كيف تغرق “سياسات الاكتفاء الذاتي” إيران في أسوأ أزمة مائية بتاريخها؟
تواجه إيران واحدة من أشدّ أزماتها المائية في التاريخ، إلا أن السلطات لا تزال تُحمّل المواطنين المسؤولية الأساسية عن هذه الكارثة.

ميدل ايست نيوز: تواجه إيران واحدة من أشدّ أزماتها المائية في التاريخ، إلا أن السلطات لا تزال تُحمّل المواطنين المسؤولية الأساسية عن هذه الكارثة، في تجاهل واضح لدور السياسات الرسمية في تفاقم الوضع البيئي الخطير الذي يهدد مستقبل البلاد. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، تبنّت الجمهورية الإسلامية سياسة “الاكتفاء الذاتي” في إنتاج القمح وغيره من المحاصيل الغذائية، رغم تحذيرات الخبراء من أن هذه السياسة غير قابلة للتطبيق في مناخ جاف وشبه جاف يعاني من محدودية الموارد المائية.
وكتب موقع اقتصاد 24 في تقرير له، أن القطاع الزراعي، بدلاً من أن يكون داعماً للأمن الغذائي في خضم الأزمة، أصبح أحد أبرز أسباب الانهيار المتسارع للموارد المائية. إذ وفرت السياسات المعتمدة المياه عملياً مجاناً للمزارعين، ما أدى إلى تحميل الاقتصاد تكاليف باهظة تفوق الفوائد المحققة.
في ظل هذا الواقع المتدهور، يسعى القطاع الزراعي بكل طاقته للبحث عن مصادر مائية، في حين تُفقد كميات كبيرة من المياه أثناء نقلها إلى الحقول عبر قنوات تقليدية، خصوصاً خلال فترات الحرارة الشديدة، وسط تقديرات تشير إلى فقدان نحو 50% من المياه أثناء النقل.
تُعدّ الزراعة، إلى جانب الشرب والصناعة والبيئة، أحد أربعة القطاعات الرئيسية في استهلاك المياه في البلاد، لكن الزراعة تظل المستهلك الأكبر. ومع أن النقاش العام كثيراً ما يتناول أهمية ترشيد استهلاك المياه في الشرب والزراعة، إلا أن الهدر الكبير قبل وصول المياه إلى المستهلك النهائي لا يحظى بالاهتمام الكافي، ويُفتقر إلى بيانات دقيقة ضمن الإحصاءات الرسمية.
وتكمن إحدى أبرز المشكلات في النسبة المرتفعة لاستهلاك المياه مقابل الإنتاجية المنخفضة، إذ إن أكثر من 88% من المياه المتجددة في إيران تُستخدم في الزراعة، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ نحو 70%. في المقابل، لا تتجاوز مساهمة القطاع الزراعي 8% من الناتج المحلي الإجمالي، وأقل من 15% من التوظيف الرسمي، بينما يبلغ متوسط كفاءة الري نحو 35% فقط، ما يعني أن 65% من المياه تُهدر، في حين أن النسبة في الدول المتقدمة تتجاوز 70%.
وأشار مؤخرا رئيس منظمة البيئة السابق، عيسى كلانتري، إلى أن الزراعة تمثل المستهلك الأكبر للمياه، وأنها قطاع خاسر. وأوضح أن قيمة الإنتاج الزراعي السنوي تبلغ 40 مليار دولار، في حين تصل التكاليف المباشرة وغير المباشرة، بما فيها الأضرار البيئية، إلى 84 مليار دولار سنوياً.
تُظهر هذه المعطيات بوضوح أن دون إصلاحات هيكلية في السياسات الزراعية، لا يمكن تحقيق أي تقدّم في السيطرة على أزمة المياه أو إنقاذ البيئة الإيرانية من الانهيار.
تكمن جذور المشكلة في اعتماد مخططي السياسات الإيرانية خلال العقود الماضية على مفهوم الاكتفاء الذاتي في الغذاء كمسار للتنمية، وهو ما أدى عملياً إلى استنزاف الموارد الطبيعية، وخصوصاً المياه، وتدمير البنية البيئية للقطاع الزراعي. فقد توسعت زراعة القمح والأرز والقطن وقصب السكر في مناطق جافة، دون مراعاة القدرة البيئية للمناطق ولا سعة الموارد المتاحة، وهو ما ساهم في مزيد من التصحر والاعتماد المستمر على الواردات.
وبحسب بيانات وزارة الطاقة الإيرانية، يتطلب إنتاج كل كيلوغرام من الأرز نحو 3400 لتر من المياه، أي أن زراعة الأرز تستهلك أكثر من 7 مليارات متر مكعب من المياه سنوياً. ورغم هذه الكلفة العالية، فإن أسعار المنتجات الزراعية المحلية تفوق الأسعار العالمية بمرتين إلى أربع مرات، في حين يُقدّر الدعم غير المباشر للمياه والكهرباء والوقود في القطاع الزراعي بنحو 200 تريليون تومان سنوياً.
ومع استمرار الحكومة في شراء القمح بأسعار دعم عالية، تُستهلك أكثر من 4 آلاف متر مكعب من المياه لإنتاج كل طن من القمح، رغم ظروف الجفاف.
وتُعتبر مياه الري مجانية فعلياً، إذ لا تخضع لأي تسعير أو تحديد لحجم الاستهلاك، ولا توجد حوافز لترشيد استخدامها، بينما تُستخدم الكهرباء المدعومة لسحب المياه من آبار يصل عمقها إلى 300 متر.
المشكلة الأساسية أن سياسة الاكتفاء الذاتي، ما لم تُقرن بفهم دقيق للموارد والظروف البيئية، لن تؤول فقط إلى الفشل، بل ستقود إلى كارثة هدر المياه.
ورغم خطورة الوضع، لا تزال هناك سبل ممكنة للإنقاذ، بشرط وجود إرادة سياسية لتطبيق حوكمة مائية رشيدة، وإعادة النظر في الدعم غير المبرر، وتوفير بدائل معيشية للمزارعين. قد تستغرق هذه الإصلاحات وقتاً، لكنها حتماً أفضل من مواصلة المسار الحالي نحو الهاوية.
اقرأ أكثر
تناقض في الروايات.. هل فعلاً المواطن الإيراني مسؤول عن أزمة المياه؟