روسيا تبحث عن دور في سورية الجديدة

من الصعب تغيير نظرة الشارع السوري نحو روسيا، فغالبية السوريين يحملون مشاعر غير إيجابية أو مختلطة تجاهها، ويُنظر إليها كحليف لنظام الأسد، تدخل إلى جانبه عسكرياً، واستفاد منه اقتصادياً، على حساب دماء السوريين ومصالحهم. 

ميدل ايست نيوز: عشر سنوات مرّت على التدخل العسكري الروسي في سورية، من الهيمنة المطلقة إلى منافس ضعيف على عكس السنوات الماضية. اليوم، 30 سبتمبر/ أيلول، تمرّ الذكرى العاشرة لبدء التدخل العسكري الروسي في سورية، وسط تساؤلات حول جدوى أول تدخل عسكري روسي مباشر خارج حدود الاتحاد السوفييتي بعد عام 1991. ومنذ سقوط نظام بشار الأسد نهاية العام الماضي، تحوّلت روسيا من اللاعب الأساسي سياسياً وعسكرياً في سورية، إلى مجرد لاعب يسعى للمحافظة على أكبر قدر ممكن من مكاسب عسكرية واقتصادية حصل عليها مقابل منع سقوط الأسد ومحافظته على الحكم، ما يطرح سؤالاً مفاده: هل فقدت روسيا سورية إلى الأبد؟

رغم الفارق الكبير في الظروف وحجم العمليات والخسائر والنتائج، تبرز مقارنات بين الفشل السوفييتي واضطرار الجيش الأحمر للانسحاب بعد عشر سنوات عجاف من غزو أفغانستان (جرت عملية انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان بشكل كامل خلال الفترة من 15 مايو/أيار 1988 إلى 15 فبراير/ شباط 1989)، وتراجع الوجود الروسي في سورية. وفيما تكشف تصريحات مسؤولي البلدين عن رغبة في بناء علاقات على أسس جديدة مبنية على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، وتستند إلى تاريخ طويل من العلاقات منذ عهد الإمبراطورية الروسية، والتي توطدت في الحقبة السوفييتية، فإن الانفتاح الأميركي والغربي عموماً على الحكم الجديد في دمشق، وعدم قدرة الكرملين على تقديم ما تحتاج إليه سورية في المرحلة الجديدة من تاريخها، وحجم الحِقد المتراكم لدى غالبية السوريين على السياسيات الروسية الداعمة للنظام السابق والتغطية على جرائمه، والهجمات العسكرية الروسية على البنى التحتية، كلّها أمور تُعطّل إمكانية نجاح روسيا في وقف عملية تموضع جيوسياسية في سورية نحو المحور الغربي الذي بات يملك معظم مفاتيح الحل. وبعد عقود طويلة من العداء، باتت سورية أقرب إلى الولايات المتحدة، بعدما أبدت إدارة الرئيس دونالد ترامب انفتاحاً ودعماً للحكم الجديد بقيادة أحمد الشرع، وتحولت واشنطن إلى الطرف الأساسي في رعاية العلاقات مع إسرائيل من جهة، والتوسط بين الحكم الجديد ومكونات إثنية وطائفية سورية ترفض حكم الشرع من جهة أخرى. كذلك تراجع دور روسيا، ووّلت أيام كانت فيها قاعدة حميميم مركز قرار أساسياً لتحديد مستقبل سورية، سياسياً وعسكرياً.

“إنجازات” عسكرية وإخفاق سياسي

اتخذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قراره بالتدخل في الصراع السوري خريف عام 2015، في وقت كان فيه نظام الأسد على وشك الانهيار أمام فصائل المعارضة. ساعدت الطائرات الحربية الروسية والمستشارون العسكريون الروس جيش النظام السابق في قلب الموازين على الأرض. في المقابل، حصلت روسيا على امتيازات، فعزّزت قاعدتها البحرية في طرطوس ووسّعتها، كما أنشأت قاعدة حميميم الجوية ووسّعتها، لتصبح القاعدتان نقطة ارتكاز أساسية للنفوذ العسكري الروسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

شكّلت سورية ساحة لتجريب مئات الصنوف من الأسلحة الروسية في ظروف حرب حقيقية، ما ساعدها في تطوير صناعاتها العسكرية، وزيادة صادراتها. وبحسب البيانات الرسمية، تدرّب عشرات آلاف الضباط والجنود، ومئات الجنرالات، في سورية.

ومكّنت الضربات الجوية الروسية الأسد وحلفاءه من استعادة قسم كبير من الجغرافية السورية. وبعد استعادة حلب نهاية 2016، شقّت روسيا مسار أستانة بالتعاون مع تركيا وانضمام إيران في مطلع 2017. وبمزيج من الاستخدام المفرط للقوة والصفقات الثنائية، ساعدت روسيا النظام على فرض سيطرته تدريجياً على معاقل المعارضة المسلحة في الغوطة الشرقية والقلمون ودرعا شمال حمص وجنوب اللاذقية، وحوصرت المعارضة في شمال حماة وإدلب وأرياف حلب، وتقلصت هذه المساحة مع هجمات النظام والإيرانيين في عامي 2018 و2020.

وفي مقابل “الإنجازات” العسكرية، وإعلان الانتصار أكثر من مرة، لم تستطع روسيا الوصول إلى تسوية سياسية تضمن الاستقرار وتمهّد لإعادة الإعمار وتحسين الاقتصاد. وعملياً، باتت البلاد منذ مطلع 2021 مقسّمة بين مناطق نفوذ لـ”هيئة تحرير الشام” في إدلب، و”قوات سورية الديمقراطية” (قسد) ذات الغالبية الكردية في منطقة الجزيرة السورية بدعم أميركي، وتقاسم النظام والمليشيات الإيرانية والتابعة لها مع الروس باقي المناطق.

طرحت روسيا مبادرات لحل سياسي في سورية، لكنّها لم تحقق أي تقدم في مواضيع كتابة الدستور وتنفيذ القرار 2254. ورغم نجاح الجهود الروسية في إعادة تسويق النظام عربياً، فإن تمسّك الأسد بإيران، واستمراره في تصدير مخدر الكبتاغون إلى البلدان العربية، وتصوّره بأن عودته إلى الحضن العربي جاءت من موقع قوة وبعد انتصاره على قوى الثورة، حدّت من الفوائد الاقتصادية والدبلوماسية الممكنة، ومهّدت لاحقاً إلى عدم معارضة تركيا والمحيط العربي أي عمل عسكري داخلي لإطاحة النظام، وترحيب شعبي بأي قوة يمكن أن تزيح نظام الأسد بعد تدهور حادّ في مستوى المعيشة.

روسيا تخسر استراتيجياً

من المؤكد أن فقدان سورية يعدّ هزيمة جيوسياسية قاسية للكرملين، ويلحق ضرراً جسيماً بصورة روسيا كقوة مؤثرة في منطقة الشرق الأوسط والعالم عموماً. وحتى سقوط نظام الأسد، روّجت بروباغاندا الكرملين للتدخل في سورية، على أنه مثال واضح عن استعادة النفوذ الروسي عالمياً. وصُوّرت عمليات القوات الجوية الروسية ضد تنظيم داعش كدليل على قوة روسيا في الخارج، ومنع وصول المعركة ضد الإرهاب إلى المدن الروسية.

وبعيداً عن الانعكاسات السلبية على مخططات التوسع الروسي في أفريقيا في حال خرجت روسيا من قاعدتي حميميم وطرطوس، وانتهاء حلم الوجود في المياه الدافئة، فإن المؤكد أن مسار الأحداث منذ سقوط الأسد أخرج موسكو أيضاً من دائرة التأثير في مسار الحل السوري. وبعدما كانت الطرف الأساسي في تمرير القرارات الكبيرة، مثل الهدن والإصلاح الدستوري عبر التنسيق الروسي التركي الإيراني، بات القرار الأساسي في يدي واشنطن والرياض وأنقرة وبروكسل.

فشل استخباري

وضعت سرعة تطوّر الأحداث في سورية (أعلنت عملية “ردع العدوان” من قبل فصائل المعارضة وعلى رأسها “تحرير الشام” في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، وسقط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول من العام ذاته)، بوتين، فعلياً، أمام أمر واقع. تردّد في الدخول في مواجهة مباشرة مع القوات المناهضة للأسد التي كانت في حالة تقدّم، واضطرت روسيا إلى إجلاء عشرات الدبلوماسيين وغيرهم من موظفي سفارتها في دمشق عبر أراضي لبنان المجاور. وبهذا، ثبتت صحة تقييمات الخبراء الذين كانوا يوجّهون انتقادات للمغامرة السورية لبوتين من وراء كواليس في وزارة الخارجية، مشبّهين إياها بالتجربة الأفغانية.

وبدا أن مغامرة الكرملين في سورية، حالها كحال الغزو السوفييتي لأفغانستان، انطلقت من حسابات غير دقيقة، ومن دون أهداف محددة واستراتيجية مستمرة واضحة. ومن سخرية القدر، أن كلا التدخلين استمرا قرابة عشر سنوات، وانتهيا بتراجع نفوذ روسيا في كلا البلدين.
وربما فاجأ تحرك المعارضة العام الماضي الروس. والأرجح أن خطأ الكرملين الأول أنه لم يؤمن بقدرة الفصائل المعارضة المتفرقة على توحيد صفوفها، ونيلها دعم الغرب. ويعود هذا الخطأ إلى تقصير أو خلل في نوعية التحليل السياسي في أجهزة الاستخبارات الروسية عموماً، وأداء جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي على وجه الخصوص.

والأرجح أن مسؤولي الملف السوري في روسيا لم يولوا انتباهاً أو قلّلوا من جدية ما صرّح به الممثل الخاص للولايات المتحدة لشؤون سورية في إدارة ترامب الأولى، جيمس جيفري، في مقابلة ضمن برنامج “فرونتلاين” على قناة “بي بي أس” في مارس/ آذار 2021. حينها، قال جيفري إن واشنطن “قد تنظر إلى هيئة تحرير الشام كأداة مفيدة في المعركة ضد الأسد”، واصفاً هذه الجماعة بأنها “أقل الخيارات سوءاً” في إدلب، ولم يستبعد أن تصبح الهيئة “أصلاً من أصول الاستراتيجية الأميركية” في الشرق الأوسط.

في اللقاء ذاته، أقرّ جيفري بأن مسؤولين رفيعي المستوى في واشنطن حصلوا على إعفاء خاص من وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو لتقديم المساعدة لـ”هيئة تحرير الشام”. ورغم أن الإعفاء لم يصل إلى حد السماح بتقديم الدعم والتسليح المباشر للمجموعة، إلا أن شروطه نصّت على أنه إذا انتهى الدعم الممول من الولايات المتحدة أو المقدم منها “بطريقة ما” في “أيدي” هيئة تحرير الشام أو فروعها المتطرفة للغاية، فلن يتم تحميل الجهات الغربية المسؤولية عن ذلك. وتكشف هذه التصريحات أن واشنطن لم تكن ضد دعم “الهيئة” بشكل غير مباشر رغم أنها تصنفها إرهابية. ويبرز الفشل الاستخباري الروسي في موقف واشنطن من صعود “الهيئة” وانفتاح إدارة ترامب على الحكم الجديد.

انفتاح متأخر

من الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها موسكو في سورية، عدم فتح حوارات جادة مع القوى السياسية التي يمكن الوثوق بها، واستمرارها في دعم الأسد سياسياً باعتباره قوة الأمر الواقع، وسعيها إلى إعادة تأهيله في محيطه الإقليمي بالعمل مع تركيا ودول الخليج العربي.

وفي مؤشر إلى صحوة متأخرة، كشفت تصريحات الرئيس السوري أحمد الشرع، في 12 سبتمبر/ أيلول الحالي، أن قوات “ردع العدوان” أجرت مفاوضات مع موسكو بعد وصولها إلى حماة وتعهّد الطرفان بـ”التزامات” ونفّذاها. وأكّد الشرع في المقابلة أن “سورية كانت واضحة منذ اللحظات الأولى في خريطة العلاقات الدولية، وهي لا تريد أن تكون مع أي دولة في العالم بحالة من القلق والتوتر، هذا من جهة سورية، أما الكرة فهي في ملعب الدول التي تريد أن تثير القلاقل والفتن داخل سورية، فبالتالي سورية تبحث عن هدوء تام في العلاقات مع كل دول العالم والمنطقة، وهذه سياسة واضحة كانت منذ اللحظات الأولى، بما فيها الدول التي كان لها موقف سلبي أثناء حكم النظام السابق، ومن بين هذه الدول كانت روسيا”.

وأضاف: “روسيا دولة مهمة في العالم، وتعتبر ثاني أقوى دولة في العالم تقريباً، وهي دولة عضو في مجلس الأمن، وهناك روابط وثيقة ما بين سورية وروسيا ولدت منذ نشأة سورية في عام 1946، ولذلك فإنّ الكثير من الأمور داخل الدولة السورية، لا ينبغي العبث في بنية الدولة من داخلها، وإذا أردنا أن نحوّل بعض المسارات يجب أن تحول ضمن استراتيجية هادفة، وألّا تكون هناك ردّات فعل في إدارة المشهد السوري، سورية لديها ارتباطات في الطاقة ولديها ارتباطات في الغذاء والسلاح، لديها ارتباطات متعددة مع روسيا سابقاً، ورثناها نحن تلقائياً، فينبغي الحفاظ عليها وإدارتها بطريقة هادئة ورزينة، خصوصاً أن سورية عليها عقوبات كثيرة ومتعددة، منها مرتبط بمجلس الأمن وروسيا تملك مقعداً دائماً في مجلس الأمن وصوتها يجب أن يكون هادفاً، كما أن روسيا دولة قوية ومن مصلحة سورية أن تكون لديها علاقات هادئة مع روسيا”، وتابع: “إذا بقينا ننظر إلى الماضي، فلا نستطيع أن نتقدم إلى الأمام، ينبغي أن نتجاوز عقبات الماضي، ونتعامل بديناميكية واسعة. في نهاية المطاف، إذا اتخذنا سياسات عدائية مع أي دولة بناءً على تاريخ ماضٍ وسابق، سنصل إلى مرحلة من المراحل، لا نستطيع أن نلغي هذه الدولة، ولا نستطيع أن نلغي أنفسنا. سنصل في النهاية إلى مرحلة وتكون هناك علاقات هادئة ومتوازنة. المهم أن نبني هذه العلاقات على أساس السيادة السورية واستقلال قرارها، وأن تكون المصلحة السورية أولاً”.

ولدى سؤاله عن المقارنة بين روسيا وإيران، قال الشرع: “هناك لفتة تاريخية نحن لم نتطرق إليها حتى الآن، نحن عندما وصلنا إلى حماة في معركة التحرير، جرت مفاوضات بيننا وبين روسيا، عند وصولنا إلى حمص، الروس في هذا الوقت ابتعدوا عن المعركة، يعني انسحبوا تماماً من المشهد العسكري، أكان بقصف الطائرات أو غير ذلك، ضمن اتفاق جرى بيننا وبينهم، هذا أثّر إيجابياً على المعركة، في ذلك الوقت الروس أعطوا التزامات معيّنة لسورية، ونحن أيضاً أعطينا التزامات، نحنا وفينا بها وهم أوفوا بها إلى هذه اللحظة، ولم يبد منهم أيّ تدخل سلبي في الشأن السوري، على العكس كان هناك تفاعل إيجابي خلال الفترات الماضية، أما بالنسبة لإيران فالجرح أعمق”.

ولدى سؤاله عن الالتزامات الروسية، وما إذا كان التفاوض مع الروس في معركة ردع العدوان قد جرى لدى وصول طلائع “ردع العدوان” إلى حماة، قال الشرع: “نعم”، وأضاف: “أنّ الالتزامات المتبادلة نُفّذت عند وصولنا إلى حمص”، وشرح: “في هذا الوقت، كنّا في بداية العمل العسكري، وأنا كنت أمام خيارات عدّة، وللأمانة والتاريخ أذكرها، كان بإمكاننا استهداف قاعدة حميميم وكل الطائرات الموجودة فيها، وأنا لديّ صور موثقة لهذا الأمر، كانت طائرات الاستطلاع التي كنّا نعمل (شاهين) بها تراقب الأجواء، في مطار حميميم، لكن الاستهداف المباشر كان سيدفع روسيا لكي تدخل بزخم أكبر في المعركة، ونحن درسنا الأمور، ورأينا أنه ليس هناك تمسّك بشخص النظام من الروس، ولكن هو لمصالح معتبرة عند الروس وعلاقات قديمة وتاريخية واستراتيجية مع سورية”.

وأضاف الشرع في المقابلة: “نحن أثناء التكتيك في العمل العسكري، عملنا على تشتيت الطيران الروسي، وأنا كنت أمام خيارين، إما أن نتحمل بعض القصف أو أن ندخل في مواجهة مباشرة مع الروس، وأنا ذهبت للخيار الثاني، تحملت بعض القصف مع حالة من التشتيت وسرعة التقدم التي كانت تحصل على أرض المعركة، انعكس ذلك على الطيران الروسي، وأصبح لديهم مجهولية في مواقع العدو من الصديق بالنسبة لهم، القصف لم يكن مركزاً منهم، فقد ميّزت الرؤية الأرضية، فالطائر من دون أن يكون لديه تحديث على الأرض، يكون تائهاً، فالنظام دخل في حالة من الهلع سريعاً، وكانت منظومة الاتصالات قد جرى اختراقها وضربها، وبعد سيطرتنا على حلب، بدأنا في فتح العلاقات والتواصل مع روسيا في ذلك الوقت، وكان الأمر على أن المصالح المرجوة من سورية قد تُحقّق، ولكن بشروط مختلفة عمّا كان عليه في الوضع السابق، ولا يعني دخولنا إلى دمشق أن هناك خروجاً لروسيا من سورية، على هذا المبدأ جرى القبول، مع الإنجازات التي تمّت على الأرض بصورة كبيرة”.

ولدى سؤاله عن تطور العلاقة السورية مع روسيا وتطورها مع الولايات المتحدة، وموقع سورية في إطار “سياسة الأحلاف”، قال الشرع إن سورية استطاعت أن تحقّق نسيجاً من العلاقات، وأن تقف على مسافة واحدة من الجميع.

ويمكن الحديث أيضاً عن عدم رغبة روسيا في إنقاذ الأسد الذي قابل الانفتاح العربي بتشدد واضح ومواصلة العلاقة مع إيران وتصدير الكبتاغون، وعدم انصياعه لطلبات الإصلاح الداخلي ومحاربة الفساد. بيد أنه يجب عدم إهمال عاملين أساسيين: الأول استنزاف موارد روسيا بسبب الحرب على أوكرانيا والعقوبات الغربية المفروضة عليها بسبب الحرب، ما قلّل من الاهتمام بالحرب السورية وتوجيهه للمعركة الأساسية في أوكرانيا. والثاني، تراجع نفوذ الكرملين على تركيا، ويأس الدول العربية من إمكانية إصلاح نظام الأسد وإبعاده عن إيران.

تغيرات جذرية

على عكس روسيا، حصلت الولايات المتحدة على ما كانت تسعى إليه، وسارعت إلى تقديم نفسها كراعٍ لـ”سورية الجديدة”. ووسط ارتباك روسي، بدأت واشنطن تقديم دعم لحكم الشرع.

ومنذ الربيع الماضي، بدأ واقع جديد في الشرق الأوسط. فسورية، التي كانت لعقود في المعسكر الموالي للاتحاد السوفييتي ثم روسيا، والتي اعتبرت إسرائيل والولايات المتحدة عدوين لها، لا تمانع من حيث المبدأ بحث السلام أو التطبيع مع إسرائيل، وأطلقت إدارة ترامب مساراً تاريخياً لتطبيع العلاقات بين الحكم الجديد وإسرائيل. ورغم أنه من المبكر الحديث عن تطبيع كامل للعلاقات، وانضمام الحكم الجديد إلى الاتفاقات الإبراهيمية، إلا أن المؤكد أن صفحة الدور الروسي في ضبط العلاقات السورية الإسرائيلية طويت مع دخول واشنطن القوي على الخط بين حكم جديد يريد فرصة لإعادة بناء بلاد دمّرتها الحرب، ومجرم الحرب (رئيس الحكومة الإسرائيلية) بنيامين نتنياهو الذي يريد انتهاز فرصة وجود أكبر داعم له تاريخياً في البيت الأبيض، مع فرصة سانحة لتحقيق مكاسب إضافية لفرض هيمنة إسرائيل على المنطقة، وتطبيع علاقاتها مع الجوار من دون تقديم تنازلات كبيرة في موضوع الأرض.

شراكة على أسس جديدة أم تحالف ضرورة؟

كشفت تصريحات المسؤولين الروس والسوريين، في ختام أول زيارة رسمية لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو نهاية يوليو/ تموز الماضي، عن رغبة جادة في إعادة تشكيل العلاقة السورية الروسية وفق أسس جديدة.

وبدا الحرص الروسي على بناء تطوير العلاقات مع الحكم الجديد في دمشق واضحاً مع استقبال بوتين الوفد السوري، وتجديد الدعوة للرئيس أحمد الشرع لزيارة موسكو والمشاركة في القمّة الروسية العربية في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.

في وقت لاحق، حملت تصريحات المسؤولين الروس والسوريين بعد زيارة نائب رئيس الحكومة الروسية ألكسندر نوفاك إلى دمشق في شهر سبتمبر الحالي رسالة واضحة مفادها أن دمشق لا تريد قطيعة مع موسكو، بل مراجعة للعلاقة، وإعادة التفاوض، وفق رؤية تؤمن بتوازن المصالح واستعادة القرار الوطني.

من الواضح أن الواقع السوري الجديد يفرض على روسيا التكيّف مع متغيرات لا تسمح بتمديد مبدأ “الحماية مقابل النفوذ” المتبع منذ التدخل العسكري في 2015. وتشي تصريحات الطرفين بأن مرحلة ما بعد الأسد تفرض منطقاً جديداً في العلاقات. فروسيا، التي خسرت كثيراً من أوراقها الدولية، بحاجة لإعادة تثبيت وجودها في سورية كشريك، لا كراعٍ أو متدخل. والحكومة السورية الجديدة، الساعية إلى الحفاظ على وحدة الأراضي السورية والسيادة عليها وإعادة بناء الاقتصاد، ترى ضرورة لسياسة خارجية تضمن التوازن والانفتاح على أطراف متعددة.

وبدا أن حكومة الشرع ترغب في التقرب من موسكو مع تصاعد الضغوط الأميركية والأوروبية على الحكومة السورية الجديدة لتقديم تنازلات لإسرائيل، مقابل وعود برفع كامل العقوبات وتسهيلات اقتصادية ودعم إعادة الإعمار. وربما تراهن موسكو على استمرار أدوارها السابقة في ضبط قواعد الاشتباك مع الإسرائيليين في الجنوب السوري، والدخول على خطّ المفاوضات بين دمشق وتل أبيب. في المقابل، فإن عودة ترامب ودعمه اللامحدود لنتنياهو وتغير وجه الشرق الأوسط مع انحسار إيران والجماعات المدعومة منها تقلل فرص روسيا في لعب أي دور بين سورية وإسرائيل.

تؤكد موسكو أنها مع بناء علاقة مع حكومة مركزية قوية تحكم كامل الجغرافيا السورية، مع استمرار الحوار مع المكونات الإثنية والطائفية، ويمكن أن تقدم عرضها لرعاية هذه الحوارات في موسكو أو حميميم أو القامشلي، وتعرض المساعدة في تنظيم الحوارات. ومؤكد أن هذا التعامل يروق للحكم الجديد الذي يركّز على العلاقات مع الخارج لتثبيت وجوده. في المقابل، فإن موسكو غير قادرة على إعادة تسليح الجيش السوري باحتياجاته خلال السنوات المقبلة بسبب حرب أوكرانيا وانعكاساتها على الأوضاع الأمنية في أوروبا لسنوات طويلة. ولا يمكن لروسيا تزويد الحكم الجديد بأسلحة تهدد أمن إسرائيل أو تغضبها. ومع خزينة فارغة تركها النظام السابق، وعدم عودة دورة النشاط الاقتصادي في سورية، تطرح أسئلة حول آليات الدفع لأي صفقات تسليح محتملة. كما أن واشنطن باتت تملك أوراقاً أقوى من موسكو في ملف التعامل مع المكونات السورية الإثنية والطائفية.

لا تملك روسيا الكثير لتقديمه في قضايا إعادة الإعمار والاستثمار في سورية، كما أن شركاتها لا تستطيع تقديم عروض منافسة للشركات الغربية، وعلى المدى المنظور لا يمكن الحديث عن تعاون اقتصادي، بل أقصى ما يمكن، هو مواصلة شحنات النفط والحبوب من روسيا إلى الموانئ السورية.

وفيما استطاع الحكم الجديد إقناع السوريين بأن الصمت عن الاعتداءات الإسرائيلية، ومحاولة الوصول إلى حلول سلمية، يصب في مصلحة البلاد للتركيز على إعادة الإعمار، من الصعب تغيير نظرة الشارع السوري نحو روسيا، فغالبية السوريين يحملون مشاعر غير إيجابية أو مختلطة تجاهها، ويُنظر إليها كحليف لنظام الأسد، تدخل إلى جانبه عسكرياً، واستفاد منه اقتصادياً، على حساب دماء السوريين ومصالحهم.

ومع انفتاح الشرع وحكومته على موسكو، ربما أثبت بوتين أن بلاده لم تخسر استراتيجياً في سورية، حين ردّ على صحافي أميركي، حول خسارة روسيا في سورية، في نهاية العام الماضي باستخدام عبارة شهيرة للكاتب مارك توين، قال فيها إن “الشائعات حول وفاتي مبالغ فيها كثيراً”. ورغم وجود وجه حق في تصريحات بوتين، والتقدم الناتج عن الزيارات الثنائية، فإن مستقبل العلاقات ما زال ضبابياً، ويرتبط بالتطورات الداخلية في سورية، وغايات الطرفين الحقيقية، وتداخلات مصالح الأطراف الإقليمية والدولية.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 × أربعة =

زر الذهاب إلى الأعلى