الصحافة الإيرانية: المسافة بين الواقع وأوهام ترامب

يدرك بنيامين نتنياهو جيداً طبيعة شخصية ترامب، ويعلم أنه مولع بالاستعراض وبالحصول على المديح وأنه يعلن النصر قبل حدوثه، ولهذا يستغل ذلك للحصول على مكاسب إضافية، من دون اكتراث بما قد تؤول إليه الأوضاع لاحقاً.

ميدل ايست نيوز: قبل سنوات عديدة كتب الفرنسي “تييري ديسغاردين” في كتابه “مئة مليون عربي” جملة لافتة قال فيها: “السلام الحقيقي سيدمر الصهيونية. إسرائيل في معرض خطر السلام — هذا الشعار كان ناجحاً”. واليوم، يعتقد دونالد ترامب، مستنداً إلى مجازر غزة بحق المدنيين العُزّل، وإلى نزعة تل أبيب المستمرة في التوسع والاحتلال، أنه قادر من خلال زيارته لإسرائيل وحضوره قمة القاهرة على إقرار “مبادئ وثيقة السلام” بمشاركة قادة ورؤساء أكثر من عشرين دولة من المنطقة والعالم. لكن بالنظر إلى تاريخ الشرق الأوسط الممتد لأكثر من سبعة عقود وتجارب الصراع فيه، هل يمكن، كما يتخيل ترامب، الحديث بتفاؤل عن إقامة سلام حقيقي؟ خصوصاً وأن إدارة ترامب قد رسخت أمام الرأي العام العالمي، ولا سيما شعوب المنطقة، “ازدواجية المعايير” في سياسات واشنطن تجاه دول الشرق الأوسط أكثر من أي وقت مضى.

يكمل جلال خوش جهره، الصحفي والكاتب إيراني، كتابته في مقال نشر على موقع وكالة برنا للأنباء، أن مشكلة ترامب تكمن في تعامله مع أزمات العالم الراهنة — من حرب أوكرانيا إلى حروب غزة ولبنان وإيران وغيرها — في تبسيطه المفرط للمسائل وخلطه للحقائق، وهو ما يجعل أي جهود دبلوماسية أو عسكرية لاحقة عاجزة عن تحقيق نتائج واقعية. فالتفاؤل المفرط لدى ترامب يسير بوتيرة أسرع بكثير من وتيرة التقدم العملي على أرض الواقع في أي ملف من هذه الملفات. والسؤال البسيط هنا: هل وقف الحرب في غزة وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى حركة حماس مقابل الإفراج عن عشرات الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، يمكن أن يقود إلى سلام دائم في المنطقة؟ أم أن ما يحدث لا يتعدى وقفاً هشاً ومؤقتاً لإطلاق النار في حرب قاسية؟

في الكنيست الإسرائيلي، تحدث ترامب بغرور عن “النجاحات الميدانية” التي حققها مبعوثه الخاص “ستيف ويتكوف” في مساعي وقف حرب غزة، وذهب إلى حد مقارنته بـ“هنري كيسنجر”، وزير الخارجية الأميركي الأسبق. كيسنجر، الذي لعب دوراً حاسماً في إنهاء نحو خمس حروب عربية إسرائيلية، قاد دبلوماسية انتهت باتفاق “كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل، وتميزت قدرته بالتحرك بين الأضداد السياسية. لكنه، رغم ذلك، كان يدرك بعمق طبيعة السياسة التوسعية الإسرائيلية وطغيان التيار الصهيوني الأرثوذكسي على حكومات تل أبيب، ولذلك رأى أن أقصى ما حققه هو دور “رجل الإطفاء” الذي يطفئ نيران الصراعات مؤقتاً لا أكثر. وقد أقر لاحقاً بأن نهج واشنطن القائم على المعايير المزدوجة هو السبب الجوهري في بقاء أزمات الشرق الأوسط بلا حل، وأن أي تسوية دائمة غير ممكنة ما لم يُجر إصلاح جذري في تلك المعايير.

السؤال اليوم: هل أحدث ترامب، في إطار تفاؤله المفرط وطرحه لـ“سلام قائم على القوة”، أي تغيير فعلي في النهج التقليدي لواشنطن القائم على ازدواجية المعايير؟ أم أن خريطته السياسية لا تزال تستند إلى الأدوات ذاتها التي يتقاسمها مع تل أبيب؟ كيف رُسمت نهاية الحروب في غزة ولبنان وأوكرانيا، فضلاً عن الصراع مع طهران؟ وهل ما أعلنه ترامب بفخر — من أن المرحلة التالية بعد غزة ستكون وقف الحرب في أوكرانيا — أمر قابل للتحقق فعلاً، أم أنه مجرد وعود وردية لا تختلف عن زخات كلماته المفعمة بالثقة؟

تجربة لقائه الثنائي في ألاسكا مع فلاديمير بوتين لا تزال حاضرة في الأذهان. فروسيا وبوتين ليسا كحماس أو سكان غزة، اللذين يعانيان من اختلال ميزان القوى، كي يرضخا بسهولة لإرادة واشنطن المفروضة بالقوة.

الأهم من ذلك، التحديات التي سترافق أي وقف إطلاق نار في غزة. أولها: هل ستقبل دول وشعوب المنطقة بادعاء تل أبيب أنها القوة الإقليمية المهيمنة؟ وثانيها: ما مستقبل غزة السياسي، ومصير سلاح حماس، والترتيبات الأمنية في القطاع والضفة الغربية؟ ثم إلى أي مدى ستسير أوروبا والدول العربية خلف واشنطن في تنفيذ سياستها؟ وأخيراً، ما حدود قدرة شعوب المنطقة على تحمّل نتائج “الهندسة السياسية” الأميركية الإسرائيلية الجديدة؟

وهناك قضية إضافية يُتوقع أن تتحول قريباً إلى أزمة جديدة: فالدول العربية، مثل مصر والأردن، قد تعتقد أن إسرائيل — على الأقل في المدى القصير — لا تنوي الدخول في حرب مباشرة معها، لكنها تدرك تماماً أن واشنطن وتل أبيب تسعيان إلى “رمي الكرة” في ملعبها، أي دفع الفلسطينيين في غزة إلى النزوح نحو أراضي تلك الدول، ما يعني عملياً نقل أزمة اللاجئين الفلسطينيين إلى داخل حدودها وأنظمتها الأمنية.

وعلى عكس تفاؤل ترامب المفرط، فإن واقع الشرق الأوسط وصراع إسرائيل مع الفلسطينيين، وما يرتبط به من علاقات عربية إسرائيلية، لا يزال بعيداً كل البعد عن الرؤية المثالية التي يروج لها تحت مسمى “اتفاقات أبراهام”. فبنيامين نتنياهو يدرك جيداً طبيعة شخصية ترامب، ويعلم أنه مولع بالاستعراض وبالحصول على المديح وأنه يعلن النصر قبل حدوثه، ولهذا يستغل ذلك للحصول على مكاسب إضافية، من دون اكتراث بما قد تؤول إليه الأوضاع لاحقاً.

تابع ميدل ايست نيوز على التلغرام telegram
المصدر
ميدل ايست نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة + 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى