من الصحافة الإيرانية: أردوغان عند مفترق طرق الشرق الأوسط

فيما عبّر معظم الفاعلين الإقليميين عن مواقف صريحة وأعلنوا اصطفافاتهم بوضوح بجانب إيران بعد عدوان إسرائيل عليها، اختارت تركيا، نظراً لعلاقاتها الحساسة والهشة مع كلا الطرفين، اتباع نهج حذر ومتعدد الأوجه ومرن.

ميدل ايست نيوز: اتخذت تركيا مساراً مختلفاً عن العديد من دول المنطقة في تعاملها مع الهجمات العسكرية الإسرائيلية ضد إيران. ففي حين عبّر معظم الفاعلين الإقليميين عن مواقف صريحة وأعلنوا اصطفافاتهم بوضوح، اختارت تركيا، نظراً لعلاقاتها الحساسة والهشة مع كلا الطرفين، اتباع نهج حذر ومتعدد الأوجه ومرن.

من جهة، تُعد إيران دولةً تربطها بتركيا حدودٌ مشتركة تزيد عن 560 كيلومتراً، ولم يشهد البلدان منذ أكثر من ثلاثة قرون صراعات مباشرة وواسعة النطاق. وتُعتبر هذه الحدود من أكثر الحدود استقراراً في الشرق الأوسط، والحفاظ على هذا الاستقرار يُعد ذا أهمية كبيرة للمصالح الأمنية والاقتصادية التركية.

ومن جهة أخرى، كانت تركيا أول دولة مسلمة تعترف بإسرائيل، وتمتعت بعلاقات وثيقة معها حتى أزمة أسطول المساعدات «مافي مرمرة» عام 2010. شملت هذه العلاقات تعاوناً عميقاً في المجالات الأمنية والاستخباراتية والعسكرية والاقتصادية. ومع ذلك، فإن الانتهاكات المتكررة للقوانين الدولية من جانب إسرائيل، بما في ذلك قتل المدنيين في غزة، والعمليات العابرة للحدود في لبنان وسوريا، والهجمات العسكرية الأخيرة ضد إيران، غيّرت نظرة تركيا تجاه إسرائيل بشكل جذري. فبحسب قادة أنقرة، لم تعد إسرائيل مجرّد لاعب إقليمي، بل تُعد دولة تسعى لإعادة تشكيل النظام الإقليمي من خلال القوة وتجاهل القوانين الدولية.

في ظل هذا السياق، تسعى تركيا، وسط تصاعد التوترات الإقليمية، إلى الحفاظ على موقعها كلاعب مستقل ومتوازن ومؤثر في سياسة الشرق الأوسط؛ دور يتماشى مع مصالحها الوطنية وطموحاتها الجيوسياسية. وبهذا الإطار، اتخذت تركيا موقفاً نقدياً من الهجمات العسكرية الإسرائيلية على إيران في رد فعلها الأولي، إذ أدان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تلك الهجمات بشدة، واعتبرها جزءاً من استراتيجية خبيثة وشاملة. واتهم إسرائيل بأنها مصدر عدم الاستقرار في المنطقة بأسرها، ودعا المجتمع الدولي إلى كبح جماح «شبكة القتل» بقيادة بنيامين نتنياهو. كما وصف أردوغان تلك الهجمات بـ«الإرهاب الدولي» خلال قمة الناتو المنعقدة في 25 يونيو 2025.

مع ذلك، لم تتجاوز ردود الفعل التركية حدود التصريحات، إذ ركز موقف أنقرة في التعامل مع هذه الهجمات على الحفاظ على مسافة من طرفي النزاع، مع إبداء التعاطف وتقديم دعم دبلوماسي محدود. وجاءت الاتصالات الهاتفية بين أردوغان والرئيس الإيراني في هذا السياق، حيث أعرب خلالها عن استعداد تركيا للمساهمة في حل سلمي للأزمة، وأبرز دور أنقرة كوسيط محايد وبنّاء يسعى للتأثير في مواقف المجتمع الدولي.

في الواقع، إن الصراع بين إسرائيل وإيران لا يخدم المصالح الاستراتيجية لتركيا، بل يُشكل تحديات أساسية ومعقدة لها. أول وأبرز هذه المخاوف هو احتمال تدهور الأمن والاستقرار على حدودها الشرقية مع إيران، وهي حدود كانت تُعد من أكثر النقاط استقراراً في المنطقة. ومن جهة أخرى، فإن خطر تدفق موجات من اللاجئين الإيرانيين نحو تركيا في حال استمرار الهجمات الإسرائيلية كان مصدر قلق رئيسي لدى أنقرة في هذه المرحلة.

إضافة إلى ذلك، كانت تركيا قلقة من أن يؤدي تصاعد المواجهات إلى ظهور لاعبين غير حكوميين ومنظمات إرهابية وجماعات شبه عسكرية طائفية في المناطق الحدودية. وقد يؤدي تصاعد نشاط هذه الجماعات واندلاع حروب بالوكالة إلى زيادة حالة عدم الاستقرار والفوضى على حدود تركيا وفي عموم الشرق الأوسط، وهو ما يتعارض بشدة مع أولويات تركيا الأمنية ومصالحها الجيوسياسية.

ومع ذلك، فإن ما دفع تركيا في نهاية المطاف إلى اتخاذ موقف مزدوج وإلى حد ما متحفظ تجاه الهجمات الإسرائيلية على إيران، هو مجموعة من الاعتبارات الجيوسياسية وموازنة المصالح. فرغم قلقها من الطموحات العسكرية الإسرائيلية في المنطقة، ورفضها لتغيير توازن القوى والنظام الإقليمي لصالح إسرائيل، فإن علاقات تركيا مع الغرب، ولا سيما مع الولايات المتحدة، لعبت دوراً محورياً في الحد من شدة ردّها.

وكان أردوغان قد أقام علاقات وثيقة مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ويسعى الآن إلى تعزيز علاقات بلاده مع الغرب، خصوصاً مع الولايات المتحدة. ولهذا، لم تكن تركيا راغبة في اتخاذ مواقف حادة أو إجراءات تصعيدية ضد إسرائيل قد تضر بعلاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن. وقد بلغ هذا الحذر حدّاً جعل أنقرة تكتفي بتعبير عن «قلق عميق» إزاء الهجمات الأميركية على المنشآت النووية الإيرانية، مؤكدة في الوقت ذاته استعدادها للقيام بدور في الوساطة أو تسهيل الحوار بهدف خفض التصعيد ومنع اتساع رقعة الأزمة.

وبالتالي، يمكن القول إن تركيا وجدت نفسها في لحظة حساسة عند اندلاع الهجمات العسكرية الإسرائيلية على إيران، وهي لحظة دفعتها إلى إعادة النظر في التهديدات الأمنية والاقتصادية والجيوسياسية الناشئة. وخلافاً لما قد يتصوره بعض المراقبين، فإن موقف تركيا لم يكن ناتجاً عن تقاعس، بل كان ثمرة حسابات استراتيجية دقيقة، وضعت أنقرة في موقع «المراقب النشط» و«الموازن الحذر».

نيوشا مرادي
ماجستير في العلاقات الدولية

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوزدبلوماسي إيراني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 × واحد =

زر الذهاب إلى الأعلى