فاتورة اقتصادية مرعبة… كيف يستنزف “تعطيل الدوام” أموال إيران؟

أصبحت أيام تعطيل الدوام في إيران أكثر من مجرد استراحة، فهي تكلف الاقتصاد الوطني خسائر يومية تُقدّر بتريليونات التومان، وتزيد من استياء القطاعات العامة والخاصة.

ميدل ايست نيوز: في أوائل ومنتصف أغسطس الجاري، رفعت السلطات الإيرانية من وتيرة قرارات إغلاق الدوائر الحكومية والمصارف، أو تقليص دوامها، في طيف واسع من محافظات البلاد للحدّ من ذروة الطلب على الكهرباء والمياه وسط موجة حرّ خانقة، الأمر الذي شكل عبئًا غير مسبوق على الاقتصاد الإيراني الذي يتكبد يوميًا خسائر تريليونية.

ورغم إعلان مسؤولين في الحكومة رفضهم الكامل لتعطيل شامل، فإن الواقع الميداني أخبر غير ذلك، مع تعطيلات مفاجئة ومتكررة زادت من توتّر القطاعات العامة والخاصة. تشمل قرارات التعطيل الإجباري طهران وعدداً من المحافظات الحيوية الأخرى، وتأتي على وقع انقطاعات مبرمَجة للتيار الكهربائي وتراجع حاد في مخزون المياه، وتحذيرات رسمية من بلوغ العجز مستويات خطرة مع نهاية الصيف. هذه ليست حادثة معزولة؛ بل حلقة جديدة في سلسلة “تعطيلات طارئة” باتت أداة إدارة أزمة مزمنة، تكشف هشاشة البنية التحتية وتعثّر الحوكمة في مواجهة التغيرات المناخية وظاهرة الجفاف.

القصة الكاملة

مطلع أغسطس الجاري، أعلنت السلطات الإيرانية تعطيل الدوام ليوم واحد للدوائر الحكومية والبنوك في معظم البلاد لتخفيف الحمل على الشبكة مع تجاوز الحرارة 40°م في العاصمة، وسط حديث رسمي عن فجوة توليد كهربائي تصل إلى قرابة 18 ألف ميغاواط بين المتاح والمطلوب، وتوسّع في ساعات التقنين. تكرّر تعليق العمل على نحو موضعي خلال الأسابيع التالية، بما في ذلك أوامر بالتعطيل أو الدوام الجزئي في ما لا يقل عن 13 محافظة وفق وسائل إعلام رسمية ومحلية.

وفي 12 أغسطس، تحدّثت تقارير عن أوامر حكومية بإغلاق للدوائر والبنوك في 14 محافظة إيرانية بسبب موجة الحر ونقص الإمدادات وترشيد استهلاك المياه، فيما واصلت محافظات عدّة الإعلان عن “تعطيل الأربعاء”. هذه الإجراءات جاءت بعد جدلٍ مطلع الشهر حين أكّدت متحدّثة الحكومة أن مقترح “تعطيلٍ وطني شامل” في أغسطس رُفض، لكن الوقائع الميدانية أظهرت أن التعطيل الجزئي صار واقعاً واسع النطاق.

وتفاقمت موجة الحر حتى لامست 50°م في بعض مدن الجنوب الإيراني، بينما ظل توليد الكهرباء غير كافٍ للحمل الأقصى، فارتفع الاعتماد على انقطاع الكهرباء المجدول. دفعت هذه الظروف السلطات الحكومية إلى استخدام خيار “التعطيل” كصمام أمان سريع لخفض الذروة، مع دعوات لتقنين المياه في ظل تحذيرات من شحٍّ أشد بحلول سبتمبر المقبل. لكن وفق تقارير، فالتغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة ليست عارضاً؛ إذ تم تعليق الدوام بشكل مكرر في عامي 2023 و2024 للسبب ذاته، ما يشي بأن الظاهرة باتت “قاعدة” صيفية أكثر منها استثناءً.

جذور الأزمة: سوء إدارة وجفاف مزمن

لا يمكن ردّ المشكلة إلى الطقس وحده. فالنقص الاستثماري الطويل في توليد الكهرباء ونقلها، وتأخر تحديث الشبكات، وارتفاع فاقد التوزيع، والاعتماد على محطات قديمة وصيانة مؤجلة تحوّل أي ذروة حرارة إلى حالة طوارئ في إيران. كذلك، تعقّد العقوبات والحظر الأجنبي استيراد المعدات والتمويل، والمحصلة: تخطيط ضعيف للطلب، وإدارة مرتبكة للذروة، وتأخّر في برامج كفاءة الطاقة والمياه. حتى ركيزة “التطمين” الرسمي اهتزّت عندما حذّر الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، نفسه من أنّ الاستهلاك المفرط للمياه قد يضع مدناً كبرى أمام عجز قاسٍ بنهاية الصيف وأن إيران باتت على وشك الإفلاس المائي.

إلى جانب ذلك، أدى الجفاف المزمن في إيران، الذي ضرب الأحواض المائية وأضعف التوليد الكهرومائي وخفّض مرونة الشبكة، إلى جعل صيف 2025 أكثر هشاشة أمام موارد الطاقة والمياه في البلاد. ومع انشغال الدولة والمسؤولين بملفات إقليمية وأمنية، تراجع “الداخل الخدمي” في الأولويات، ليتأخر بناء محطات توليد الكهرباء جديدة، ويصيب الشلل برامج ترشيد الاستهلاك، ويتم اللجوء إلى خطط الطوارئ التي تدار بفرض تعطيل إحباري، وإغفال إصلاح السبب الجذري.

خسائر تريليونية

تقديرات الخسائر الناجمة عن هذه العُطل تختلف حسب المنهجية، لكنها تجتمع على أنّ الفاتورة التي تتكبدها خزينة الدولة كبيرة. وفق تصريحات رسمية سابقة لحامد أحمدي مدير عام التقنيات الحديثة بشركة توليد ونقل وتوزيع الكهرباء الإيرانية، يكلّف كل يوم إيقاف للدوام نحو ثمانية مليارات دولار “على الحكومة” وحدها أي خارج خسائر القطاع الخاص وسلاسل التوريد. تقديرات صحافية واقتصادية أحدث رفعت الرقم إلى 2.4 –7.6 تريليونات تومان كأثر على الناتج أو “الخسارة المباشرة”، فيما قدّرت قراءة أُخرى الكلفة بنحو ٢٨٣ مليون دولار يومياً، تبعاً لحسابات الفاقد في الإنتاج والخدمات. الفجوة بين الأرقام تُظهر نقص الشفافية المنهجية، لكنها تكفي للدلالة على أن “تعطيل الدوام” ليس “مجانيًا”.

بمعنى، إذا كرّرت السلطات الإيرانية خيار التعطيل ليوم واحد أسبوعيًا طوال شهر حار، قد تتجاوز الخسائر التراكمية عشرات التريليونات من التومان، فضلاً عن آثار جانبية يصعب تسعيرها مثل تعطّل المعاملات الإدارية، وتأخير الصادرات، وتكدّس الأعمال القضائية، وتعطيل التعليم والخدمات الصحية غير العاجلة، والصناعة، والأماكن السياحية والترفيهية وغيرها.

تبعات اجتماعية وسياسية

على الأرض، يتموضع المواطن الإيراني بين مطرقة الحر وسندان انقطاع الخدمات؛ صيفٌ أشد حرارة، انقطاعات كهرباء تمتد لساعتين قابلة للزيادة، وإدارات حكومية وخاصة مغلقة تؤجّل حاجات أساسية (سجل مدني، ضرائب، قضاء، تراخيص). إذن، تكرار “تعطيل الأربعاء” يولّد حالة لا يقين مزمنة للأسر الإيرانية والأعمال الصغيرة، ويزيد كلفة الامتثال واللوجستيات.

سياسيًا، حاولت الحكومة تجنّب إعلان “تعطيل وطني شامل” وأوكلت القرار إلى المحافظات ولجان إدارة الطاقة، لكن كثافة القرارات الميدانية جعلت الصورة العامة شبيهة بتعطيل واسع على أيامٍ متفرّقة. هذه الازدواجية “رفض التعطيل الشامل نظرياً، وممارسته عملياً على نحو مجزّأ” تغذّي انطباع سوء التنسيق المركزي.

التعطيل ليس حلًا

يرى خبراء اقتصاديون أن إيقاف الدوام أداة طوارئ قصيرة الأجل لخفض ذروة استهلاك موارد الطاقة، لكنها لا تعالج العطب، حيث لا تقلّص فاقد الشبكة، ولا تضيف قوة جديدة، ولا توفّر ماء للسدود، ولا ترفع كفاءة التبريد في الأبنية. والأسوأ أن هذه الأداة تنقل الكلفة إلى المجتمع والقطاع الخاص، بينما تجمّد الخدمة العامة وتترك أثر “ندوب مؤسسية” على ثقة الناس. لهذا، تحوّل التعطيل من حل إسعافي إلى علامةٍ على عطب بنيوي في إدارة الطاقة والمياه.

ما العمل؟

  1. إدارة ذروة ذكية بدل “إجازة قسرية”: توسيع التسعير المرِن في أوقات ذروة الاستهلاك (مياه وكهرباء)، وحوافز قطع الأحمال الطوعية للصناعة، وتمكين الشركات من بيع “خفض الاستهلاك” للشبكة بعقود قصيرة. هذه الأدوات تشتري وقتاً بتكلفة أقل من تعطيل الدوام.

  2. مكافحة الفاقد وترشيد التبريد: برنامج وطني سريع لتقليل فاقد التوزيع، وتقديم منح وقروض بدون فائدة لاستبدال أجهزة التبريد المنزلية والتجارية غير الكفوءة، وتطبيق أكواد حرارة إلزامية في الدوائر والمولات.

  3. تنوّع مصادر الطاقة عند الذروة: تسريع ربط قدرات شمسية موزّعة (سطوح عامة وخاصة) مع حوافز تخزين بطاريات صغيرة، لأن ذروة الشمس تزامن ذروة التبريد.

  4. حوكمة مياه متماسكة: ضبط استخراج المياه الجوفية، وحملات مكثفة لخفض الاستهلاك الحضري صيفاً، وإدارة شفافة لخزانات السدود تحسّباً لسنوات الجفاف.

  5. شفافية رقمية: ضبط لوحة مؤشرات يومية للجمهور تُظهر الحمل والإنتاج والفاقد، والاستمرار في خطط انقطاع الكهرباء المجدول قبل ٤٨ ساعة، لتقليل كلفة عدم اليقين على الأسر والشركات.

هذه الاقتراحات مطبّقة عالمياً في دول تمرّ بأحمال حرارة مشابهة، وتقلّل الحاجة إلى “تعطيل الدوام” كحل افتراضي.

ختامًا

لا يخفي المشهد الصيفي الإيراني في السنوات الأخيرة ظاهرة واحدة، بل فشل متكرر في إدارة الطاقة والمياه وضعف هيكلي يستوجب الإصلاح السريع. ما تراه السلطات الإيرانية بأن خيار تعطيل الدوام أضحى سياسة زمنية، بات اليوم سيفًا حادًا يقسم كاهل اقتصاد البلاد، ويضعف ثقة المجتمع، ويكشف عن تعطُّل إداري عميق. إن عاجل الإصلاح هو نفسه الذي يبدأ بوضع استدامة الطاقة والمياه في صلب أولويات الدولة، لا مجرد تعليق الدوام لحين عبور حر الصيف فقط.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية + خمسة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى