من الصحافة الإيرانية: الغموض الاستراتيجي في الدبلوماسية النووية الإيرانية

بعد الهجمات التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، تبنت طهران سياسة متعددة الأبعاد تقوم على نهج "الغموض المتعمد".

ميدل ايست نيوز: بعد الهجمات التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، تبنت طهران سياسة متعددة الأبعاد تقوم على نهج “الغموض المتعمد”، وهي استراتيجية تجمع بين الردع وترك باب الدبلوماسية مواربًا. وتُعد المقابلة الأخيرة لعباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني، مع قناة “فوكس نيوز”، التي أقر فيها بـ”أضرار جسيمة” لحقت بالمنشآت النووية، مع تأكيده استمرار نهج التخصيب، إشارة واضحة إلى تبني هذا النمط من السياسة.

باتت إيران على مشارف إعادة تعريف موقعها الجيوسياسي، مبتعدة عن السياسات الشفافة والمتوقعة، لتدخل نطاقًا تُطمس فيه عمدًا الحدود بين التقدم والتوقف والتهديد. ويُعرف هذا النهج في أدبيات العلاقات الدولية بـ”الغموض الاستراتيجي”، وهي سياسة تعتمدها الدول لردع الخصوم والحفاظ على هامش للمناورة، دون الإفصاح الكامل عن مواقفها أو نواياها، كما فعلت إسرائيل لسنوات في ملفها النووي. ويبدو أن إيران، في مواجهة الضغوط السياسية والعمليات التخريبية والجمود الدبلوماسي، تتجه إلى نسخة محلية من هذه الاستراتيجية، رغم ما تحمله من مخاطر سياسية واقتصادية.

ويمكن تلخيص ملامح الغموض الاستراتيجي الإيراني بعد الهجمات الأخيرة في أربعة محاور:

  1. غموض تقني: أقر عراقجي بأن المنشآت النووية تعرّضت لـ”ضرر بالغ” وأن جزءًا من عمليات التخصيب توقفت، لكنه أكد أن “المعرفة والتكنولوجيا والإمكانات” لا تزال قائمة، وأن إعادة الإعمار جارية. هذه الازدواجية تخلق غموضًا أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية والدول الغربية وحتى المستثمرين، مما يمنح إيران ورقة ضغط إضافية في التفاوض.
  2. غموض في الهدف النهائي: تصر إيران على سلمية برنامجها النووي، لكنها ترفض خفض مستوى التخصيب، ما يفتح باب التأويل حول نيتها امتلاك قدرة ردع نووية ضمن ما يُعرف بـ”التحوّط النووي”.
  3. غموض في الرد على الهجمات: رغم نفي عراقجي وجود نية لرد فوري، إلا أن تحركات الحلفاء في جبهات مثل البحر الأحمر وسوريا والعراق تسجل تصعيدًا ملحوظًا، ما يشير إلى “رد غير مباشر” يدخل في إطار الغموض.
  4. غموض دبلوماسي: رغم إبداء الاستعداد للتفاوض، إلا أن طهران تشترط ضمانات أمنية ورفع العقوبات مع الحفاظ على حقها في التخصيب، ما يدل على تموضعها في منطقة رمادية بين القبول الكامل بالاتفاق السابق ورفضه القاطع.

لهذا النهج تبعات عدة:

  • رفع تكلفة الحسابات الاستراتيجية أمام واشنطن وتل أبيب، حيث تمنع حالة عدم اليقين بلورة سيناريوهات هجومية دقيقة.
  • إرباك الشركاء الدوليين كروسيا والصين، بين الرغبة في دعم إيران والدعوة إلى شفافية أكبر.
  • توظيف الغموض داخليًا لإدارة توقعات الرأي العام وإبقاء هامش المناورة السياسي.

اللعب على حدود الاتفاق والمواجهة

في المحصلة، فإن سياسة “اللعب في الضباب”، أي بين حدود الاتفاق والمواجهة، تمنح إيران قدرة ردع ومجالًا للمناورة، لكنها قد تنطوي على مخاطر استراتيجية كبيرة على المدى الطويل، منها سوء الفهم، وتفاقم العقوبات، وتحفيز التكتلات الدولية المناوئة.

وإذا كان الغموض الاستراتيجي يخدم أهدافًا سياسية، فإنه في المجال الاقتصادي يُترجم غالبًا إلى تجميد، وتردد، وهروب للاستثمارات. إيران تمضي في هذا النهج فيما تواجه إشارات متضاربة من الأسواق الإقليمية، وحتى من شركاء شرقيين كالصين. وبدون رؤية واضحة، تتعقد عملية التخطيط الاقتصادي الداخلي، وتُضاف إلى كلفة العقوبات عبء آخر هو كلفة انعدام اليقين الاستراتيجي.

يضع الغموض النووي الإيراني العالم أمام معضلة. أوروبا، التي كانت ترى نفسها وسيطًا رئيسيًا، تبدو اليوم مترددة. الصين، رغم روابطها الاقتصادية مع طهران، تفضل التعامل مع شريك له أفق استراتيجي واضح. أما الولايات المتحدة وإسرائيل، فقد تجد في هذا الغموض ردعًا مؤقتًا، لكنه لا يُطمئن الأسواق أو المجتمع الدولي. ويبقى السؤال المطروح أمام طهران: هل تريد أن توصل رسالتها إلى العالم عبر الغموض أم بالوضوح والثقة؟

فرشید فرحناکیان
دكتوراه في قانون النفط والغاز

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة عشر − تسعة =

زر الذهاب إلى الأعلى