من الصحافة الإيرانية: إسرائيل تكتب ملامح “الشرق الأوسط الجديد” من فوق دمشق
في الشرق الأوسط، يسود ما يمكن وصفه بـ"الصمت البارد"؛ فراغٌ هشّ يتأرجح بين دويّ انفجار في دمشق، وتغريدة مقتضبة من وزارة الخارجية التركية، وبيان مبهم يصدر عن البيت الأبيض.

ميدل ايست نيوز: في الشرق الأوسط، يسود ما يمكن وصفه بـ”الصمت البارد”؛ فراغٌ هشّ يتأرجح بين دويّ انفجار في دمشق، وتغريدة مقتضبة من وزارة الخارجية التركية، وبيان مبهم يصدر عن البيت الأبيض. في هذا الصمت الموحش، تُقال أشياء كثيرة دون أن تُعلن. لكن اليوم، مزّقت إسرائيل مرة أخرى هذا الستار الهشّ. انطلقت صواريخها نحو مركز القيادة المشتركة للجيش السوري في دمشق، لترسم سطرًا جديدًا في هوامش خريطة الشرق الأوسط المتحوّلة.
لم يكن هذا القصف مجرد هجوم؛ بل كان رسالة. رسالة متعددة الأبعاد إلى تركيا، تذكّرها بعواقب طموحاتها الإقليمية وربما بسذاجة تصوّرها أنها يمكن أن تملأ الفراغ الإيراني، وإلى الجولان لتفهم أن القرار بيد إسرائيل وليس أنقرة، وإلى الدروز وسائر المكوّنات القومية في المنطقة كي يصدقوا أن القوة والهيمنة بيد إسرائيل، ويواكبوا مشروعها في إعادة تشكيل الشرق الأوسط لصالحها. كما كانت رسالة إلى السعودية وبقية الدول العربية كي لا يترددوا لحظة في إحياء أو التوقيع السريع على اتفاقات أبراهام، ورسالة إلى إيران مفادها أن الوقت قد حان لتُظهر تل أبيب طوق الحصار الذي أحكمته في الإقليم، وأخيرًا رسالة إلى الولايات المتحدة التي باتت مضطرة للتعامل مع ثقة نتنياهو ونزعته إلى المبادرة الذاتية.
منذ أن أدخل محللون مثل مايكل كوبلو ورافائيل كوهين مصطلح “جز العشب” إلى قاموس الأمن الإسرائيلي، بات واضحًا أن تل أبيب مولعة بالعمليات الدورية. لكن اللعبة الآن تغيّرت قليلًا: لم يعد الأمر مجرد “عشب”، بل يبدو أنهم يعيدون “نخل التراب” بالكامل.
وفي هذا السياق، قال يوسي كوبرفاسر، الضابط السابق في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، لصحيفة وول ستريت جورنال: “هذه ليست مجرد رسالة إلى دمشق، بل إشارة إلى طهران وأنقرة أن إسرائيل ما زالت تمسك بزمام المبادرة”. تدرك تل أبيب تمامًا أن سوريا ليست أرضًا بلا صاحب، بل ممر يمتد من بيروت إلى بغداد.
تركيا، التي كانت تذوب طربًا بمديح ترامب لها، تكتفي اليوم بلغة دبلوماسية وتقول: “هذه الهجمات تهدد استقرار سوريا”. لكن ما يدور في ذهن المسؤولين الأتراك مختلف. فقاعدة “T-4″، ومناطق النفوذ التركية في الشمال السوري، ومستقبل المفاوضات حول سوريا، تُمثّل جميعها قضايا أكثر حساسية للرئيس رجب طيب أردوغان من مجرد انفجار في دمشق. تركيا لا تريد استفزاز إسرائيل، ولا أن تُعامَل كإيران، ولا تستطيع تحدي الولايات المتحدة، لذلك تواصل لعب دور الوسيط، مع أن الجميع، بمن فيهم الإسرائيليون، يعرفون أن الوساطة في الشرق الأوسط غالبًا ما تكون غطاءً للمناورة من أجل فرض النفوذ واقتطاع حصة وازنة.
وبينما تتواصل الهجمات في دمشق، يُظهر الدبلوماسيون الأميركيون في فيينا والدوحة وتل أبيب أنهم يسعون لاحتواء التصعيد أو وقفه. لكن الولايات المتحدة، وإن أظهرت القلق من تفاقم الأزمة، فإنها عمليًا لا تعارض أي مسار يختاره نتنياهو.
لم تستهدف إسرائيل في دمشق مواقع استراتيجية فحسب، بل هدمت “سردية” كاملة: سردية إعادة إعمار سوريا وحكومة الوحدة الوطنية والتململ من الحروب في غزة ولبنان والرهان على زيادة الدور التركي. هذا الهجوم دشّن فصلًا جديدًا من “السرديات ما بعد الحرب”، حيث لم تعد القضية مجرد صواريخ ودفاعات جوية؛ بل قضية من يتحكم بالرواية.
اليوم، في الشرق الأوسط، باتت القوة العسكرية والمبادرة الهجومية هي الكلمة الأولى. يحذّر المحللون، لا بلد يشعر بالأمان، الناس يموتون، والدبلوماسيون يدورون في حلقة مفرغة مستندين إلى قانون دولي لم يعد أحد يعرف أين موقعه. لكن الواقع على الأرض مختلف: لا أحد، سوى نتنياهو، يريد حربًا أوسع؛ لكن الجميع يستعدون لها.
سهند ایرانمهر
كاتب وصحفي إيراني