شرق المتوسط عند مفترق طرق… توترات متصاعدة أم نفوذ متجدد؟

أدى اكتشاف الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط خلال الخمسة عشر عاما الماضية إلى سلسلة من التطورات السياسية المهمة في المنطقة.

ميدل ايست نيوز: أدى اكتشاف الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط خلال الخمسة عشر عاما الماضية إلى سلسلة من التطورات السياسية المهمة في المنطقة، وأسهم في تشكيل بنية إقليمية فريدة. ويكمن جوهر هذه البنية في التعاون الوثيق بين مثلث: إسرائيل واليونان وقبرص، إلى جانب إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط في يناير/كانون الثاني 2019، والذي تلعب فيه مصر دورا قياديا.

ويضم المنتدى، إلى جانب الدول المذكورة، كلا من الأردن وإيطاليا وفلسطين، ويتخذ من القاهرة مقرا له. لم يكن غياب تركيا عن هذا الإطار أمرا عفويا، إذ برز هذا التكتل الإقليمي في جوانب عديدة كردّ فعل على السياسة التركية، التي اعتبرتها غالبية دول المنطقة عدائية ومتضاربة مع مصالحها. ومن الجدير بالذكر أن لبنان تلقى دعوة للانضمام إلى المنتدى، لكن لم يكن مفاجئا أنه لم يتمكن من ذلك، حتى بصفة مراقب (كما أُشير إلى ذلك بصورة غير معلنة). وعلى الرغم من الاضطرابات التي شهدتها المنطقة منذ ذلك الحين، فإن هذا التوافق الإقليمي حافظ إلى حد كبير على تماسكه، وهو ما يبدو لافتا خاصة في ظل التوترات العميقة التي فجرتها حرب غزة.

على مدى السنوات الماضية، سعت تركيا إلى تحدي هذا الواقع الإقليمي. وفي الآونة الأخيرة، نجحت في إعادة ترميم علاقاتها مع مصر ودول الخليج، ولا سيما السعودية والإمارات. كما شهدت العلاقات بين أنقرة وأثينا تحسنا ملحوظا. وقد منحت التحولات الإقليمية والدولية تركيا ثقة متجددة، وفي مقدمة هذه التحولات انهيار نظام الأسد وصعود أحمد الشرع إلى السلطة في دمشق، ناهيك عن عودة الرئيس ترمب إلى البيت الأبيض في ولاية ثانية.

سعت تركيا في وقت مبكر إلى الردّ على الترتيبات الإقليمية الجديدة، وذلك من خلال توقيعها اتفاقية مع ليبيا عام 2019 لترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة. فمنذ سقوط القذافي عام 2011، غرقت ليبيا في حرب أهلية وانقسام سياسي بين سلطتين متنافستين: الأولى في طرابلس، المعترف بها دوليا، والثانية في طبرق بقيادة الجنرال خليفة حفتر. وقد وُقعت اتفاقية الترسيم البحري مع حكومة طرابلس، ونصّت على تقسيم مساحات واسعة من البحر الأبيض المتوسط بين تركيا وليبيا، متجاهلةً بذلك جزيرة كريت. ولم يكن مستغربا أن ترفض الدول الإقليمية الأخرى والمجتمع الدولي الأوسع الاعتراف بهذه الاتفاقية.

في الأشهر الأخيرة، حققت أنقرة تقدما ملحوظا في علاقاتها مع حكومة طبرق، التي تبدو أقرب من أي وقت مضى إلى المصادقة على اتفاقية 2019. وقد سارعت اليونان إلى محاولة عرقلة هذه الخطوة، إذ زار وزير خارجيتها ليبيا مرتين مؤخرا، سعيا لاستمالة القاهرة التي ترفض أصلا الاتفاقية البحرية التركية-الليبية، لكن هذه الجهود لم تحقق نجاحا يُذكر حتى الوقت الحالي. وبسياسة محسوبة، عززت تركيا تواصلها مع الجنرال حفتر، رغم أنه لم يصادق رسميا على الاتفاقية البحرية حتى الوقت الحالي. واستفادت أنقرة من تراجع الدور المصري النسبي، على الرغم من أن ليبيا شكّلت تقليديا أولوية بارزة في حسابات الأمن القومي المصري. ومع تحسن العلاقات التركية-المصرية في الأعوام الأخيرة، لا يبدو أن القاهرة مستعدة للمخاطرة بتعريض هذا المسار الإيجابي للانتكاس في الوقت الراهن.

في الوقت نفسه، شهدت الأشهر الأخيرة تصاعدا في التوترات بين اليونان وتركيا. فقد اعترضت أنقرة على مشروع الربط الكهربائي بين اليونان وقبرص، مدّعية أن مساره يمر عبر مناطق تقع ضمن مياهها الاقتصادية. وأثار هذا الخلاف سلسلة من التحركات الدبلوماسية في بروكسل، إذ سعت أثينا إلى حشد دعم الاتحاد الأوروبي من أجل فرض قيود على تركيا.

من الواضح أن الهدف الأساسي لتركيا هو تقويض البنية الإقليمية التي تشكلت خلال الخمسة عشر عاما الماضية، والتي جرى خلالها استبعادها. ويُلاحظ أن الموقع الاستراتيجي لأنقرة قد تحسن خلال العامين الأخيرين، بفضل جملة من التطورات الجذرية، أبرزها التحولات في سوريا، وعودة الرئيس ترمب إلى السلطة، إضافةً إلى تزايد الاحتياجات الأمنية الأوروبية في ظل تراجع الالتزام الأميركي تجاه القارة وحلف “الناتو”. كما توظف أنقرة ورقة الهجرة، مستفيدة من القلق الأوروبي، ولا سيما الإيطالي، إزاء تصاعد موجات الهجرة غير النظامية القادمة من ليبيا، لتعزيز مكانتها الإقليمية.

علاوة على ذلك، ساهمت الزيارة الناجحة التي أجراها الرئيس أردوغان إلى واشنطن، وما بدا من انسجام شخصي واضح بينه وبين الرئيس ترمب، في تعزيز ثقة أنقرة بقدرتها على استعادة دورها في شرق البحر الأبيض المتوسط. وأسفرت الزيارة عن اتفاق يقضي باستمرار تركيا في استيراد الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة حتى عام 2045، إلى جانب صفقة لشراء 225 طائرة ركاب من طراز “بوينغ”. ورغم أن ملف مقاتلات “إف-35” لا يزال عالقا، فقد لمح الرئيس ترمب إلى إمكانية حله، مضيفا: “لكن أولا، على الرئيس أردوغان أن يفعل شيئا من أجلنا”. وتمكن الطرفان، كذلك، من تجاوز الخلافات المتعلقة بإسرائيل والأكراد في سوريا.

لا يزال القلق قائما من أن تؤدي هذه التحركات إلى تفاقم التوترات الإقليمية، خاصة بين أنقرة وأثينا. ويعود ذلك بالأساس إلى النزاعات حول تراخيص التنقيب في المياه المتنازع عليها في البحر الأبيض المتوسط، ولا سيما بالقرب من جزيرة كريت، إضافةً إلى الخلافات بشأن مشروع خط الربط الكهربائي الذي يُعد حيويا بالنسبة للاتحاد الأوروبي، والذي تعهّد بتخصيص 670 مليون يورو لتمويله. وفي هذا السياق، اعترضت تركيا قبل أسابيع قليلة سفينة أبحاث ترفع علم جبل طارق، كانت تجري مسوحات لقاع البحر من أجل الكابل المزمع إنشاؤه، وأجبرتها على العودة إلى موطنها.

ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان

ستتأثر التنافسات الإقليمية أيضا بالتحولات الجذرية الجارية في سوريا ولبنان. فمع استقرار نظام الشرع في دمشق، يُتوقع أن يسعى البلدان قريبا إلى إبرام اتفاقيات لترسيم حدودهما البرية والبحرية. وتكتسب هذه الحدود البحرية في البحر الأبيض المتوسط أهمية اقتصادية واستراتيجية كبرى. وتشير العلاقات الوثيقة التي تربط أنقرة بالشرع، إلى جانب ثقتها المتزايدة بنفسها، إلى أنها ستسعى للتأثير في مسار هذه المفاوضات بما يخدم تعزيز دورها في شرق المتوسط. ومن المؤكد أن لهذه التطورات انعكاسات مباشرة على مختلف دول المنطقة، ولا سيما إسرائيل واليونان وقبرص ومصر، فضلا عن أوروبا.

ومن بين هذه الأطراف، استأنفت قبرص ولبنان مؤخرا المفاوضات لاستكمال الاتفاقية البحرية الموقَّعة عام 2007، والتي لم يُصدَّق عليها بعد. ويسعى الجانبان إلى التوصل قريبا إلى اتفاق نهائي لا يُتوقع أن يثير عقبات كبيرة، فيما يكتسب هذا الاتفاق أهمية بالغة لكلا البلدين.

ومن المهم أيضا الإشارة إلى الجانب الفلسطيني في مجال الطاقة بالمنطقة، وتحديدا حقل الغاز “غزة مارين”، الواقع على بُعد نحو 35 كيلومترا من قطاع غزة. ويعد هذا الحقل ذا إمكانات كبيرة لفلسطين، شريطة توفر الظروف الملائمة لتسويقه تجاريا.

وقد برهنت إسرائيل على تفكير استراتيجي في قراءة المشهد الإقليمي، فبعد قطيعتها مع تركيا وتداعيات ما يسمى إعلاميا “الربيع العربي”، سارعت إلى المبادرة والاندماج في البنية الإقليمية الناشئة لشرق البحر الأبيض المتوسط. وقد أثبتت هذه الاستراتيجية جدواها على المستويين السياسي والاقتصادي: فعلى الرغم من التوترات القائمة في علاقاتها مع مصر والأردن، لم تُسجّل أي انهيارات كبيرة حتى الوقت الحالي. وبالمثل، لا تزال اليونان وقبرص تدعمان إسرائيل في بروكسل. وفوق ذلك، تُعد إسرائيل مصدرا بالغ الأهمية للغاز الطبيعي لمصر والأردن.

من الواضح أن مستقبل المنطقة سيتأثر إلى حد كبير بمصير الحرب الدائرة في غزة، وإمكانية اقتراب نهايتها في المستقبل القريب. وقد تفتح خطة ترمب لغزة  آفاقا جديدة للمنطقة ككل. فقد أصبح شرق البحر المتوسط خلال السنوات الخمس عشرة الماضية منطقة فرعية بالغة الأهمية، تلقى اهتماما دوليا واسعا، ومع ذلك لا يزال خطر تصاعد التوترات واندلاع الصراعات قائما على نحو مستمر.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
المجلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 × 5 =

زر الذهاب إلى الأعلى