من الصحافة الإيرانية: أهمية إعادة النظر في تصور إيران لأوروبا

أوروبا ليست أسطورة سياسية ولا هامشاً بلا تأثير، بل هي لاعب معقد، ولكي تواجهه إيران بفعالية، يجب أن تتجاوز الرومانسية ونعود إلى الواقعية.

ميدل ايست نيوز: من إحدى العقد المفاهيمية في السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية هو غياب إطار تحليلي متماسك لفهم طبيعة وأداء أوروبا كلاعب دولي. وهذه العقدة، خلافاً للاعتقاد السائد، ليست نتيجة لتطورات السنوات الأخيرة أو نابعة من أداء حكومة معينة فقط، بل لها جذور في إرث معرفي تراكم على مدى عقود في أذهان النخب السياسية والدبلوماسية الإيرانية.

في هذا الإرث، لم تُفهم أوروبا غالباً من خلال تحليل ممنهج للسلطة، بل في إطار عاطفي وتفاعلي؛ أحياناً برومانسية سياسية اعتبرت أوروبا قوة موازنة بين إيران والولايات المتحدة، وأحياناً أخرى بيأس جيوسياسي اعتبرها مجرد لاعب تابع وذليل أمام واشنطن. هذا التذبذب المستمر بين قطبين مبالغ فيهما منع نشوء سياسة أوروبية مستقرة تعتمد على الواقعية.

ما هو مطلوب هو الانتقال من هذا الانقسام الثنائي إلى فهم أكثر واقعية وتعقيداً لأوروبا. فباعتبارها لاعباً جماعياً ومتعدد الأبعاد في الوقت ذاته، تمتلك أوروبا مستويات من الاستقلالية الاستراتيجية المشروطة. هذا يعني أن دولاً أوروبية رئيسية مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا قادرة على اتخاذ مواقف مستقلة عن الولايات المتحدة في مجالات مثل التغير المناخي والتجارة والتكنولوجيا والسياسات الإقليمية، لكنها تظل متوافقة مع واشنطن في قضايا مثل الأمن الدولي والعقوبات الثانوية والتوازن العسكري.

ظهور هذه الخاصية المركبة في ملفات مختلفة يتطلب تحليلاً أدق وأكثر تفصیلاً. وأحد أبرز الأمثلة على تجاهل هذا التعقيد يظهر في الحسابات الاستراتيجية لروسيا تجاه حرب أوكرانيا. فقد اعتقد الكرملين أن إضعاف الدور الدولي لأمريكا في عهد ترامب وإمكانية تكرار هذه الخطاب في الانتخابات القادمة، سيجعل أوروبا تفتقر إلى القدرة أو الإرادة لمواجهة العدوان العسكري. لكن ردود فعل أوروبا، من حزم دعم واسعة النطاق إلى عقوبات متزايدة وتقليل الاعتماد على الطاقة الروسية، أظهرت أن أوروبا تملك قدرة على التحرك المستقل والحازم تجاه التهديدات الجوهرية.

إذا كانت روسيا قد وقعت في خطأ معرفي بشأن قدرة وإرادة أوروبا، فإن السياسة الخارجية الإيرانية معرضة أيضاً لخطر مماثل. المطلوب في التعامل مع أوروبا ليس التفاؤل الساذج بفجوات عبر الأطلسي، ولا إنكار الهياكل المستقلة لأوروبا، بل إعادة بناء واقعية تحليلية تسمح بفهم أوروبا في موقعها الحقيقي في النظام الدولي.

تحقيق ذلك يتطلب تعزيز القدرات المؤسسية لإنتاج المعرفة في مجال السياسة الخارجية، لا سيما في فهم المؤسسات المعقدة. فهم السياسة الخارجية الأوروبية يستدعي الاهتمام بعمليات صنع القرار في الاتحاد الأوروبي، وديناميات العلاقات بين الدول، وضغوط الرأي العام، ودور البرلمان الأوروبي، وتأثير المؤسسات الاقتصادية والأمنية متعددة الأطراف. من دون معرفة هذه الآليات، ستنتهي أي استراتيجية قائمة على أيديولوجية أوروبية أو معاداة أوروبا بسياسة رد فعل قصيرة الأمد وغالباً مكلفة.

العودة إلى الواقعية في السياسة الخارجية الإيرانية لا تعني رفض الحوار أو المواجهة، بل تعني امتلاك رؤية دقيقة ومحايدة ومستندة إلى تحليل للقدرات والقيود لدى الطرف الآخر. أوروبا لاعب يتحرك بين التبعية الهيكلية والاستقلال النسبي؛ وفهمها بشكل صحيح يمكن أن يكون حاسماً في تحديد مدى المخاطرة أو الفرص في تحركاتنا الدبلوماسية.

وفي ظل نظام دولي يشهد إعادة تركيب للقوى أكثر من أي وقت مضى، لا شك أن الخطوة الأولى نحو سياسة خارجية فعالة هي الفهم الواقعي للأطراف المقابلة. أوروبا ليست أسطورة سياسية ولا هامشاً بلا تأثير، بل هي لاعب معقد، ولكي تواجهه إيران بفعالية، يجب أن تتجاوز الرومانسية ونعود إلى الواقعية.

عابد أكبري
خبير في الشؤون الأوروبية

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
بواسطة
ميدل ايست نيوز
المصدر
دبلوماسي إيراني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة + 16 =

زر الذهاب إلى الأعلى