الرابحون والخاسرون بعد اتفاقية السلام في القوقاز

اختيار واشنطن، لا موسكو، منصة لتوقيع اتفاقية السلام في القوقاز، يعدّ مؤشراً واضحاً إلى انحسار هيمنة روسيا على تلك المنطقة التي كانت إلى عهد قريب تحت قبضتها السياسية والأمنية كـ"حديقة خلفية".

ميدل ايست نيوز: في مشهد يؤسس لتحولات جيوستراتيجية كبرى في جنوب القوقاز، احتضن البيت الأبيض، أمس الجمعة، مراسم توقيع معاهدة سلام بين أذربيجان وأرمينيا برعاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبحضور الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان.

هذا الحدث البارز، الذي جاء بعد سلسلة اتفاقيات أعقبت حرب كاراباخ الثانية (عام 2020)، له رابحون وخاسرون؛ حيث تتصدر الولايات المتحدة وتركيا وأذربيجان قائمة الرابحين، فيما تُدرج روسيا وإيران، إضافة إلى حد ما أرمينيا، في قائمة الخاسرين.

اختيار واشنطن، لا موسكو، منصة للتوقيع، يعدّ مؤشراً واضحاً إلى انحسار هيمنة روسيا على تلك المنطقة التي كانت إلى عهد قريب تحت قبضتها السياسية والأمنية كـ”حديقة خلفية”. أما إيران، التي ترى في القوقاز أيضاً عمقاً ومساراً حيوياً للتواصل مع الشمال، فتجد نفسها في صفّ الخاسرين، ليس فقط بسبب تحوّل سياسات حليفها الأرميني نحو الغرب والولايات المتحدة، وتزايد نفوذ إسرائيل، الشريك الاستراتيجي لباكو، قرب حدودها الشمالية الغربية، بل أيضاً بفعل تحوّل جغرافي كبير سيعقب اتفاقية السلام على أرض الواقع، والذي يتمثل في إنشاء “ممر زنغزور” الذي سيقطع حدود إيران البرية مع أرمينيا.

ووفق تقارير إعلامية أميركية، ستمنح أرمينيا الولايات المتحدة حق إنشاء ممر ترانزيت استراتيجي بطول 43 كيلومتراً، أطلق عليه اسم “مسار ترامب للسلام والازدهار الدولي”. هذا الممر سيربط أذربيجان بجمهورية نخجوان التابعة لها، قاطعاً عملياً التواصل الجغرافي بين إيران وأرمينيا. والنتيجة هي فتح طريق جيوسياسي واقتصادي لتركيا، المنافسة الإقليمية لإيران، نحو جمهوريات آسيا الوسطى الناطقة بالتركية، مقابل خنق جغرافي لإيران، يقلص وصولها البري إلى جورجيا وروسيا وأوروبا، ويحدّ من دورها بصفة ممر ترانزيت، ما يعني تراجعاً في العوائد الاقتصادية، وتآكلاً أكبر لمكانتها الجيوسياسية.

إيران كانت قد حذرت مراراً، خلال السنوات الأخيرة، من بناء هذا الممر، ولوّحت بالعمل العسكري، بل ونشرت قوات على الحدود للردع وأجرت مناورات. غير أنها تجد اليوم أن ترامب، مهندس سياسة “الضغط الأقصى” ضدها، بعد السماح لإسرائيل بمهاجمتها وقصف منشآتها النووية، بات يتولى بنفسه رعاية مشروع يعيد رسم خرائط النفوذ الأمنية في جنوب القوقاز لصالح خصومها. وبإسناد تنفيذ الممر إلى الولايات المتحدة، تغدو أي محاولة إيرانية لعرقلته مغامرة قد تعني مواجهة عسكرية مباشرة مع واشنطن، تحاول طهران كثيراً تفاديها.

وبهذا، يضاف جنوب القوقاز إلى قائمة أزمات الأمن الإقليمي المحيطة بإيران، والتي لم تعد تنحصر في الخليج والشرق الأوسط. الآن، ومع هذا التحوّل المرتقب، تواجه طهران واقعاً جديداً يتمثل في حصار بري فعلي يقطع أحد أهم منافذها نحو الشمال والقوقاز. ويبقى السؤال: هل ستكتفي إيران بالتكيّف مع الخريطة المستحدثة، أم ستسعى إلى كسر الطوق الجغرافي والسياسي الذي بدأ يطبق عليها؟

خنق إيران

وكان الممر قد أثار حفيظة إيران من روسيا العام الماضي، عندما زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، باكو، في أغسطس/ آب 2024، وخرج وزير خارجيته سيرغي لافروف بتصريحات مؤيدة لإنشاء الممر، والذي كان بالفعل نقطة رئيسة في اتفاق وقف النار في إقليم ناغورنو كاراباخ توصلت إليه موسكو بين باكو ويريفان في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020.

ورأى الخبير الإيراني صلاح الدين خدیو، أن إيران من الخاسرين في الاتفاق، نظراً لتداعياته الجيوسياسية والجيواقتصادية، موضحاً أن الممر ينزع من إيران “ميّزة جيوسياسية مهمة ويجعل الاتصال البرّي بأوروبا والمسارات التجارية نحو الشمال أكثر صعوبة”، ولفت إلى أن إيران عبّرت في السنوات الأخيرة مراراً عن رفضها لهذا المشروع من خلال مناورات عسكرية وتهديدات، إلّا أنّها، وكما هو حال روسيا، “غارقة حالياً في أزماتها، ما أفقدها إلى حد كبير فرصة الحضور الفاعل في القوقاز”.

ورأى أيضاً أن دخول الولايات المتحدة للمنطقة، في ظل العلاقات الوثيقة بين أذربيجان وإسرائيل، سيؤدي أيضاً إلى تعزيز حضور الكيان الإسرائيلي. لكن “الحديث عن حصار جيوسياسي لإيران أو إقصائها الكامل من القوقاز هو طرح مبالغ فيه”، وفق رأيه، مشيراً إلى أن مدى قدرة الولايات المتحدة، من خلال وجودها الفني والاقتصادي، على سدّ الفراغ الناجم عن تراجع الدور الروسي في المنطقة، “ما زال غير واضح، وسيتبين في المستقبل”.

من جهته، قال الخبير الإيراني إحسان موحديان، إن إنشاء الممر في جوهره “أداة لإخراج إيران من مسارات نقل البضائع والطاقة، وفرض خناق جيوسياسي عليها، ومحاصرتها بقوى معادية، سواء تمثلت في الكيان الإسرائيلي أو القوات التكفيرية أو قوات حلف شمال الأطلسي (ناتو) أو الحركات الانفصالية”. و

أشار إلى أن الممر، إلى جانب خسائره الاقتصادية، “سيجعل الحفاظ على أمن إيران واستقرارها أمراً أقل أهمية بالنسبة للدول الأخرى، كونها ستصبح خارج المسار الرئيسي لنقل البضائع والطاقة عالمياً”.

واعتبر أن تحول الولايات المتحدة إلى جارة مباشرة لإيران على حدودها الشمالية الغربية سيشكل “تحدياً خطيراً” مضيفاً في الوقت ذاته أن “يد إيران ليست خالية، فقد سبق لها أن خاضت تجربة الجوار مع الأميركيين عندما غزوا العراق واحتلوه، وقد اتخذت حينها سلسلة من الإجراءات للدفاع عن مصالحها، نجحت في بعضها وأخفقت في أخرى”.

وشدّد على أن “إيران ما زالت تملك فرصاً للقيام بدور في القوقاز، وإن كانت تقلّصت، إلّا أنّ عليها أن تسرّع وتيرة تحركاتها، موضحاً أنّ هذا الممر يمكن ربطه بشبكات ممرات أخرى في المنطقة صُمّمت لتجاوز إيران، مثل ممر داود الذي يُخطط لربط الكيان الإسرائيلي بسورية وشمالي العراق في إقليم كردستان، وكذلك ممر آخر من الهند ودول الخليج وصولاً إلى الكيان الإسرائيلي وأوروبا”.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

17 − 15 =

زر الذهاب إلى الأعلى