من الصحافة الإيرانية: ألمانيا بين آلية الزناد ومليارات التجارة.. كيف ستحسم خيارها؟
تظهر تجربة ألمانيا مع آلية الزناد أن برلين، عند مواجهة خيار بين مصالحها الاقتصادية في طهران والالتزامات السياسية تجاه واشنطن وبروكسل، تختار غالباً الأخير.

ميدل ايست نيوز: منذ توقيع الاتفاق النووي عام 2015، لعبت ألمانيا، كإحدى أطراف الترويكا الأوروبية (ألمانيا، فرنسا وبريطانيا)، دوراً حاسماً في إدارة ومراقبة تنفيذ الاتفاق النووي الإيراني. ولم يأتِ هذا الدور البارز لألمانيا فقط بسبب موقعها في الاتحاد الأوروبي، بل أيضاً نتيجة الروابط الاقتصادية التقليدية مع إيران والدور التاريخي الذي لعبته في الترتيبات الأمنية عبر الأطلسي.
وقال سياوش قدوسي، خبير في الشؤون الدولية، في مقال نشره موقع دبلوماسي إيراني، إن برلين وجدت نفسها فيما يخص قضية آلية الزناد – الأداة المصممة بموجب قرار مجلس الأمن 2231 لإعادة فرض العقوبات الدولية – مضطرة للموازنة بين مستويين مختلفين من المتطلبات: مصالحها الاقتصادية في إيران والضغوط السياسية والأمنية من الولايات المتحدة وأوروبا.
منافع ألمانيا الاقتصادية في طهران؛ روابط تاريخية
تعود العلاقات الاقتصادية بين إيران وألمانيا إلى أوائل القرن العشرين. بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الشركات الألمانية من أوائل الشركاء الصناعيين لإيران، بدءاً من بناء محطات الطاقة وحتى تجهيز خطوط السكك الحديدية. وحتى في التسعينيات، كانت ألمانيا أكبر شريك تجاري لإيران في أوروبا.
وفي العقدين الأخيرين، وبعد توقيع الاتفاق النووي، استعاد هذا الرابط التاريخي حيويته. ففي عام 2017 تجاوز حجم التجارة بين البلدين 3 مليارات يورو. وانخرطت شركات مثل سيمنس في مجالات الطاقة والنقل، وبوش في الأجهزة المنزلية، وفولكس فاجن في صناعة السيارات بشكل جدي في السوق الإيرانية. وكانت إيران تشكل لسوق الصادرات الألماني سوقاً مكملًا، بفضل سكانها البالغ عددهم 80 مليون نسمة واحتياجاتها للتكنولوجيا المتقدمة.
لكن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق في عام 2018 وعودة العقوبات أوقف هذا المسار. لتغادر الشركات الألمانية إيران قبل استكمال تنفيذ عقودها بسبب التهديد بالعقوبات الثانوية، ما أبرز هشاشة العلاقة بين الاقتصاد والسياسة الخارجية لألمانيا تجاه إيران.
الضغوط السياسية ومعضلة آلية الزناد
هددت ألمانيا إيران مراراً بتفعيل آلية الزناد. لكنها خلال فترة مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل، جرت محاولات للحفاظ على الاتفاق النووي، أبرزها تصميم آلية إنستكس لتسهيل التجارة الإنسانية مع إيران، رغم فشلها عملياً بسبب ضغوط واشنطن ونقص القدرة الأوروبية، غير أنها أظهرت سعي برلين للحفاظ على حد أدنى من الاستقلالية.
مع ذلك، فرضت الأهمية السياسية للولايات المتحدة والافتقار إلى التنسيق الأوروبي الكامل على ألمانيا التوجه نحو مواقف صارمة أكثر من كونها وسيطاً محايداً. ومع وصول حكومة أولاف شولتس وتزامنها مع الحرب الروسية الأوكرانية، اتجهت السياسة الخارجية الألمانية نحو التوافق الكامل مع واشنطن، وأصبح ملف إيران يُنظر إليه بشكل متزايد كقضية أمنية، مما حد من قدرة برلين على المبادرة المستقلة.
من جهة أخرى، تبنى فريدريش ميرتس، زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي وأبرز منافس سياسي لشولتس، موقفاً مشابهاً تجاه إيران. وقد أكد ميرتس، الممثل للتيار التقليدي والأطلسي في السياسة الألمانية، على ضرورة أن تعمل ألمانيا في السياسة الخارجية «بتنسيق كامل مع الولايات المتحدة»، ما يشير إلى أن احتمال حدوث تحول جذري في السياسة الألمانية تجاه إيران ضئيل حتى مع تغيّر الحكومة، وأن خط التوافق مع واشنطن سيستمر.
الاقتصاد السياسي للتوازن؛ بين الفرصة والضغط
تشير تحليلات الاقتصاد السياسي لآلية الزناد إلى أن ألمانيا تواجه مأزقاً مزدوجاً:
- من جهة، تحتاج اقتصادياتها المصدرة إلى أسواق مثل إيران لتعويض جزء من أزمة الطلب الخارجي.
- ومن جهة أخرى، تمنع التبعيات الأمنية على الولايات المتحدة والضغوط التحالفية في الناتو والاتحاد الأوروبي برلين من استغلال هذه الفرصة.
بمعنى آخر، رغم أن إيران تمتلك قدرات مهمة للتعاون الاقتصادي مع ألمانيا – من الطاقة والنقل إلى السوق الاستهلاكية – فإن هيكل السياسة الخارجية الألمانية لا يسمح بتحويل هذه القدرات إلى واقع. وتعمل آلية الزناد كأداة ضغط سياسي ضد طهران، فبالرغم من تصميمها المبدئي للسيطرة على السلوك النووي الإيراني، إلا أنها تحولت عملياً إلى رمز لتضارب السياسة مع الاقتصاد.
الخلاصة؛ تعاون أم استمرار الضغوط؟
تظهر تجربة ألمانيا مع آلية الزناد أن برلين، عند مواجهة خيار بين مصالحها الاقتصادية في طهران والالتزامات السياسية تجاه واشنطن وبروكسل، تختار غالباً الأخير. ومع ذلك، تبقى الإمكانات الإيرانية – من موقعها الجيوسياسي كجسر بين الشرق والغرب إلى مواردها الطاقية الضخمة وسوقها الاستهلاكي الكبير – جذابة للاقتصاد الألماني.
فإذا تغيرت الظروف الدولية وسُهلت عودة إيران إلى الاقتصاد العالمي، يمكن لألمانيا أن تعود لتكون في طليعة الشركاء الأوروبيين لطهران. لكن على المدى القصير، يظل دور برلين في الترويكا أكثر أداة ضغط منه محرك تعاون، وهو ضغط تكلفته ليس على إيران فحسب، بل على الفرص الاقتصادية الضائعة لألمانيا أيضاً.



