إيران بعد الحرب: إعادة التموضع العسكري في الخليج
أحيت المناورات رسائل استراتيجية مفادها أن طهران لم تضعف، بل تعيد بناء ردع متطور، يهدد نفوذ الغرب وضغطه العسكري التقليدي في المنطقة.

ميدل ايست نيوز: في أعقاب الحرب التي استمرت 12 يومًا بين إيران وإسرائيل خلال يونيو المنصرم، دخل المشهد الإيراني مرحلة إعادة بناء وتحشيد عسكري ضمن مسعى لتعزيز الردع الإقليمي واستعادة التوازن الاستراتيجي.
وشكلت الحرب التي خاضتها طهران مع إسرائيل، والتي بدأت عبر عدوان إسرائيلي على الأراضي الإيرانية، شرارة دفعت طهران إلى إعادة ترتيب أوراقها العسكرية. فرغم شن إسرائيل ضربات قوية على أنظمة الدفاع الجوي والمرافق النووية الإيرانية، إلا أن البحرية الإيرانية نجت نسبيًا من أضرار جسيمة،.
وفي المعركة الإعلامية والتصعيد الكلامي بعد الحرب، أعلن مسؤولون إيرانيون في السلك العسكري أن طهران حمت نفسها حينها بأسلحة قديمة، وأنها مجهزة الآن بصواريخ متطورة جديدة تهدف للردع وإعادة رسم موازين القوة.
التموضع والرسائل الاستراتيجية: أول مناورات بعد الحرب
وبالأمس الخميس 21 أغسطس، نظمت قوات البحرية التابعة للجيش الإيراني أول مناورة عسكرية منذ الحرب، حملت اسم “اقتدار 1404” (العام الإيراني) في خليج عمان والمحيط الهندي، بمشاركة فرقاطة سبلان ومنصة الصواريخ غناوه اللتان أطلقتا صواريخ كروز من طرازين مختلفين “نصير” و”قدير” مستهدفتين أهدافًا بحرية بدقة، كما شاركت بطاريات ساحلية في هذه التدريبات.
وقد أعلن وزير الدفاع الإيراني، العميد عزيز نصير زاده، أن إيران مزوّدة الآن بصواريخ متقدمة، وأن قواتها جاهزة لمواجهة أي عدوان مستقبلي. وفي المقابل، جمدت طهران تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ما أثار تحذيرًا من أوروبا بعودة محتملة للعقوبات الدولية (تفعيل آلية الزناد) في حال لم تُحل الخلافات قبل 31 أغسطس.
استراتيجية التوازنات الإقليمية: مناورات متعددة الأبعاد
لم تكن مناورات “اقتدار 1404” التحرك الوحيد لإيران. ففي مارس، نفّذت الأخيرة تدريبات بحرية مشتركة مع الصين وروسيا تحت اسم “الحزام الأمني البحري 2025” قرب ميناء شابهار، في الخليج العماني والمحيط الهندي.
شارك فيها عشرات السفن من البحرية الإيرانية والحرس الثوري، بالإضافة إلى فرق روسية وصينية، تضمنت تدريبات على إطلاق النيران، والسيطرة على السفن المخطوفة، والإنقاذ البحري، والتدريب ليلاً ونهارًا.
وسُمح لمجموعة من كبار المراقبين من دول الخليج وآسيا بحضور المناورات، في خطوة رمزية تؤكد رغبة إيران في بناء تحالفات موسّعة خارج الدوائر التقليدية.
في المقابل، وصف وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي هذه المناورات بأنها دليل على “قوة البحرية الإيرانية وقدرتها على العمل في المياه الدولية”، مؤكدًا تصميم طهران على حماية مضيق هرمز وخليج عُمان والممرات البحرية الحيوية.
تهديدات محتملة لمضيق هرمز
على صعيد آخر، كشفت معلومات استخباراتية أميركية أن إيران تحضرت في يونيو المنصرم لوضع ألغام بحرية في مياه الخليج، ما أثار مخاوف من إمكانية إغلاق مضيق هرمز أحد أهم الممرات النفطية عالميًا. فرغم أن الألغام لم تُستخدم، إلا أن هذه الخطوة تشكل تهديدًا ملموسًا لاحتمال تعطيل إمدادات الطاقة العالمي.
المحللون حذروا من أن إيران تمتلك قدرات بحرية غير متناظرة (A2/AD) تشمل سرعات هجومية، وطائرات بدون طيار، وطائرات صغيرة، ما يجعل عملية تطهير المضيق مهمة شاقة للحلفاء الغربيين.
لكن على الضفة المقابلة، تُعدّ الصين أكبر مشترٍ للنفط الإيراني، إذ يذهب نحو 90% من صادرات النفط الإيرانية إليها. لذلك، فإن إقدام إيران على إغلاق المضيق لاسيما بعد تعرض حقولها النفطية لأضرار جسيمة جراء الهجمات الإسرائيلية، كان سيؤدي إلى تعطيل إمدادات النفط إلى الصين وتهديد أمنها الطاقي.
استراتيجية الردع والتوجّه البحري الجديد
يصب مزيج المناورات البحرية المنفردة والشراكات متعددة الأطراف في خانة بلورة صورة جديدة للقوة الإيرانية: قوة ذات قدرة دفاعية وهجومية، يمكنها العمل ضمن بيئة إقليمية ومعقدة.
وأحيت المناورات رسائل استراتيجية مفادها أن طهران لم تضعف، بل تعيد بناء ردع متطور، يهدد نفوذ الغرب وضغطه العسكري التقليدي في المنطقة.
كذلك، أظهر التعاون العسكري مع موسكو وبكين، أن إيران تبدو في طريقها لإنشاء محور بحري بديل عن التحالفات الغربية. هذا التوجه يفتح لها مسارات سياسية واقتصادية أوسع، ويحافظ على خيار أمني مستقل، بعيدًا عن الضغوط الغربية.
لكن هذه التحركات تزامنت مع تراخي اقتصادي وضغوط نووية ومطالب بإيقاف تخصيب الوقود النووي (اليورانيوم) بشكل كامل، كما أن جمود المحادثات مع أميركا والتفاوض مع الوكالة الدولية وتهديد مديرها غروسي وانعدام تسوية واضحة وشفافة قد يؤدي إلى تجديد العقوبات الأممية وتفعيل آلية الزناد من قبل الترويكا الأوروبية.
دعونا لا ننسى أيضًا أن التهديدات بإغلاق مضيق هرمز — التي تقدم نوعًا من الردع — تحمل تبعات اقتصادية خطيرة على إيران نفسها وزبائن الطاقة والسلع الأخرى، وتزيد من احتمالات المواجهة المباشرة مع واشنطن واستياء دول الجوار.
مستقبل متقلب ومفتوح السيناريوهات
في المحصلة، يمكن القول إن المناورات البحرية الإيرانية ليست مجرد استعراض تقني للقوة، بل هي رسالة سياسية مركبة تستهدف الداخل والخارج في آن معاً. فإلى الداخل، تسعى طهران لإعادة ترميم صورة الردع التي تعرضت لهزّة خلال الحرب الأخيرة، ولطمأنة الرأي العام بأن قدرات الجيش الإيراني والحرس الثوري لم تتأثر بالخسائر. أما إلى الخارج، فالمناورات تندرج ضمن لعبة معقدة لإدارة التوازنات. فمن جهة، توجيه إنذار لإسرائيل بأنها غير قادرة على فرض معادلات جديدة في المنطقة من دون مواجهة رد فعل إيراني، ومن جهة أخرى إرسال إشارات إلى واشنطن وحلفائها بأن إيران ما زالت قادرة على تهديد الملاحة الحيوية في مياه الخليج وبحر عمان إذا ما استُبعدت من أي ترتيبات إقليمية.
لكن في الوقت نفسه، تكشف هذه التحركات عن محدودية الخيارات أمام طهران؛ فالمواجهة المباشرة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة تبدو مستبعدة، ما يجعل «التلويح بالقوة» أداة لتعويض غياب القدرة على حسم الصراع عسكرياً. هذا التناقض بين الرغبة في استعراض النفوذ وبين إدراك القيود الواقعية، سيستمر في تشكيل مسار السياسة الإيرانية في المرحلة المقبلة.
من هنا، فإن السؤال الأبرز ليس ما إذا كانت هذه المناورات ستغيّر قواعد اللعبة في المنطقة، بل ما إذا كانت طهران قادرة على ترجمة هذه الاستعراضات العسكرية إلى أوراق سياسية ملموسة على طاولة المفاوضات، سواء في ما يتعلق بملفها النووي أو بمستقبل الترتيبات الأمنية في الخليج والشرق الأوسط عموماً. وبقدر ما ستتمكن إيران من موازنة خطاب القوة مع براغماتية التفاوض، سيتحدد شكل حضورها في المعادلات المقبلة، أي قوة إقليمية تفرض نفسها من خلال الردع والحوار معاً، أو لاعب يستنزفه الصراع المستمر مع خصومه.
اقرأ المزيد
من الصحافة الإيرانية: الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة ليست مزحة، بل قد تكون مقدمة للحرب