلا أن العلاقات بين إيران وأوروبا باتت في أسوأ حالاتها، وألمانيا تتصدر هذا المسار التصعيدي.
وعليه، لا يمكن فهم المواقف الأخيرة لألمانيا تجاه إيران في سياق النقد التقليدي لسياسات الولايات المتحدة أو في إطار الدبلوماسية المعتادة. فهناك تغيرات جذرية في سياسات برلين، مصحوبة بدعم ضمني للتحركات العدوانية ضد المنشآت النووية الإيرانية، وتصعيد الضغوط من خلال التهديد بتفعيل آلية الرد السريع، وتعامل مزدوج من قبل المؤسسات الدولية، وهو ما يضع إيران في مواجهة وضع متأزم.
في هذه الأجواء، تصبح العودة إلى طاولة المفاوضات مع الحفاظ على المصالح الوطنية والاستعداد للرد الحازم على أي ضغوط أو عقوبات محتملة، التحدي الأكبر أمام طهران. ومن الواضح أن إيران مضطرة اليوم إلى إعادة النظر في مقاربتها تجاه ألمانيا؛ الدولة التي كانت تُعتبر يوماً ما جسراً لتقليل التوتر بين إيران وأوروبا، لكنها باتت الآن فاعلاً إشكالياً وأحياناً عدائياً. وفي نهاية المطاف، فإن مستقبل الملف النووي الإيراني والمعادلات الإقليمية بات مرتبطاً أكثر من أي وقت مضى بجهود دبلوماسية دقيقة، ومرونة محسوبة، ويقظة سياسية من كافة الأطراف، وهي أمور بات تحقيقها، في ظل الظروف الحالية، أكثر صعوبة… وأكثر إلحاحاً.



