تركيا تعيد رسم خريطة الطاقة: هل تفقد إيران سوقها الغازي؟
تمر تركيا بأحد أكبر التحولات في قطاع الطاقة في تاريخها، فيما يُطلق عليه "الثورة الغازية"، التي لا تعيد تشكيل أنماط الاستهلاك وهيكلية توريد الطاقة داخل البلاد فحسب، بل قد تغير أيضًا معادلات تصدير الغاز في المنطقة.

ميدل ايست نيوز: تمر تركيا بأحد أكبر التحولات في قطاع الطاقة في تاريخها، فيما يُطلق عليه “الثورة الغازية”، التي لا تعيد تشكيل أنماط الاستهلاك وهيكلية توريد الطاقة داخل البلاد فحسب، بل قد تغير أيضًا معادلات تصدير الغاز في المنطقة.
وحسب تقرير لصحيفة “دنياي اقتصاد” الإيرانية يأتي هذا التحول نتيجة سلسلة من القرارات الاستراتيجية في سياسة الطاقة التي تنتهجها أنقرة، بدءًا من الاستثمارات الضخمة في استكشاف واستخراج الغاز في البحر الأسود، وصولاً إلى تطوير محطات استقبال الغاز المسال وتوقيع عقود طويلة الأمد مع منتجين أمريكيين.
تسعى أنقرة من خلال هذه المشاريع إلى أن تصبح، خلال سنوات قليلة، واحدة من الدول القليلة في المنطقة القادرة على تلبية الجزء الأكبر من احتياجاتها دون الاعتماد على خطوط أنابيب الدول المجاورة. في هذا السياق، تنتقل تركيا فعليًا من موقع “الزبون” في سوق الغاز إلى دور “الفاعل والموزع الإقليمي”، وهو تحول سيفرض ضغوطًا إضافية على مصدري الغاز التقليديين إلى تركيا، بما في ذلك إيران وروسيا. وأكدت السلطات التركية مرارًا أن هدفها النهائي هو تحقيق “الأمن الطاقي” وتقليص النفوذ السياسي للدول المصدرة على سوقها الداخلي.
في حال تحقق هذه الاستراتيجية، قد تصل تركيا بحلول نهاية عام 2028 إلى مرحلة لا تحتاج فيها إلى غاز إيران أو حتى روسيا، وهو سيناريو سيغير جذريًا علاقات الطاقة بين الدول الثلاث، وسيكون له تبعات اقتصادية وجيوسياسية وخيمة بالنسبة لطهران، خاصة من حيث الإيرادات الارزية والنفوذ الجيوسياسي. فبالنسبة لإيران، التي تصدر جزءًا من غازها إلى تركيا منذ أكثر من عقدين، قد يعني هذا التحول خسارة أحد المسارات التصديرية القليلة الموثوقة.
تحديات إيران في مواجهة التغيرات
على مدى العقدين الماضيين، كانت إيران واحدة من الموردين الرئيسيين الثلاثة للغاز إلى تركيا. وبموجب عقد يعود إلى عام 2001، تصدر إيران حوالي 10 مليارات متر مكعب من الغاز سنويًا عبر خط أنابيب إلى تركيا، وهو عقد ينتهي منتصف العام المقبل دون أي مؤشرات واضحة على تجديده. وتشير مصادر مطلعة في صناعة الغاز التركية إلى أن أنقرة، على عكس السابق، لا تبدي اهتمامًا كبيرًا بتجديد العقد لمدة طويلة، مفضلةً إبرام اتفاقيات أقصر مدى وأكثر مرونة للاستفادة من وفرة الغاز المسال وانخفاض أسعاره في السوق العالمية.
تواجه إيران تحديات كبيرة في هذا السياق، حيث تعيق العقوبات المالية ونقص البنية التحتية للتصدير قدرتها على المنافسة مع الموردين الجدد. وعلى عكس روسيا، لا تملك إيران قدرة على تصدير الغاز المسال، مما يجبرها على الاعتماد فقط على خطوط الأنابيب البرية. في المقابل، تعمل تركيا على زيادة قدرتها على استيراد الغاز المسال من الولايات المتحدة وقطر والجزائر، مما يضعف تدريجيًا مكانة إيران في سوق الغاز التركي، وقد يؤدي إلى خسارة أحد آخر أسواقها المستقرة.
وفرة الغاز المسال عالميًا
يقول صبحت قربوز، خبير في المنظمة المتوسطية للطاقة والمناخ في باريس: “ستستفيد تركيا من وفرة الغاز المسال عالميًا لتنويع هيكلية توريد الطاقة لديها. الموردون التقليديون مثل إيران، الذين لا يملكون قدرة على تصدير الغاز المسال، سيتضررون أكثر من غيرهم.” في السنوات الأخيرة، تسارعت وتيرة جهود تركيا نحو الاكتفاء الذاتي وتنويع مصادر الطاقة.
وتهدف شركة “TPAO” الحكومية، من خلال تطوير حقل سكاريا الغازي في البحر الأسود، إلى رفع الإنتاج المحلي إلى أكثر من 15 مليار متر مكعب سنويًا خلال ثلاث سنوات. في الوقت ذاته، طورت تركيا محطات استيراد الغاز المسال في موانئ مرسين وعلي آغا، لتصل طاقتها الاستيرادية إلى حوالي 58 مليار متر مكعب سنويًا، وهو رقم يفوق إجمالي استهلاك تركيا السنوي.
الضغوط السياسية وتأثير واشنطن
تتزامن هذه التغيرات مع ضغوط واضحة من واشنطن لتقليص اعتماد تركيا على روسيا وإيران. ففي لقاء عقد في 25 سبتمبر بالبيت الأبيض، دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الحد من استيراد الغاز من البلدين الشرقيين وزيادة الواردات من الولايات المتحدة. وبعد أسابيع قليلة، وقّعت تركيا عقدًا مدته 20 عامًا بقيمة 43 مليار دولار مع شركة “ميركوريا” الأمريكية لاستيراد الغاز المسال، في خطوة فتحت آفاقًا جديدة لعلاقات الطاقة بين أنقرة وواشنطن.
لكن إيران ليست الوحيدة المتضررة من هذا التحول. فقد تراجعت حصة روسيا في سوق الغاز التركي من أكثر من 60% قبل عقدين إلى حوالي 37% في النصف الأول من عام 2025. ومع اقتراب انتهاء عقود روسيا طويلة الأمد لتصدير 22 مليار متر مكعب عبر خطي أنابيب “بلو ستريم” و”ترك ستريم”، تشير مصادر تركية إلى أن الحكومة ستفرض شروطًا أكثر صرامة عند تجديد هذه العقود.
الفارق بين إيران وروسيا
مع ذلك، يتمتع الروس بميزة كبيرة مقارنة بإيران، حيث يملكون أدوات أكثر فعالية للحفاظ على نفوذهم. تقدم روسيا أسعارًا تنافسية، وتلعب دورًا في مشاريع رئيسية في تركيا مثل بناء محطة “آق قويو” النووية وتوريد النفط الخام، مما يخلق اعتمادًا متبادلاً يحول دون اتخاذ أنقرة قرارات متسرعة تجاه موسكو. في المقابل، تفتقر إيران إلى أدوات تفاوض قوية، سواء من حيث التسعير أو القدرة الفنية والمالية لتطوير الصادرات. وفي حال عدم تجديد العقد الحالي، ستخسر طهران الجزء الأكبر من صادراتها الغازية، مما سيجبرها على الاكتفاء بالاستهلاك المحلي أو الأسواق الصغيرة ذات البنية التحتية الضعيفة.
مستقبل غامض
أكد ألب أرسلان بيرقدار، وزير الطاقة التركي، في مقابلة تلفزيونية في أكتوبر، أن “تركيا يجب أن تستورد الغاز من جميع المصادر، من روسيا إلى إيران والولايات المتحدة”. لكنه أشار في الوقت ذاته إلى أن الغاز المسال الأمريكي يُعد خيارًا أكثر جاذبية من حيث السعر والمرونة، في إشارة واضحة إلى توجه سياسة الطاقة التركية المستقبلية.
إن التطورات الجديدة في سياسة الغاز التركية ليست مجرد تغيير في مسارات استيراد الطاقة، بل تعكس إعادة توازن القوى في سوق الغاز الإقليمي. تستغل أنقرة بذكاء التنافس بين قوى الطاقة العالمية، من الولايات المتحدة وروسيا إلى إيران وقطر، لضمان أمنها الطاقي طويل الأمد والتحول إلى فاعل مستقل في معادلات الطاقة العالمية. هذا التحول، الذي يبدو اقتصاديًا في ظاهره، هو في جوهره جيوسياسي، إذ كلما قل اعتماد تركيا على خطوط الأنابيب الشرقية، سينحسر النفوذ السياسي لطهران وموسكو فيها، بينما يتعزز حضور الولايات المتحدة في سوق الطاقة التركي، مما يقوي حلقة نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط وشرق المتوسط.
بالنسبة لإيران، التي تعاني من غياب تكنولوجيا الغاز المسال وقيود العقوبات، فإن خسارة السوق التركية قد تكون الضربة القاضية لصادراتها الغازية، وهي ضربة لن تكون مدمرة من الناحية الاقتصادية فحسب، بل ستؤثر سلبًا على موقعها الجيوسياسي في المنطقة. في هذا السياق، فإن “ثورة الغاز التركية” ليست مجرد إعادة هيكلة لقطاع الطاقة في بلد واحد، بل هي نقطة انطلاق لإعادة رسم خريطة الطاقة في الشرق الأوسط، خريطة قد تدفع إيران إلى هامش معادلات الغاز الإقليمية.



