من الصحافة الإيرانية: لنعطِ الدبلوماسية أولوية استراتيجية
تمر إيران حالياً بواحدة من أكثر المراحل حساسية في تاريخها المعاصر، حيث تواجه البلاد أزمات عميقة تتعلق بقدرتها على الصمود وقابلية العيش في أراضيها.
ميدل ايست نيوز: تمر إيران حالياً بواحدة من أكثر المراحل حساسية في تاريخها المعاصر، حيث تواجه البلاد أزمات عميقة تتعلق بقدرتها على الصمود وقابلية العيش في أراضيها، إلى جانب خطر إغلاق نافذة الفرصة الديموغرافية وهجرة النخب.
وتعود جذور هذه الأزمات إلى تفاعل سلبي بين عوامل متعددة، أبرزها الجفاف، وتدهور البيئة، وسوء الإدارة المزمن. كما فاقم التضخم المزدوج الرقمي على مدى عقود، واختلالات مالية وهيكلية، وعجز في الميزانية، وتآكل رأس المال الاجتماعي من حدة هذه المشكلات. وزاد العدوان العسكري الأخير، وخطر تكراره، من عمق وتعقيد الأوضاع.
في ظل هذه الظروف، تحتاج إيران إلى سياسة خارجية مختلفة تنقذها من دوامة سياسة “احتواء العداء” غير الفاعلة، وتضعها على مسار خفض التوتر وإرساء سلام مستدام. الشعب والنظام في إيران بحاجة إلى هذا التحول، لاستغلال فترة من الاستقرار في السياسة الخارجية والتركيز على التحديات المتراكمة. لا شك أن النظام السياسي في البلاد، وعلى المدى القصير، لا يملك أولوية أكثر إلحاحاً من إيجاد سبل لخفض التوتر ورفع العقوبات وتحرير الطاقات الوطنية لمواجهة القضايا الأساسية.
ومن المثير للاهتمام أن وقف إطلاق النار الهش لا يزال صامداً، رغم بعض التوقعات التي رجّحت انهياره، وقد حرص الطرفان – إيران والولايات المتحدة – على خفض مستوى التصعيد قدر الإمكان. ومن خلال تصريحات دونالد ترامب، رغم تناقضاتها المعتادة، يتضح أن هدفه الرئيسي هو التوصل إلى اتفاق مكتوب مع إيران. وتكراره الحديث عن “التدمير الكامل” للمنشآت النووية الإيرانية، يبدو أقرب إلى رسالة ضمنية بعدم الحاجة لهجوم جديد، وليس مجرد استعراض قوة.
وحتى خلال الحرب، أشار ترامب إلى أن الهجمات الإسرائيلية على إيران قد تتيح له فرصة لعقد اتفاق معها. كما لم يتوقف خلال زيارة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن عن التأكيد على ضرورة التفاوض مع إيران والتوصل إلى صيغة مكتوبة. في المقابل، يواصل نتنياهو، بسبب طبيعته المتشددة، قرع طبول الحرب ويشعر بالقلق الدائم من أي اتفاق محتمل بين طهران وواشنطن. ويحاول، من خلال الادعاء بأن الضربات على المواقع النووية الإيرانية قصيرة الأمد وغير استراتيجية، الحفاظ على الخيار العسكري قائماً. كما أن حديثه عن “مهلة 60 يوماً” و”مدى 480 كيلومتراً” للبرنامج الصاروخي الإيراني، يأتي في إطار تقويض جهود الوساطة الدبلوماسية.
ومن غير المرجح أن يكون البرنامج النووي الإيراني هو المحور الرئيسي في المخططات الإسرائيلية ضد إيران. فإسرائيل، تاريخياً، سعت دائماً لإضعاف القوى الكبرى في الشرق الأوسط لتتمكن من التحول إلى قوة مهيمنة في المنطقة. وقد يكون الهدف هذه المرة هو ترهيب باقي دول المنطقة وفتح الطريق أمام توسيع “اتفاقات إبراهام”، من خلال زعزعة استقرار إيران. والسلوك الإسرائيلي في سوريا بعد انهيار حكومة الأسد – من تدمير شامل للقدرات العسكرية السورية، واحتلال مزيد من الأراضي، والسعي لتفكيك الدولة – يقدم نموذجاً واضحاً.
وفي عدوانها الأخير الذي استمر 12 يوماً ضد إيران، تجاوزت إسرائيل الأهداف النووية ووجهت ضربات بدا أنها تستهدف دفع البلاد نحو الفوضى وتشجيع النزعات الانفصالية. في المقابل، فإن الولايات المتحدة، كقوة عظمى، لديها أولويات مغايرة، ولا ترغب في رؤية إيران غير مستقرة تُصدّر الفوضى إلى الخليج والمنطقة بأسرها، وتدرك جيداً أن تكلفة ذلك ستكون باهظة. كما يواجه ترامب معارضة داخلية قوية من قاعدته السياسية تجاه أي تدخل مفرط في الشرق الأوسط. معظم دول المنطقة أيضاً تعارض زعزعة استقرار إيران، وتعتبر نفسها الضحية الأولى لأي اضطراب إقليمي، كما تعارض المسار الذي قد يؤدي إلى تحول إسرائيل إلى القوة المهيمنة في الشرق الأوسط.
في هذه الظروف، هناك تباين في الرؤى بين ترامب ونتنياهو حول الاتجاه المستقبلي، ويبدو أن الأخير قلق بشكل خاص من احتمال عودة المحادثات بين إيران والولايات المتحدة.
وعليه، يتعين على إيران السعي لتحقيق هدفين رئيسيين: أولاً، إفشال الأهداف التخريبية للمتطرفين الإسرائيليين؛ وثانياً، العمل على ترسيخ وقف إطلاق النار ورفع العقوبات الأمريكية. وكلا الهدفين لا يمكن تحقيقهما إلا من خلال منح الدبلوماسية والتفاوض أولوية استراتيجية حقيقية. فإهمال هدف رفع العقوبات في هذه المرحلة قد يؤدي إلى ضياع الفرصة لعقود مقبلة.
ولحسن الحظ، فقد ترك الرئيس الإيراني، خلال مقابلته الأخيرة مع تاكر كارلسون، الباب مفتوحاً أمام التفاوض، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الإيراني أيضاً خلال الأيام الماضية. غير أن أي مفاوضات محتملة مع واشنطن تستدعي فهماً واضحاً بأن منح الدبلوماسية أولوية استراتيجية، وتبني نهج تفاوضي مغاير لما تم اعتماده خلال 22 عاماً مضت، أصبح ضرورة ملحّة.
کوروش أحمدي
دبلوماسي إيراني سابق



