الصحافة الإيرانية: برنامج الصواريخ و”دومينو الاستسلام”
في ظل عدم وجود موقف رسمي أميركي حول تحديد مدى الصواريخ الإيرانية، فإن الحديث في الداخل الإيراني عن "دومينو الاستسلام" ليس سوى وسيلة لإثارة المخاوف من التفاوض وحل النزاع بالطرق السلمية.

ميدل ايست نيوز: يقول المعارضون الإيرانيون للتفاوض الجاد مع الولايات المتحدة أو التوصل إلى اتفاق بشأن تخصيب اليورانيوم، إن مثل هذا المسار سيعرّض البلاد لما يسمونه “دومينو الاستسلام”، أي أنه بعد الملف النووي، ستُجبر إيران لاحقًا على إغلاق برنامجها الصاروخي أو فرض قيود مشددة عليه.
وفي هذا السياق، كتب علي لاريجاني في تغريدة على موقع “إكس” في 22 سبتمبر الماضي: “إصرار إيران ليس عبثًا. إن شرط تقييد مدى الصواريخ إلى أقل من 500 كيلومتر يعني التنازل عن القدرة الدفاعية أمام إسرائيل. أي إيراني غيور يمكن أن يقبل بمثل هذا القيد؟ الأمن القومي ليس مجالًا للمساومة”.
وكتب كوروش أحمدي، في مقال نشرتها صحيفة شرق، أنه من حيث المبدأ، لا خلاف على ما قاله لاريجاني. فبما أن إيران لا تمتلك قوة جوية حديثة، فإن الحفاظ على برنامجها الصاروخي يُعدّ ضرورة دفاعية. وأنا أتفق مع الرأي القائل إن على كل إيراني دعم هذا البرنامج والحفاظ عليه كوسيلة ردع ضد بعض الجيران الطامعين والمتربصين. لكن ما لا يزال غامضًا بالنسبة لي هو مصدر عبارة “تقييد مدى الصواريخ إلى أقل من 500 كيلومتر”.
ففي التوجيه الرئاسي الذي أصدره دونالد ترامب في الرابع من فبراير والمتعلق بإعادة فرض سياسة “الضغط الأقصى” (NSPM)، تحدث عن “منع” إيران من امتلاك القنبلة النووية والصواريخ العابرة للقارات، و”مواجهة” تسلحها التقليدي وبرنامجها الصاروخي.
أما ماركو روبيو، وزير الخارجية الأميركي، فقد صرّح في مقابلة مع قناة “فوكس نيوز” في الثاني من مايو بأن على إيران أن “تتوقف عن دعم الإرهابيين ومساعدة الحوثيين وصناعة الصواريخ بعيدة المدى والتخلي عن التخصيب”. ثم عاد روبيو في 15 سبتمبر، في مقابلة أجراها في إسرائيل إلى جانب بنيامين نتنياهو، ليتحدث عن برنامج إيران الصاروخي قصير ومتوسط المدى، قائلًا: “قبل أسابيع قليلة، أجرينا تعاونًا ومناقشات بشأن إيران ورغبتها في امتلاك ليس فقط سلاح نووي، بل أيضًا صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى قادرة على تهديد وجودنا في المنطقة وأمن الدولة اليهودية… وكذلك الزعماء العرب وأوروبا”.
لكن تصريحات روبيو هذه كانت حتى ذلك الحين مجرد تعبير عن القلق وذات طابع وصفي ولم تمثل موقفًا رسميًا للولايات المتحدة. بل يمكن اعتبارها إشارة إلى محاولات إسرائيل دفع واشنطن إلى تبني موقف أكثر تشددًا تجاه الصواريخ الإيرانية قصيرة ومتوسطة المدى. وتكتسب تصريحات روبيو أهميتها من كونه من أكثر المسؤولين الأميركيين تشددًا تجاه إيران.
وفي الأيام الأخيرة، نقلت صحيفة “واشنطن بوست” عن مسؤول أميركي لم يُكشف عن اسمه أن بلاده طرحت أربعة شروط هي: الدخول في مفاوضات مباشرة مع واشنطن، ووقف تخصيب اليورانيوم، وتقييد البرنامج الصاروخي، ووقف الدعم المالي للفصائل الإقليمية المتحالفة مع طهران.
وعليه، لم تُعلن الولايات المتحدة حتى الآن أي موقف رسمي بشأن تحديد سقف لمدى الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى الإيرانية، واقتصر موقفها حتى اللحظة على الدعوة لتقييد برنامج الصواريخ العابرة للقارات (مثل “قاصد” و”سلمان”) ومنع انتشار التكنولوجيا الصاروخية.
والاحتمال الوحيد لتصريحات لاريجاني هو أن يكون قد تلقى مثل هذا الطرح عبر قنوات غير معلنة، رغم أن الرسائل غير العلنية عادة ما تكون أكثر اعتدالًا من التصريحات الرسمية. ومع ذلك، لا توجد ضمانات. فلو استمر الوضع على ما هو عليه فقد يتحول السقف الذي طرحه نتنياهو — وهو 480 كيلومترًا — إلى موقف رسمي للولايات المتحدة مستقبلًا.
يُذكر أن ترامب خلال الأشهر الـ18 الأولى من رئاسته، أي قبل انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، كان يطالب بتعديله لا بإلغائه، وحتى بعد الانسحاب ظل يتحدث عن “إصلاح الاتفاق” دون أن يشترط وقف التخصيب بالكامل. وبين عامي 2021 و2024 كانت الولايات المتحدة لا تزال مستعدة لإحياء الاتفاق النووي، لكن مع تغير الظروف السياسية والعسكرية، أصبحت شروطها أكثر تشددًا.
وإذا مرت فترة إضافية من دون أي انفراج في التصريحات وفقدت إيران مزيدًا من أوراقها التفاوضية، فقد تُطالب واشنطن مستقبلًا بتقييد مدى الصواريخ عند 480 كيلومترًا. هذا ما حدث للعراق في تسعينيات القرن الماضي، حين فرض مجلس الأمن عبر القرار 687 سقفًا قدره 150 كيلومترًا لصواريخه، وتم لاحقًا تدمير الصواريخ التي تجاوزت هذا المدى بإشراف أميركي وبريطاني.
تجدر الإشارة إلى أن بعض الدول الأوروبية، خصوصًا فرنسا، لطالما أبدت قلقًا أكبر من واشنطن بشأن برنامج إيران الصاروخي، لكنها اكتفت بتصريحات عامة دون المطالبة رسمياً بفرض سقف محدد على مدى الصواريخ. ومع أن جزءًا من أوروبا يقع ضمن نطاق الصواريخ الإيرانية المتوسطة المدى، فإن موقفها قد يصبح في نهاية المطاف أكثر تشددًا من الموقف الأميركي. حتى الآن، تبقى إسرائيل الدولة الوحيدة التي طالبت رسميًا بتحديد مدى الصواريخ الإيرانية عند 480 كيلومترًا.
بناءً على ذلك، وفي ظل عدم وجود موقف رسمي أميركي حول تحديد مدى الصواريخ الإيرانية، فإن الحديث في الداخل الإيراني عن “دومينو الاستسلام” ليس سوى وسيلة لإثارة المخاوف من التفاوض وحل النزاع بالطرق السلمية.
وقد أثبتت تجربة الاتفاق النووي أن التفاوض والتوصل إلى اتفاق في مجال ما لا يعني بالضرورة أن الطرف الآخر سيتجه إلى فرض تنازلات في مجالات أخرى. إن فرضية “دومينو الاستسلام” تقوم على غياب الإرادة واعتبار الحوار مرادفًا للاستسلام. وقد استُخدمت هذه النظرية أيضًا في الشأن الداخلي الإيراني، حيث تم تصوير التراجع عن “دوريات شرطة الأخلاق” مثلًا كخطوة أولى نحو سلسلة من التراجعات الأوسع في ملفات أخرى.