من الصحافة الإيرانية: النظام الأمني الصاعد في الشرق الأوسط “حلقة حصار أم توازن رعب جديد”؟
طوت حرب الاثني عشر يوماً بین إيران وإسرائيل في يونيو 2025 صفحة طويلة من الصراع غير المباشر والمنكر والمطوّل بين الطرفين.

ميدل ايست نيوز: طوت حرب الاثني عشر يوماً بین إيران وإسرائيل في يونيو 2025 صفحة طويلة من الصراع غير المباشر والمنكر والمطوّل بين الطرفين. وللمرة الأولى، خرجت المواجهة بين قوتين إقليميتين من الظلال، حيث انتقلت من عمليات سرية وقوى بالوكالة إلى ساحة صدام مباشر وواضح. هذا التحول النوعي لم يغيّر فقط قواعد اللعبة، بل قلب النموذج الأمني السائد في الشرق الأوسط رأساً على عقب. لم تكن هذه حرباً شاملة، بل كانت “تصعيداً مدروساً للتوتر”، سعى فيه الطرفان إلى إيصال رسائل استراتيجية: إسرائيل أرادت إثبات تفوقها الاستخباراتي والجوي، بينما أرادت إيران إظهار قدرتها على خرق أكثر منظومات الدفاع تطوراً. ومع أن التدخل الأميركي أوقف هذا التوازن المرعب، إلا أن أخطر ما خلّفته الحرب هو تطبيع فكرة الاشتباك المباشر بين القوتين، ما أدى إلى انهيار نموذج الردع التقليدي.
رد فعل القوى: إدارة الأزمات في عالم أحادي القطب
أما على صعيد ردود الفعل الدولية، فقد كشفت الحرب أدوار القوى الإقليمية والدولية بوضوح. أدت الولايات المتحدة دوراً مزدوجاً: من جهة، كانت الممكّن الرئيسي للعمليات الإسرائيلية، ومن جهة أخرى، كانت الجهة الوحيدة القادرة على احتواء التصعيد. هذا الواقع بدّد أي تصور بانسحاب أميركا من الشرق الأوسط، وأكّد موقعها بصفتها “الفاعل الرئيسي في إدارة أزمات المنطقة”.
في المقابل، أظهرت روسيا والصين قدراً من ضبط النفس، رغم التصريحات المنددة. روسيا، المنخرطة في حرب أوكرانيا، استفادت من ارتفاع أسعار النفط، لكنها حرصت على عدم المساس بتفاهماتها الحساسة مع إسرائيل في سوريا. أما الصين، التي تضع الاستقرار الاقتصادي في مقدّمة أولوياتها، فوجدت نفسها مكبّلة التأثير في المجال الأمني الإقليمي. وقد أثبتت هذه الأزمة أن الهيكلية الأمنية في الشرق الأوسط لا تزال، في لحظات الحسم، أحادية القطب وخاضعة للهيمنة الأميركية.
وفي هذا السياق، ثبّتت دول مجلس التعاون الكبرى، لا سيما السعودية والإمارات، استراتيجيتها طويلة الأمد القائمة على “توزيع المخاطر”. فقد عززت هذه الحرب مخاوفهم من إيران، كما أبرزت المخاطر الجسيمة لأي مواجهة شاملة. وبناء عليه، لم تعد هذه الدول ترى التهدئة مع طهران خياراً، بل ضرورة استراتيجية لتقليل المخاطر، ولم تعد تربط مصالحها حصراً بالمحور الأميركي.
سيناريوهان للمستقبل: حلقة تطويق أم توازن رعب؟
يقف الشرق الأوسط اليوم على مفترق طرق استراتيجي، يتحدده سيناريوان محتملان:
- السيناريو الأول: “حلقة الحصار”
في هذا السيناريو المتشائم، يُعتبر وقف إطلاق النار الراهن مجرد هدوء يسبق العاصفة. إذ تسعى إسرائيل وحلفاؤها إلى استغلال هذه المهلة لتشكيل إجماع دولي وتعزيز الطوق الاستراتيجي حول إيران. يشمل هذا الطوق تشديد الضغوط الاقتصادية القصوى (تفعيل آلية الزناد)، والعزل الدبلوماسي، وتحريك أطراف إقليمية مثل تركيا وأذربيجان. وعند استنزاف إيران بالكامل، يُفتعل “حدث مفجّر” يُتخذ ذريعة لهجوم شامل، يجري بدعم لوجستي وعملياتي مباشر من الولايات المتحدة. إنه رهان محفوف بالمخاطر يستهدف حسم الصراع وتغيير بنية السلطة في إيران جذرياً. - السيناريو الثاني: “توازن رعب جديد”
في هذا السيناريو المرجّح، يُعد وقف إطلاق النار نتيجة منطقية لحسابات جميع اللاعبين الأساسيين، الذين لا يرغبون في دفع ثمن حرب شاملة غير قابلة للضبط. تفضّل واشنطن لعب دور “مدير الأزمة” على أن تكون “مشعل الحرب”، وتسرّع دول مجلس التعاون خطوات التهدئة المباشرة مع طهران كضمانة لأمنها. وفي هذه الحالة، تدخل المنطقة في حالة طويلة من “اللاحرب واللاسلم”، تتسم بـ”سلام بارد وهش”، ترافقه سباقات تسلّح صامتة واشتباكات محدودة في مناطق رمادية (سوريا، العراق، مواصل التواصل الاجتماعي). إنها حرب استنزاف استراتيجية، لا حملة عسكرية تهدف إلى إسقاط النظام.
استراتيجية جديدة لإيران
أمام هذا التعقيد، على إيران تبني استراتيجية مزدوجة الأبعاد:
على المستوى الدبلوماسي: ينبغي لطهران أن تنخرط بفعالية في سياسة “توزيع المخاطر” التي تنتهجها جاراتها. إن تعميق العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع السعودية والإمارات من شأنه أن يبني جداراً إقليمياً واقياً ضد أي ائتلاف هجومي. كما يتوجب على إيران أن تدرك بأن روسيا والصين ليستا حليفتين عسكريتين، بل شريكتان تجاريتان، وعليها الحفاظ على قنوات الاتصال الخلفية (مثل سلطنة عُمان) لتجنّب الحسابات الخاطئة مستقبلاً.
على المستوى العسكري: كشفت الأزمة حدود فاعلية الردع القائم على “محور المقاومة”. الخيار الأكثر عقلانية هو التركيز على “الردع العمودي”، أي امتلاك قدرات يصعب الدفاع ضدها، أو تجعل كلفة التصدي لها غير محسوبة. وفي الوقت نفسه، لم يعد “محور المقاومة” أداة لشن الحروب، بل وسيلة لإدارة مستويات التوتر، وتأمين عمق استراتيجي متعدد الجبهات ضمن سيناريو التوازن المتوتر.
مرتضى شكري
عضو هيئة التدريس بقسم الدراسات الآسيوية في جامعة العلامة الطباطبائي – طهران