ما الذي يجبر الإيراني على الهجرة من محافظة إلى أخرى “داخل بلاده”؟

تتفاقم ظاهرة الهجرة الداخلية في إيران عامًا بعد عام، في ظل فوارق تنموية متزايدة بين المحافظات، واختلالات مزمنة في توزيع الموارد وفرص العمل والخدمات.

ميدل ايست نيوز: تتفاقم ظاهرة الهجرة الداخلية في إيران عامًا بعد عام، في ظل فوارق تنموية متزايدة بين المحافظات، واختلالات مزمنة في توزيع الموارد وفرص العمل والخدمات. هذا التحرك الديموغرافي الواسع – من المحافظات النائية والأقل نموًا إلى المدن الكبرى مثل طهران وأصفهان ومشهد وشيراز – لم يعد مجرّد خيار فردي، بل تحوّل إلى مسار جماعي يعكس أزمات عميقة في البنية الاقتصادية والاجتماعية في إيران.

تشير المؤشرات إلى أن هذا النزوح الداخلي المستمر يفرض ضغوطًا هائلة على البنى التحتية في المدن المستقبِلة، ويؤدي إلى تفريغ المجتمعات المحلية في المناطق الطرفية من طاقاتها البشرية الشابة، مما يفاقم حالة الفقر والركود فيها. في المقابل، تعاني المدن الكبرى من ارتفاع أسعار الإسكان، وتضخم سوق العمل، واختلالات بيئية ناجمة عن النمو السكاني غير المتوازن.

وبينما يفترض أن تكون الهجرة أداة لإعادة توزيع الفرص والثروات، فإن استمرارها بصورتها الحالية في إيران يكشف عن غياب رؤية متكاملة للتنمية المتوازنة، ويهدد بانقسامات أعمق في النسيج الاجتماعي، فضلاً عن تداعيات مباشرة على الأمن الغذائي، وسوق العمل، والنمو الاقتصادي على المدى الطويل.

مطلع عام 2025 أصدر مركز الدراسات التابع للبرلمان الإيراني تقريرًا يتناول أسباب الهجرة الداخلية في إيران خلال الفترة من عام 1996 حتى عام 2021. ويفيد التقرير بأن أنماط الهجرة الداخلية في البلاد تتأثر بعاملين رئيسيين هما السن والجنس. ووفقًا للتقرير، فإن ما بين 20 إلى 25 في المئة من هذه الهجرات تمت بدوافع اقتصادية. كما يساهم غياب التنمية البشرية المتوازنة بين المحافظات الإيرانية في تفاقم الهجرة، بما في ذلك الآثار السلبية على كل من المحافظات المتقدمة والأقل تطورًا. ففي المحافظات الأقل نمواً، برزت مشكلات مثل فقدان الكوادر المتخصصة وارتفاع معدلات الفقر، بينما ظهرت في المحافظات الأكثر تطورًا تحديات من قبيل انتشار السكن العشوائي وتزايد فرص العمل غير المستقرة.

وأوضح الباحثون الإيرانيون في مركز الدراسات أن استمرار تمركز الموارد في عدد محدود من المناطق، إلى جانب التفاوت التنموي، يسهم في استمرار موجات الهجرة الداخلية وزيادة تعقيداتها. فالهجرة الداخلية، سواء كانت داخل المحافظة الواحدة أو بين المحافظات، تؤدي دورًا حاسمًا في التغيرات السكانية ونمو عدد السكان في المدن والمحافظات، كما تؤثر في الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمجتمعات المحلية. كما أن الهجرة ليست سلوكًا عشوائيًا، بل هي استجابة للقصور في تلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية، ما يدفع الأفراد للبحث عن فرص أفضل.

العوامل الاقتصادية والهجرة الداخلية في إيران

وتُظهر نتائج التقرير أن العوامل الاقتصادية، ولا سيما فرص العمل والبطالة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالهجرة الداخلية في إيران. ففي الفترة ما بين 1996 و2021، شكلت الأسباب الاقتصادية—بما في ذلك البحث عن عمل أو الحصول على وظيفة أفضل أو النقل الوظيفي—ما بين خمس إلى ربع إجمالي حركات الهجرة. كما بيّنت البيانات أن المحافظات الطاردة للسكان تعاني معدلات بطالة أعلى، لا سيما بين خريجي الجامعات، مقارنة بالمحافظات الجاذبة. ويشير التقرير إلى أن هذا النمط من الهجرة يفاقم من الفجوة التنموية، إذ تُحرم المناطق المهمشة من مواردها البشرية والكفاءات المحلية، ما يساهم في تعميق معاناتها.

وفيما يخص الفروقات بين المدن والقرى، أشار مركز دراسات البرلمان الإيراني إلى أن الهجرة بدافع “اللحاق بالأسرة” كانت أكثر شيوعًا في المناطق الحضرية مقارنة بالمناطق الريفية، وذلك خلال الفترة الممتدة من 2016 حتى 2020. كما أن العوامل المرتبطة بالعمل والتعليم كانت أكثر تأثيرًا في المدن، بينما لعبت الخدمة العسكرية دورًا أكبر كمحفز للهجرة في الأرياف.

العمر والجنس

وفيما يتعلق بتأثير السن والجنس، حدد التقرير أن الغالبية العظمى من الهجرات تحدث في سن الشباب، وأن دوافع الهجرة تختلف باختلاف الفئة العمرية والجنس. تبدأ الهجرة بدافع التعليم من سن العاشرة تقريبًا، وتستمر حتى الفئة العمرية بين 20 إلى 24 عامًا كعامل رئيسي. أما الفروقات الجندرية، فتبدأ بالظهور اعتبارًا من سن الخامسة عشرة، وتستمر حتى الفئات العمرية الأكبر. وفي حين أن “اللحاق بالأسرة” هو السبب الرئيسي لهجرة النساء في جميع الفئات العمرية، تتعدد أسباب هجرة الرجال، بما في ذلك الخدمة العسكرية والعمل والسكن.

وخلال الفترة التي تناولها التقرير، تبين أن الخدمة العسكرية كانت من أبرز دوافع هجرة الذكور في الفئات العمرية بين 20 إلى 29 عامًا، بينما أصبحت فرص العمل والحصول على مسكن أكثر أهمية بعد سن 25. وبذلك، فإن التركيبة العمرية-الجندرية للسكان تؤثر بشكل كبير في أنماط الهجرة الداخلية، وتشير التحولات الديموغرافية إلى احتمالية تزايد أهمية العوامل الاقتصادية في تحفيز الهجرة مستقبلاً.

التنمية البشرية

كما أكد التقرير أن مؤشر التنمية البشرية—الذي يشمل الصحة والتعليم ومستوى الدخل—يؤثر بقوة على الهجرة بين المحافظات. وتشير بيانات السنوات 2006، 2011، و2016 إلى أن المحافظات الإيرانية ذات التنمية البشرية المرتفعة حققت فائضًا في الهجرة (مستقبلة للسكان)، بينما واجهت المحافظات ذات التنمية المنخفضة عجزًا في هذا المجال (طاردة للسكان). ومن بين المحافظات التي عانت من الهجرة: لرستان، كردستان، إيلام، كرمانشاه، كهكيلويه وبوير أحمد، وسيستان وبلوشستان. في المقابل، جذبت محافظات مثل طهران، أصفهان، يزد، والبرز أعدادًا كبيرة من المهاجرين، مستفيدة من مستويات تنمية أعلى.

وشدد التقرير على أن التفاوت التنموي بين المحافظات الإيرانية يشكل عاملاً رئيسيًا في تفاقم تدفقات الهجرة الداخلية، وما يصاحبها من تحديات اجتماعية واقتصادية مزدوجة. ففي المحافظات الأقل تطورًا، يؤدي النزوح السكاني إلى تآكل رأس المال البشري وزيادة معدلات الفقر، في حين تواجه المحافظات الأكثر تطورًا ضغطًا متزايدًا على البنية التحتية والخدمات، وارتفاع معدلات الفقر الحضري والعمالة غير النظامية. ويخلص التقرير إلى أن استمرار التوزيع غير المتوازن للموارد والتفاوت التنموي سيؤدي إلى تعقيد أكبر في أنماط الهجرة، مع التأكيد على أن العوامل الاجتماعية، مثل التعليم والرعاية الصحية، لا تقل أهمية عن العوامل الاقتصادية. ومن ثم، فإن تحقيق تنمية متوازنة وشاملة بين جميع مناطق البلاد يُعد شرطًا أساسيًا للحد من الهجرة الداخلية غير المنظمة وتحسين إدارتها.

اقرأ أكثر

إيران… زيادة 300% في هجرة القرويين إلى المدن الكبرى خلال 4 عقود

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة × 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى