الهجرة المناخية.. خيار الأسر الإيرانية في مواجهة تراجع الموارد المائية
أدت موجات الجفاف وارتفاع درجات الحرارة إلى تآكل اقتصادات المحافظات القاحلة في إيران وتفاقم فجوة التنمية والهجرة المناخية.

ميدل ايست نيوز: في العقدين الأخيرين واجهت مظعم محافظات إيران ضغوطاً متزامنة ناجمة عن ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض منسوب الهطولات المطرية، وهي تحديات تجاوزت حدود المساحات الخضراء والأراضي الزراعية لتطال مختلف القطاعات الاقتصادية من الصناعة والخدمات إلى البناء وموارد الطاقة.
لم تعد ظاهرة الجفاف العالمية اليوم وخاصة في إيران مجرد أزمة بيئية، بل محركاً لتفاقم الفجوة الاقتصادية بين المحافظات الغنية بالمياه وتلك الفقيرة بها، وعاملاً لركود مناطق الشرق والجنوب، فضلاً عن كونها شرارة لموجة جديدة من الهجرة المناخية.
ما هي المحافظات الإيرانية الأكثر تأثراً بالجفاف؟
خلال العقدين الماضيين، شهدت معظم المحافظات الإيرانية مساراً مزدوجاً تمثل في ارتفاع درجات الحرارة وتراجع كميات الأمطار، ما أرهق الموارد المائية وغيّر أنماط الحياة والأنشطة الاقتصادية. وإذ تقع إيران في نطاق مناخي جاف وشبه جاف، فإن أقل تغير في معدلات الحرارة أو الأمطار يترك تداعيات بالغة. ولم يعد الجفاف في الظروف الراهنة يعني فقط انخفاض الإنتاج الزراعي، بل بات يؤثر بصورة مباشرة وغير مباشرة على الخدمات والصناعة والبناء وحتى على إنتاج واستهلاك الطاقة.
وبحسب الأنماط المناخية خلال السنوات العشرين الماضية، يمكن تصنيف المحافظات الإيرانية وفق مستوى هشاشتها أمام الجفاف وتبعاته الاقتصادية إلى ثلاث فئات:
المحافظات الأشد هشاشة: وتشمل تلك التي عانت في الوقت ذاته من ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة وتراجع كبير في معدلات الأمطار. التأثيرات السلبية للجفاف في هذه المناطق لا تنحصر في الزراعة بل تطال البنية الاقتصادية ككل. وتعد سيستان وبلوشستان (جنوب شرق) وكرمان (وسط) وخراسان الجنوبية (شرق) أبرز الأمثلة، حيث أدت الأزمة إلى تراجع الإنتاج الزراعي وانخفاض دخول الأسر الريفية، وتزايد الضغط على الموارد المائية، وركود في قطاعات مثل الخدمات والبناء.
المحافظات ذات الهشاشة المتوسطة: وهي مناطق شهدت تغيرات متقطعة ومتأرجحة في درجات الحرارة وهطول الأمطار، ما انعكس على الاقتصاد بدورات قصيرة من الانتعاش أعقبها تراجع. محافظات فارس ويزد وأصفهان تندرج ضمن هذه الفئة. ورغم أن بعض الأعوام شهدت هطولات مفاجئة ساهمت مؤقتاً في تحسن الموارد المائية، إلا أن الاتجاه العام ظل نزولياً، مع ضغوط كبيرة على الزراعة والصناعات المعتمدة على المياه.
المحافظات الأقل هشاشة: وهي التي كان تأثير التغيرات المناخية عليها محدوداً أو قابله تغير تعويضي بين الحرارة والأمطار. ففي بعض المحافظات الشمالية، على سبيل المثال، عوّضت زيادة الأمطار نسبياً عن ارتفاع الحرارة أو غيّرت أنماط الهطول. ومع ذلك، حتى هذه المناطق لم تسلم من ضغوط مناخية متزايدة تستلزم إدارة أفضل للموارد المائية.
وحذر مسؤولون إيرانيون من احتمال نفاد المياه في العاصمة طهران خلال أسابيع، في ظل جفافٍ خانق أدى إلى تراجع مستويات السدود والأنهار إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق.
ووصف الخبراء في شؤون المياه الأوضاع في إيران بأنها “إفلاس مائي”، موضحًا أن تبخر المياه وانهيار الأنظمة البيئية باتا يشكّلان ضررًا لا عودة عنه.
الجفاف يحاصر الاقتصاد
ولا يقتصر أثر الجفاف على الزراعة فحسب، بل يمتد إلى مختلف القطاعات الاقتصادية. فارتفاع درجات الحرارة يترك أثراً دائماً على الناتج المحلي الإجمالي، حيث يزيد من تكاليف التبريد واستهلاك الطاقة ويضغط على البنية التحتية للكهرباء والمياه. وفي قطاع البناء، يدفع ارتفاع الحرارة إلى تغيّر أنماط الطلب وتراجع إنتاجية العمال وارتفاع تكاليف الصيانة. كما ينعكس على قطاع الخدمات، من السياحة إلى النشاطات التجارية، التي تواجه تحديات في الزمن والتكلفة.
أما تراجع الأمطار فيترك عادة أثراً مباشراً وسريعاً على الاقتصاد المحلي عبر ضرب الإنتاج الزراعي والصناعات المائية وإمدادات مياه الشرب. ورغم أن بعض الفترات الجافة تُستبدل أحياناً بأمطار غزيرة قصيرة، فإن هذه الهطولات، رغم أنها قد توفر انتعاشاً مؤقتاً، لا تلبث أن تفسح المجال لعودة الضغوط المناخية.
ولم يقف الجفاف عند الاقتصاد، بل امتد إلى الصحة العامة والبنية التحتية. فقد تسبب الجفاف والتصحر في موجات من الغبار تؤثر في صحة نصف السكان الإيرانيين، كما ساهم في انتقال الأمراض الناتجة عن سوء التغذية نظراً لخسارة الأراضي الزراعية والمواسم.
قوة دافعة وراء الفجوة الاقتصادية بين المحافظات
ويحذر خبراء من أن استمرار مسار ارتفاع الحرارة وتراجع الأمطار لن يؤدي فقط إلى أزمة إنتاج ومياه، بل سيغيّر البنية السكانية والتنمية الاقتصادية في إيران. المحافظات الشرقية والجنوبية التي تعاني شحاً مائياً وضعفاً في البنية التحتية واعتماداً على الزراعة، ستتخلف أكثر عن ركب التنمية، فيما تتسع الفجوة الاقتصادية والاجتماعية مع المحافظات الشمالية والغربية الأكثر وفرة بالمياه.
وفي هذه الظروف، تبدو الهجرة المناخية الخيار الأكثر ترجيحاً أمام الأسر الإيرانية والقوى العاملة. التجارب العالمية تظهر أن الجفاف الطويل يقلص فرص العمل ويضعف جودة الحياة، ما يدفع السكان للانتقال نحو مناطق أوفر بالمياه وألطف مناخاً. وفي الحالة الإيرانية، قد يشهد البلد نزوحاً واسعاً من محافظات مثل سيستان وبلوشستان وكرمان وخراسان الجنوبية إلى محافظات الوسط والشمال وسواحل بحر قزوين، الأمر الذي سيضع ضغوطاً إضافية على البنى التحتية في مناطق الاستقبال، ويهدد بإفراغ القرى والمدن الصغيرة في مناطق المنشأ، وبالتالي إضعاف رأس المال الاجتماعي هناك.
اقرأ المزيد
ما الذي يجبر الإيراني على الهجرة من محافظة إلى أخرى “داخل بلاده”؟