من الصحافة الإيرانية: ممر زنغزور… توغل خفي لحلف شمال الأطلسي في قلب أوراسيا
تَعزز الاهتمام الغربي بجنوب القوقاز بشكل أكبر بعد الحرب الأوكرانية، حيث بات حلف الناتو يسعى لتشييد سلسلة من البنى التحتية والترتيبات السياسية المتحالفة معه تمتد من بحر البلطيق إلى البحر الأسود وبحر قزوين.

ميدل ايست نيوز: تحول ممر زنغزور، الذي يقدّم ظاهرياً كمشروع فني يهدف إلى ربط أذربيجان بمنطقة نخجوان عبر جنوب أرمينيا، إلى واحد من أكثر التطورات الجيوسياسية حساسية في المنطقة بعد الحرب الثانية في قره باغ. وبينما يصفه داعموه بأنه مسار لتسهيل التجارة، تشير المعطيات إلى أن تنفيذه برعاية تركيا وجهات غربية قد يعيد رسم موازين القوى في جنوب القوقاز، ويحدّ من نفوذ روسيا، ويضعف مكانة إيران كأحد المسارات المحورية لعبور الشرق والغرب.
وكتب بيمان صالحي، خبير في الفلسفة السياسية الغربية، على موقع دبلوماسي إيراني، أن المشروع الذي يبدو في ظاهره ممراً تجارياً، يحمل في جوهره أبعاداً استراتيجية، إذ تعتبره الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا فرصة لإعادة صياغة الخريطة الجيوسياسية للمنطقة بما يقلّص نفوذ موسكو وطهران.
أما بالنسبة لروسيا، فإن المشروع يعني تقويض قدرتها على الضغط على أرمينيا وإضعاف سيطرتها على بنية الأمن الإقليمي، فيما ترى إيران في تنفيذه تهديداً مباشراً لدورها كطريق رئيسي للترانزيت بين الشرق والغرب، فضلاً عن انعكاساته على علاقاتها مع أرمينيا وبقية الأطراف الإقليمية.
تَعزز الاهتمام الغربي بجنوب القوقاز بشكل أكبر بعد الحرب الأوكرانية، حيث بات حلف الناتو يسعى لتشييد سلسلة من البنى التحتية والترتيبات السياسية المتحالفة معه تمتد من بحر البلطيق إلى البحر الأسود وبحر قزوين. وإذا ما نُفذ مشروع زنغزور تحت إشراف أنقرة والغرب، فسيشكّل حلقة لوجستية ورمزية في هذا المسار.
وبالنسبة لروسيا، فإن المشروع يعني عملياً تراجع نفوذها عن منطقة كانت تعتبرها مجالاً أمنياً عازلاً تقليدياً. السيطرة على الطرق التجارية في أرمينيا شكّلت دوماً أداة رئيسية في يد موسكو، كما أن وجودها العسكري ودورها كوسيط بين يريفان وباكو كان يضمن استقراراً نسبياً يخدم مصالحها. لكن مع توجه رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان لتقليص اعتماد بلاده على موسكو وتعزيز العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فإن تنفيذ الممر بدعم غربي سيضعف هذا الدور بشكل ملحوظ.
أما إيران، فقد استثمرت كثيراً في مسار الشمال – الجنوب عبر “الممر الدولي للنقل الشمال – الجنوب” الذي يربطها بروسيا والهند. وإذا ما تحقق مشروع زنغزور، فإن طهران قد تجد نفسها خارج خطوط التجارة الرئيسة بين الشرق والغرب، بما يضعف مكانتها كمركز ترانزيت إقليمي، ويضيف بعداً أمنياً مقلقاً على حدودها الشمالية الغربية.
في المشهد الأوراسي الأوسع، يعكس هذا المشروع صراع نموذجين مختلفين لإدارة المنطقة: نموذج غربي يسعى لدمج جنوب القوقاز في فضاء اقتصادي وأمني متماهي مع الناتو ويحد من نفوذ القوى التقليدية، ونموذج متعدد الأقطاب تدعمه روسيا وإيران، وتسهم فيه الصين بدرجة ما، يقوم على الحفاظ على سيادة الدول ومنع التدخلات الخارجية المزعزعة للاستقرار.
الأمر يتجاوز الخلافات الثنائية بين أرمينيا وأذربيجان، ويمس جوهر معادلة الاندماج الأوراسي. ومن ثم فإن رد الفعل الروسي – الإيراني المنسق يعدّ ضرورياً، سواء عبر تطوير مسارات بديلة، أو الاستثمار في بنية الممرات القائمة مثل محور الشمال – الجنوب، أو تعزيز التعاون مع أرمينيا للحؤول دون انجرافها نحو المشاريع الغربية.
كما أن موسكو وطهران مدعوتان لتفعيل أدوارهما في الأطر متعددة الأطراف مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومنظمة شنغهاي للتعاون و”بريكس بلس”، بما يسمح بدفع مشاريع تربط جنوب القوقاز بالشبكات الاقتصادية والأمنية الأوراسية. وفي حال غياب تحرك فعال، فإن مشروع زنغزور، إذا ما أُنجز بإدارة غربية – تركية، قد يتحول إلى مسار استراتيجي يتجاوز روسيا وإيران ويتيح للناتو توسيع حضوره قرب حدودهما.
وفي المقابل، فإن اعتماد مقاربة نشطة ومنسقة قد يحوّل التحدي إلى فرصة لتعزيز التعاون الإقليمي ضد التدخلات الخارجية، وترسيخ أطر أوراسية بديلة، وإثبات أن مشاريع الربط والترانزيت يمكن أن تُبنى على أساس مصالح محلية من دون إقصاء اللاعبين الرئيسيين.
في المحصلة، يُعدّ ممر زنغزور اختباراً استراتيجياً حقيقياً. فنتائجه ستحدد ما إذا كان جنوب القوقاز سيتجه أكثر نحو المدار الغربي، أو سيتحول إلى نموذج للتعاون المتعدد الأقطاب القادر على مقاومة محاولات إعادة هندسة المنطقة من الخارج. بالنسبة لروسيا وإيران وشركائهما، لا يمثل هذا المشروع قضية هامشية، بل جبهة أساسية في معركة الحفاظ على فضائهما الجيوسياسي.