لغز في المياه… أسطول الشبح الإيراني يضيء ثم يختفي
في مشهد غير مألوف أربك غرف المراقبة البحرية وأسواق الطاقة في آن واحد، أضاءت فجأة عشرات النقاط على خرائط التتبع العالمي في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.

ميدل ايست نيوز: في مشهد غير مألوف أربك غرف المراقبة البحرية وأسواق الطاقة في آن واحد، أضاءت فجأة عشرات النقاط على خرائط التتبع العالمي في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. تبين أن هذه النقاط تمثل ناقلات النفط الإيرانية التي لطالما أبحرت في الظل، مختفيةً عن الأقمار الصناعية منذ سنوات طويلة، لتجنب العقوبات الأميركية، ضمن ما يعرف بـ “الأسطول الشبح”.
ولأول مرة منذ أكثر من سبع سنوات، بدأت هذه الناقلات بث إشارات نظام التتبع الآلي جماعياً، معلنةً عن مواقعها في الخليج العربي والمحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي. ثم اختفت تماماً بعد ثلاثة أيام فقط، تاركة وراءها عشرات الأسئلة التي لم تجد إجابة حتى الآن. ولم يكن ذلك حدثاً عابراً في سجل حركة السفن، إذ إن تشغيل أنظمة التتبع، ولو لبضع ساعات، يعني في لغة الملاحة البحرية كشف الهوية التجارية والسيادية، وهو ما يتعارض كلياً مع الاستراتيجية التي بنت عليها إيران اقتصادها النفطي خلال العقد الأخير. فهل كان ذلك خطأ فنياً، أم رسالة سياسية محسوبة، أم مناورة اقتصادية متقنة هدفها إعادة التفاوض على هامش الربح مع المشترين الآسيويين؟
إيران تُظهر ناقلاتها مجددًا.. مؤشر على تفاهمات خفية أم تمهيد لرفع جزئي للعقوبات؟
أسطول الشبح
منذ إعادة فرض العقوبات الأميركية على إيران عام 2018 بعد انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب (خلال فترة ولايته الأولى) من الاتفاق النووي، أصبحت شركة ناقلات النفط الوطنية الإيرانية في قلب استراتيجية الالتفاف على العقوبات. واعتمدت الشركة على ما يعرف بـ “الأسطول الشبح”، وهو مجموعة من 88 ناقلة نفط تبحر دون بث إشارات مواقعها، أو تغير هوياتها وأعلامها مراراً لتجنب الرصد الدولي. وبحسب موقع تانكر تراكرز، فإن معظم هذه العمليات تتم في المنطقة الاقتصادية الماليزية والإندونيسية، حيث تنتقل الشحنات إلى ناقلات وسيطة قبل أن تشق طريقها شرقاً نحو الصين.
لكن ما حدث في منتصف أكتوبر مثّل تحولاً غير متوقع. فقد سجلت “ويندوارد”، المتخصصة في تحليل حركة السفن، أن 52 ناقلة من أصل 88 ناقلة إيرانية بدأت فجأة في بث إشارات التتبع بين 12 و14 أكتوبر الجاري، في حركة جماعية شملت مناطق من جزيرة خرج الإيرانية في الخليج، مروراً بمضيق سنغافورة، ووصولاً إلى المياه القريبة من الصين. حتى تسع ناقلات عملاقة كانت تبث إشارات نشطة أثناء تمركزها داخل المنطقة الاقتصادية لماليزيا، وهي منطقة توصف بأنها “ملاذ عائم” لتخزين النفط الخاضع للعقوبات وإعادة شحنه.
ووصفت “ويندوارد” ما حدث بأنه توقف مفاجئ لعمليات الإخفاء الطويلة المعتادة التي قد تمتد لأكثر من 30 يوماً. وأضافت أن التشغيل المتزامن لأجهزة التتبع في أكثر من منطقة بحرية في آن واحد يمثل ومضة شفافية غير مسبوقة منذ 2018. ولم تدم تلك الشفافية المؤقتة طويلاً، فبعد ثلاثة أيام فقط، بدأت الإشارات تختفي تدريجياً.
وبحسب تقرير لموقع جي كابتن، أول من أمس الثلاثاء، فإن الأسطول الإيراني بأكمله عاد إلى حالة الصمت الرقمي الكامل بحلول 17 أكتوبر، باستثناء ناقلة واحدة فقط واصلت بث موقعها. وأكدت “ويندوارد” أن هذه النافذة الزمنية القصيرة من الرؤية البحرية جاءت بعد أقل من ثلاثة أسابيع من إعادة تفعيل العقوبات الأممية على إيران بموجب آلية “العودة التلقائية” التي أقرها مجلس الأمن. كما تزامن الحدث مع حملة ماليزية جديدة لتشديد الرقابة على عمليات النقل البحري غير النظامية في منطقتها الاقتصادية الخالصة.
شبكة تصدير خفية
تأتي هذه الواقعة بينما تشير بيانات دولية إلى أن إيران، رغم العقوبات، تشهد أعلى معدلات إنتاج وتصدير منذ عام 2017. فبحسب “تانكر تراكرز”، بلغت صادرات طهران في سبتمبر/ أيلول 2025 نحو 1.95 مليون برميل يومياً، وهو مستوى لم يتحقق منذ توقيع الاتفاق النووي قبل ثمانية أعوام.
كما أكدت إدارة معلومات الطاقة الأميركية أن الإنتاج الإيراني ارتفع إلى 3.45 ملايين برميل يومياً، بزيادة قدرها 250 ألف برميل عن أغسطس/ آب 2025 و50 ألفاً عن يناير/ كانون الثاني 2017، أي قبل بدء حملة الضغط الأقصى الأميركية. وتكشف هذه الأرقام أن إيران تصدر الآن كميات تفوق صادرات ليبيا ونيجيريا مجتمعتين، ما يبرز نجاحها في إدارة شبكة تصدير خفية متقنة تتجاوز الرقابة الأميركية عبر مسارات بحرية معقدة.
وتشير بيانات شركة كيبلر (Kpler) لتحليل البيانات النفطية إلى أن الوجهة الأساسية للنفط الإيراني هي الصين، حيث تشتريه ما يعرف بـ “مصافي الغلايات الصغيرة”، وهي مصافٍ مستقلة غير خاضعة للشركات الحكومية الكبرى. وتشتري هذه المصافي الخام الإيراني بأسعار منخفضة للغاية تصل إلى خصم 8 – 10 دولارات للبرميل مقارنة بخامات الشرق الأوسط الأخرى.
وتقوم تلك المصافي بإعادة تكريره وبيعه على شكل منتجات نفطية مكررة، وغالباً ما تدخل الأسواق العالمية لاحقاً من دون الإشارة إلى مصدرها الإيراني. ووفقاً للبيانات، فإن 80% من صادرات النفط الإيراني المنقولة بحراً تخضع لعمليات نقل من سفينة إلى أخرى قبل وصولها إلى وجهتها النهائية، في حين أن بعض الشحنات تخضع لعمليتين أو ثلاث عمليات إعادة شحن لتضليل المراقبة. وهذا يعني أن كل رحلة إلى الصين تستغرق في المتوسط عشرة أسابيع بدلاً من ثلاثة فقط، ما يرفع التكلفة التشغيلية ويقلص هامش الأرباح.
لماذا أضاءت الناقلات؟
لم يكن قرار تشغيل أجهزة التتبع مجرد حدث عابر في سجلّ الملاحة، بل إشارة غامضة حملت في طيّاتها أبعاداً سياسية واقتصادية وأمنية متشابكة. وفي غياب تصريح رسمي من الحكومة الإيرانية، انقسم المحللون بين ثلاث قراءات محتملة، كل منها يقدم تفسيراً مختلفاً لمغزى هذا الظهور العابر. قراءة ترى في الخطوة رسالة دفاعية مرتبطة بالعقوبات الأممية، وأخرى تربطها بضغوط صينية متزايدة، وثالثة تنظر إليها من زاوية الحسابات الاقتصادية البحتة التي باتت تتحكم في سلوك الأسطول الإيراني.
أول الاحتمالات التي طرحها خبراء الطاقة تتعلّق بخوف إيران من إعادة فرض العقوبات الأممية الكاملة. فبحسب المحلل همايون فلكشاهي من شركة كيبلر، فإن تشغيل أنظمة التتبع ربما كان رسالة استباقية لتفادي أي مبرر قانوني يتيح اعتراض الناقلات أو تفتيشها في أعالي البحار. وقال فلكشاهي إن إيران تدرك أن تعطيل أجهزة التتبع خرق لقواعد المنظمة البحرية الدولية، ويمكن استخدامه ذريعة لتوقيف السفن بموجب القانون الدولي البحري. وبالتالي، قد يكون تشغيل الأنظمة خطوة مؤقتة لإظهار أن الشحنات نفطية مشروعة وليست ذات طبيعة عسكرية أو نووية، ما يجعل أي عملية مصادرة غير مبررة قانونياً.
ويتعلق الاحتمال الثاني بالعلاقة التجارية المعقدة بين إيران والصين. فقد نقلت مصادر مطلعة لوكالة ABNA الإيرانية أن بكين بدأت تمارس ضغطاً تدريجياً على طهران لضمان التزام ناقلاتها بمعايير الحد الأدنى من الشفافية المطلوبة لشركات التأمين الصينية. وتشير التقارير إلى أن الموانئ الصينية وشركات التأمين البحري باتت أكثر حذراً بعد التحذيرات الأميركية من فرض عقوبات ثانوية على أي جهة تتعامل مع ناقلات مظلمة. لذلك، يرجح أن تكون طهران قد استجابت مؤقتاً لمطالب صينية بتشغيل نظام التتبع عند الاقتراب من الموانئ الآسيوية لتفادي تعطل تدفقات النفط، خصوصاً أن الصين تمثل أكثر من 80% من إجمالي المبيعات الإيرانية الخارجية. وبهذا التفسير، لم يكن تشغيل الأنظمة قراراً سيادياً إيرانياً بقدر ما كان استجابة تجارية اضطرارية لإرضاء الزبون الأكبر.
أما الاحتمال الثالث، والأكثر براغماتية، فيتعلق بالحسابات الاقتصادية الصرفة، فوفقاً لتقرير “كيبلر” وتحليلات “فورتكسا”، فإن التحايل على العقوبات مكلف إلى حد يلتهم جزءاً كبيراً من أرباح طهران النفطية. تشير البيانات إلى أن تشغيل الأسطول الشبح يتطلب نفقات هائلة، إذ تبلغ تكلفة استئجار ناقلة عملاقة (VLCC) نحو 100 ألف دولار يومياً، بينما تدفع إيران أضعاف هذا المبلغ للناقلات التي تقبل العمل في الظل. إضافة إلى ذلك، تضطر طهران إلى بيع النفط بأسعار منخفضة، ودفع عمولات وسطاء، وتكاليف تزوير وثائق وتبديل أعلام السفن، فضلاً عن فقدان ما بين 10 إلى 15% من القيمة النهائية للحمولة نتيجة الرحلات الطويلة والتوقفات المتكررة. وانطلاقاً من هذه المعطيات، يبدو أن إيران أجرت موازنة دقيقة بين الكلفة والمخاطرة، فقررت مؤقتاً تشغيل أجهزة التتبع لتقليل الخسائر اللوجستية ورفع السعر الذي تتقاضاه من المشترين الآسيويين.